العلاقة بين الإعجاز البلاغي، والقراءات
القرآنية
إن
المتأمِّل ليدرك العلاقة القوية بين الإعجاز البلاغي والقراءات القرآنية، حيث إن
الإعجاز البلاغي هو: وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه
الأخص به لتأدية المعنى، وقد بيَّنْتُ في المطلب السابق أن الحرفَ لا يمكن تبديله
بحرف آخر،وكذا الكلمة لا يمكن
تبديلها بكلمة أخري، وإلا تغيَّرَ المعنى([1]).
وإذا
تدبرت القراءات القرآنية لتدرك أن لكل قراءة من القراءات التي ترد في الكلمة
الواحدة أثرا في المعنى المراد بحيث لا يستقيم المعني بقراءة دون الأخرى ،فكل
قراءة بمثابة آية أخرى، ومن ثم نجد الترابط الوثيق بين القراءات، وبين الإعجاز البلاغي.
قال ابن الجزري مبينا العلاقة بين الإعجاز
البلاغي والقراءات القرآنية بعد كلامه عن فوائد اختلاف القراءات وتنوعها قال:
.... ومنها ما في ذلك من نهاية البلاغة وكمال الإعجاز وغاية
الاختصار وجمال الإيجاز، إذ كل قراءة بمنزلة الآية إذ كان تنوع اللفظ بكلمة تقوم
مقام آيات، ولو جعلت دلالة كل لفظ آية على حدتها لم يخف ما كان في ذلك من التطويل([2])
ا هـ.
وسأوضِّحُ
بمشيئة الله تعالي تلك العلاقة بين القراءات والإعجاز البلاغي من خلال مايأتي:
أولا:
1- في قول اللهU:
}
وَقَالُوا
اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ {
[البقرة/116].
2 -وفي قوله U:
}
قَالُوا
اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى
اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ {
[يونس/68]
فقد قرأ ابن
عامر"عليم قالوا" بغير واو بعد عليم ، وكذا هو في المصحف الشامي ، وقرأ
الباقون بالواو كما هو في مصاحفهم،
واتفقوا علي حذف الواو من موضع سورة يونس بإجماع القراء جميعا. ([3])
توجيه
القراءتين في موضع سورة البقرة:
قراءة "ابن عامر" "عليم قالوا"
بغير واو على الاستئناف غير معطوف علي
ما قبله ، وقد علم أن المخبر عنه بهذا القول
هو المخبر عنه بمنع ذكر الله في المساجد،والسعي في خرابها،
وقراءة
الباقين بالواو "وقالوا" عطف
جملة على مثلها . أي : عطف علي ما قبله ؛ لأن الذين أخبر الله عنهم بمنع ذلك في المساجد،
والسعي في خرابها، هم الذين قالوا:(اتخذ
الله ولدا)،فوجب عطف آخر الكلام علي أوله،لأنه كله إخبار عن النصارى ([4]).
وتأمل
معي هذا الإعجاز حيث وردت القراءتان " إثبات الواو، وحذف الواو " في
موضع سورة البقرة ،حيث إن قراءة إثبات الواو تربط الجملة بالجملة أي:تعطف على ما قبلها،وفي
هذا تأكيد للربط بلفظه الظاهر بين قوله تعالي: "وقالوا اتخذ الله ولدا "
، وما قبله من قوله U
:"
وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى" ([5]).
، وقوله I: " وقالت اليهود ليست النصارى علي شيء " ([6]). ، وقولهU
" ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعي في خرابها " ([7])،
وذلك لتعديد عقائدهم الفاسدة وأقوالهم الكاذبة علي الله ([8]).
وأما
قراءة حذف الواو، فالجملة مستأنفة، ولا يراعى ارتباطها بما تقدم ،وهو استئناف
بياني ، كأن السامع بعد أن سمع ما مر من
عجائب هؤلاء الفرق الثلاث جمعا وتفريقا تسني له أن يقول: لقد أسمعتنا من مساويهم
عجبا،فهل انتهت مساويهم أم لهم مساوئ أخري؟، لأن ما سمعناه مؤذن بأنها مساوئ لا تصدر
إلا عن فطرة خبيثة ([9])
ولذلك وردت القراءتان، حيث إن
السياق يتطلبهما ،وتجد معني لكل قراءة لا تؤديه
القراءة الأخرى.
وتأمل
السر في اتفاق القراء جميعا علي قراءة موضع سورة"يونس"بغير واو عاطفة،
لأنه ليس قبله ما يُنسق عليه،فهو ابتداء كلام واستئناف خرج مخرج التعجب من عظم
جراءتهم وقبح افترائهم([10])
.
قلت :وهذا هو الإعجاز البلاغي،حيث تجد القراءة
لا ترد إلا حيث يكون المعني مرادا،ولذا كان اتفاق القراء جميعا علي قراءة واحدة في
هذا الموضع، حيث لا يوجد قبلها ما يعطف عليها، وقد بيَّنْتُ أن الإعجاز البلاغي
هو: وضع كل حرف وكل كلمة في موضعها، فكذلك القراءة لا تجدها
إلا في موضعها ، وهذا دليل علي قوة وترابط
العلاقة بين القراءات والإعجاز البلاغي.والله أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق