المسألة
الثانية : لماذا تفلت الدول المتغطرسة الظالمة
من العقوبة، وتحل العقوبات بالدول المسلمة؟!
والجواب عن هذا السؤال من وجوه :-
الأول : أن الدول الظالمة تحل فيها
المثلات كما تحل بغيرها، فاضطراب الأمن ، والعجز الاقتصادي، وتفشي الأمراض،
والفياضانات المدمرة، والحرائق المروعة، والحروب الطاحنة، كل ذلك يحدث فيها، فقد
خاضت هذه الدول حروبا راح ضحيتها الآلاف من أبنائها، فكم فقدت أوربا من مئات
الآلاف في الحربين العالميتين، وكم فقدت أمريكا وروسيا من جنودها في السنوات الأخيرة،
من خلال الحروب التي شنتها على بعض الدول المستضعفة؛ فخرجت منها خاسئة حسيرة، تجر
أذيال الهزيمة، وكذلك من العذاب الذي يصبه الله عليهم تفَرّق الدول وذهاب ريحها
وتمزقها، فلقد كانت الإمبراطورية العظمى (بريطانيا) لا تغيب عنها الشمس، وكان الاتحاد
السوفيتي مكونا من عشرات الدول فإذاهما مشردان على موائد الدول، تمارس عليهما
الظغوط التي كانا يمارسانهما على من دونهما، أفلم يكن في زوالهما عبرة وآية؟ فكم
شردا وتجبرا، ومارسا الطغيان والظلم.
الثاني: أن الدول التي تظلم وتتعدى
ولا تنزل بها المثلات ينبغي أن ينظر إليها من باب الإملاء والإنظار والمكر، وتأخير
العذاب إلى يوم القيامة؛ ليذوقوا العذاب الأليم كاملا غير منقوص، قال تعالى: )فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ (41)
أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ(([1]). وقال تعالى:) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ(([2]) فقد لا يشاهد المتعجل العذاب،
ويظن أن تقلبهم في البلاد خير لهم.
الثالث: أن الدول المتقدمة قد تتخذ
من الاحتياطات ما تخفف به وقع هذه الكوارث، ولكنها لا تستطيع أن تمنعها، كما لا
تستطيع أن تعلم بها قبل وقوعها، وما تتوصل إليه في هذا الشأن ليس بسبب دينها – فقد
تركته وراءها ظهريا – بل لأنها بذلت الأسباب التي تحقق لها ذلك، ولو بذلها غيرها
لتحقق له مثل ما تحقق لهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل لهذا الكون سننا ونواميس،
من عمل بها وصل من خلالها إلى ما رُتّب عليها .
الرابع : أن من يقع عنده مثل هذا
الإشكال فلأنه حصر نظره في فترة زمنية واحدة فيما يحل على هذه الدول، ونظر إلى
كارثة واحدة، ولم ينظر إلى التاريخ البشري وما تتابع فيه من الآيات والنذر، ألم
يقل الله سبحانه وتعالى:) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى (
([3]) . وقال تعالى:) وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ(([4]) .
الخامس : أن العذاب إذا نزل على
المسلمين فهو رحمة بهم، وتكفير لخطاياهم، وتذكير لهم لعلهم يرجعون إلى ربهم،
فيعبدونه حق عبادته، قال الشيخ السعدي رحمه الله :( يعصونه فيدعوهم إلى بابه،
ويجرمون فلا يحرمهم خيره وإحسانه،
فإن تابوا إليه فهو حبيبهم، لأنه يحب التوابين،
ويحب المتطهرين،وإن لم يتوبوا فهو طبيبهم، يبتليهم بالمصائب؛ ليطهرهم من المعايب) ([5]). وبين سبحانه وتعالى أن ما يبتلي
به عباده المؤمنين إنما هو سبيل بشارة لهم،
وسبب مغفرة ورحمة لهم، وصلاة عليهم،
فقال عز من قائل: ) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ
إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَـئِكَ
عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (([6]). وقال جل ثناؤه:) وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (([7]). وقال تعالى:) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (([8]).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق