الثلاثاء، 25 فبراير 2014

القراءات التي وردت في بعض الكلمات في موضع دون موضع آخر، ووجه الإعجاز في ذلك



القراءات التي وردت في بعض الكلمات
في موضع دون موضع آخر، ووجه الإعجاز في ذلك:
إن الذي يعيش مع كتاب الله فهما وتدبرا لما فيه من دلالات ومعان تؤكد أنه كلام الله-- ليدرك أن هذا الكلام لا يمكن إلا أن يكون كلام الله--،وقد بذلت جهدي بقدر طاقتي البشرية متدبرا القراءات القرءانية، محاولا كشف ما بها من دلالات تؤكد الإعجاز البلاغي في تلك القراءات، ومما وجدت تأكيدا لهذا الإعجاز: أن الكلمة الواحدة قد تقع في أكثر من موضع في كتاب الله--ويَرِدُ في الكلمة أكثر من قراءة في بعض المواضع دون البعض الآخر،والكلمة هي الكلمة،لكن هذه ورد فيها قراءات ،ونفس الكلمة في موضع آخر لم يرد فيها سوى قراءة واحدة باتفاق جميع القراءات شاذها ومتواترها،وقد يتراءى للبعض أن هذا مجرد تنوع،ولكن المتدبر يدرك أن لكل قراءة في موضعها معنى لا تؤديه القراءة الأخرى، فعقدت العزم أن أجتهد في بيان ذلك،
وما أذكره ههنا ليس حصرا، ولكن نماذج فقط وسأحاول بإذن الله-- إبراز ما في القراءات من إعجاز بقدر ما يفتح الله لي من الفهم والتدبر.
وقد قسمت هذا المبحث إلى أربعة مطالب 
المطلب الأول
وجه الإعجاز البلاغي في القراءات الواردة في
قوله تعالى : }مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ { [الفاتحة/4]
أولا:اختلف القراء في قوله تعالى : ( مالك يوم الدين ) فقرأ عاصم والكسائي ويعقوب وخلف بالألف مداً ( مَالِك ) وقرأ الباقون بغير ألف قصراً ( مَلِكِ ) ( [1] ) .

ثانيا: وردت القراءتان " إثبات الألف – مالك " ، " وحذف الألف " ملك " في هذا الموضع فقط من سورة الفاتحة، بينما لم يرد في قوله تعالى:} قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ @  مَلِكِ النَّاسِ { [الناس/1، 2]  سوى قراءة واحدة باتفاق القراء " ملك " بحذف الألف ، وأيضاً اتفق القراء جميعاً على قراءة واحدة في قوله تعالى : } قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { [آل عمران/26]  بإثبات الألف فلم يرد في موضعي :  "الناس،وآل عمران " قراءة أخري لا متواترة ولا شاذة .

ثالثا: توجيه القراءتين في موضع سورة "الفاتحة" في قوله U :}مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ{ [الفاتحة/4].
1- " مالك " بإثبات الألف معناه : " المختص بالمِِلك " بكسر الميم . وهو اسم فاعل فيجمع لفظ الاسم ، ومعنى الفعل ، وهو أعم وأجمع للمعاني في المدح  ، ويدل على تكوين يوم الدين وأحداثه( [2] ) . كما يشعر بإقامة الجزاء على أوفق كيفياته بالأفعال المجزى عليها والاختصاص بالأشياء ومنافعها ، فالمالك من المِِلك بكسر الميم مأخوذٌ ، والمعنى : أنه يملك الحكم بينهم ، وفصل القضاء متفرداً به دون سائر خلقه ، فلا يملك أحد في ذلك اليوم معه حكماً كملكهم في الدنيا( [3] ).
2- وأما " ملك " بحذف الألف فهو مشتق من " المُلك " بضم الميم . ومعناه : " أن الملك لله في يوم الدين خالصاً دون ملوك الدنيا الذين صاروا يوم الدين من مُلكهم إلى أذلة وصغار ومن دنياهم في المعاد إلى خسار ، وفي القراءة فضيلة زيادة المُلك على المالك ،إذ كان معلوماً أن لا مَلِك إلا وهو مالك ، وقد يكون المَلك لا مالكاً ، فالمُلك" بضم الميم" أخص من" المِلك" بكسر الميم ،إذ"المُلك" بضم الميم هو: التصرف في الموجودات والاستيلاء، ويختص بتدبير الأمور وكل ما يتعلق بذلك ( [4] ) .
قلت : والمعنيان مقصودان في هذا الموضع ففي " يوم الدين " المُلك " بضم الميم "لله U وحده خالصاً دون ملوك الدنيا، والملِك – بكسر الميم – أي : لا يملك أحد في ذلك اليوم معه حكماً كملكهم  في  الدنيا فتجد كل قراءة من القراءتين تفيد معنى جديدا  لا بدمنه  في  تأدية المعني المراد ، ولذا فإن القراءة الثانية في كل موضع ورد فيه قراءتان هي بمثابة  آية أخرى، فكأن الحق – U– قال : ( مالك يوم الدين ) ، ( وملك يوم الدين ) . فالمعنيان مقصودان هاهنا . والله أعلم .
رابعا:  السر في اتفاق القراء على قراءة واحدة في موضعي( آل عمران ، الناس)
قد بينت السر في ورود القراءتين في موضع سورة الفاتحة بأن المقصود تعريف العباد بأن الله – سبحانه وتعالى – الملك، المالك، فلماذا لم ترد القراءتين في قوله تعالى : } قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْك{ [آل عمران/26]   .، حيث قرئت بإثبات الألف فقط.، وفي قوله U : } قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ @  مَلِكِ النَّاسِ [الناس/1، 2] . ،  حيث قرئت بحذف الألف ، والمقصود واحد؟.
أقول وبالله التوفيق
 اتفق القراء جميعاً على إثبات الألف هنا } قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْك{ ([5])،حيث إن كلمة " مالك" بمعنى: المِلك "بكسر الميم قد أضيفت إلى كلمة "الملُك " بضم الميم فأفهم لفظ المُلك المضاف إليه مالك أنه مَلك . فحصل من تلك الإضافة المعنيان المقصودان،فلم تكن هناك حاجة إلى القراءة الثانية" ملك ". حيث حصل الاكتفاء بهذا، وأفهمت الآية الأمرين.،وهذا من إعجاز القراءات القرآنية.والله أعلم. .
وأما قوله تعالى : ( قل أعوذ برب الناس @ ملك الناس ) ([6]) . حيث اتفق القراء ههنا على قراءة ملك بحذف الألف وهو يفيد معنى: المُلك" بضم الميم" ؛ فلأن قوله تعالى : ( برب الناس ) أي : مالكهم وخالقهم ، فهو مغنٍ عن الإفصاح بمالك الناس ؛ لأن الرب هو: المالك، فكأن قد قيل : قل أعوذ بمالك الناس ، وملك الناس . فاقتضى الإيجاز الاتصال ووحدة الكلام من حيث المعنى ( [7] ) .
 فحيث إن قوله تعالى : ( برب الناس ) أفادت معنى مالكهم . فلم تكن هناك حاجة إلى القراءة الثانية( مالك الناس) ، حيث إن المعنى موجود. والله أعلم.
فإن قلت : إن في قوله تعالى : } الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {[الفاتحة/2] معنى : مالك العالمين ، فلم كانت القراءتان في " مالك يوم الدين ؟
قال ابن عاشور : والأظهر أن " رب " هنا مشتق من " ربه " بمعنى رباه وَسَاسَهُ، لا من ربه بمعنى مَلَكه لأن الأول أنسب بالمقام هنا إذ المراد أنه مدبِّر الخلائق، وسائس أمورها ومبلغها غاية كمالها ، ولأنه لو حُمل على معنى المالك  ؛ لكان قوله تعالى بعد ذلك " مالك يوم الدين " كالتأكيد ،والتأكيد خلاف الأصل، ولا داعي إليه هنا إلا أن يجاب بأن " العالمين"  لا يشمل إلا عوالم الدنيا فيحتاج إلى بيان أنه ملك الآخرة كما أنه ملك الدنيا ( [8] ) ا هـ.
وقال صاحب ملاك التأويل( [9] )  : إن قوله  U" مالك يوم الدين " انفراد عما قبله بالتعريف بما لم تعرف به الآية التي قبلها من التنصيص على أنه ملك يوم الحساب، فمصرف الكلامين في الآيتين إلى مقصودين . ،فقوله تعالى : ( الحمد لله رب العالمين ) مصرفه بحسب التفضيل الوارد من أهل التفسير إلى حال الدنيا مع انسحاب معناه على الدارين ، ولكن ورد الكلام مفصلاً فقال : ( الحمد لله رب العالمين ) فمصرف هذا بسبقية المفهوم وتقييد ما بعده وما يقتضيه التناظر والتقابل إلى حال الدنيا ، ثم قال : ( مالك ، وملك يوم الدين ) في القراءتين . مصرفه إلى حال الآخرة فهذا في التفصيل ،
كما قال U : } لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ { [القصص/70].
 فلم يكن بد من الإفصاح بالصفتين فورد ذلك في القراءتين بخلاف ما في آية( آل عمران والناس) ، وأن المفهوم من رب العالمين ، الشمول لكل مخلوق، وإذا كان رب الكل ومالكهم فإن جميعهم تحت ملكه وقهره ، فلا ملك لغيره – سبحانه وتعالى – فتبين أن قوله : ( مالك يوم الدين ) لا يلائمها إلا ما ورد فيها من القراءتين ، وأن الآيات الأخرى لو قرئت بالوجهين لكان تكراراً . والله أعلم ( [10] )ا هـ.
      قلت : ومن هنا يتبين الإعجاز البلاغي في القراءات ،حيث إن الموضع الذي يريد الله فيه المعنيين ورد فيه القراءتان " مالك ، وملك " . وأما الموضع الذي قد اتضح فيه معنى إحدى القراءتين فلم ترد فيه سوى قراءة واحدة تتناسب مع المعني المقصود، وهذا دليل علي الإعجاز البلاغي في القراءات ،حيث تجد كل قراءة في موضعها الذي يتناسب مع المعني المراد ، ولم لا؟ وهي وحي منزل علي رسول الله عليهr. ،وسبحان الله منَزِّل هذا الكتاب .  والله اعلم .

الإعجازالبلاغي في القراءات الواردة في قوله تعالي
} وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ { [التوبة/100]
أولاً : القراءات الواردة في قوله تعالي:" تجري تحتها الأنهار "   قرأ جميع القراء ما عدا ابن كثير قوله تعالي:" وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار"في الآية الكريمة بحذف " مِن "وفتح تاء"تحتَها" ، وقرأ "ابن كثير" بإثبات " مِن"  وخفض تاء" تحتِها"، وهي ثابتة كذلك رسما  في المصاحف المكية ، وهذا هو الموضع الوحيد الذي ورد فيه القراءتان ، حيث يثبت جميع القراء "مِن" في المواضع الأخرى في قوله نعالي :"تجري من تحتها الأنهار" في كل ما ورد في القرآن الكريم( [11] )  في (35) موضعاً " تجري من تحتها الأنهار" ، خمسة مواضع "تجري من تحتهم الأنهار" ( [12] ) .
ثانياً : توجيه القراءتين الواردتين في موضع سورة" التوبة "بحذف " من " وإثباتها .
قال ابن الجزري: يحتمل أنه إنما لم يكتب " من " في هذا الموضع لأن المعنى : ينبع الماء من تحت أشجارها لا أنه يأتي من موضع ويجري من تحت هذه الأشجار،    وأما في سائر القرآن فالمعنى أنها تأتي من موضع وتجري من تحت هذه الأشجار ، وتكون هذه الجنات في الآية الكريمة معدة لمن ذكر تعظيماً لأمرهم وتنويهاً بفضلهم وإظهاراً لمنزلتهم لمبادرتهم التصديق بهذا النبي الكريم – عليه من الله أفضل السلام وأكمل التسليم ، ولمن تبعهم بالإحسان والتكريم. والله تعالى أعلم ( [13] ) ا هـ.
         وقال ابن عاشور : وقد خالفَتْ هذه الآية عند معظم القراء أخواتها فلم تذكر " من " مع "تحتها" في غالب المصاحف، وفي رواية جمهور القراء، فتكون خالية من التأكيد إذ ليس لحرف " من " معنى مع أسماء الظروف إلا التأكيد ويكون خلو الجملة من التأكيد لحصول ما يغنى عنه من إفادة التقوى بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي،ومن فعل"أَعَدَّ" المؤذن بكمال العناية فلا يكون المعد إلا أكمل نوعه ( [14] ) ا هـ.
وجاء في درة التنزيل : أن " من " لابتداء الغاية والأنهار أشرف مباديها والجنات التي مباديها الأنهار من تحت أشجارها أشرف من غيرها ( [15] )ا هـ.
قلت : إذن في القراءتين دليل على مكانة هؤلاء الذين مدحهم الله في الآية الكريمة وذكر أنه " رضي الله عنهم و رضوا عنه وأعد لهم جنات " وقراءة إثبات " من" تدُل على مكانتهم عند الله وتكريمهم، وقراءة حذف " من " أي: تجري تحتها الأنهار"  فتلك ميزة أخري لهم ، حيث سيجمعون بين اللذتين والنعمتين ، فالأنهار( تجري من تحت الجنات، وتجري تحت الجنات )، وتلك ميزة لهم وفضل من الله  U. والله اعلم
ثالثاً : السر في ورود القراءتين ( إثبات  " من "  في  " تجري من تحتها " ، وحـذف " مِن " في قوله :  " تجري تحتها " في هذه الآية دون غيرها، ووجه الإعجاز في ذلك ...
قد بينت فيما سبق أن القراءتين دليل على تكريم الله لهم ، حيث كانوا من السابقين إلي الدخول في دين الله واتباع نبيه محمد- r- فعند الجمع بين القراءتين تدرك مكانتهم ،حيث جمعوا بين النعيمين واللذتين ، بخلاف ما ذهب إليه البعض( [16] )   من أن حذف حرف الجر ههنا يشير إلى أن الجنات التي أعدت لهم، والأنهار التي تجري تحتها  تدُلُّ على أن تنعمهم أقل من غيرهم .
وإليك ما قاله صاحب درة التنزيل ( [17] )  قال في ذلك : فكل موضع ذكر فيه " من تحتها " إنما هو لقوم عام فيهم الأنبياء، والموضع الذي لم يذكر فيه " من " إنما هو لقوم مخصوصين ليس بينهم الأنبياء .
 واستدل على كلامه بتلك الآية الكريمة : } وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة/100] ...ثم قال:" فجعل الله مبادئ الأنهار تحت جنات أخبر أنها للصادقين والمؤمنين الذين عملوا الصالحات ومنهم الأنبياء – عليهم السلام – لا بل أولهم الأنبياء - عليهم السلام - فالمعتاد أنها أشرف الأنهار ، والآية التي في سورة براءة قد خرج الأنبياء عنها لأن اللفظ لايشتمل عليهم، فلم يخبر عن جناتهم بأن أشرف الأنهار على مجرى العادة في الدنيا تحت أشجارها كما أخبر به عن الجنات التي جعلها الله لجماعة خيارهم الأنبياء – عليهم السلام – إذ لا موضع ذكرت فيه الجنات وجرى الأنهار تحتها إلا وقد دخلتها " مِن " سوى الموضع الذي لم ينطبق ذكر الموعودين فيه على الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام ( [18] ).اهـ
قلت : إن القراءتين في الآية الكريمة لدليلٌ على مكانة هؤلاء السابقين وأنهم يتنعمون بالجنات التي " تجري من تحتها الأنهار ،الجنات التي تجري تحتها الأنهار"، وهي أشرف وأرقى أنواع التمتع والتلذذ، وتلك ميزة خاصة بهم لم يذكرها الله لغيرهم حيث إنهم هم السابقون،فكان نعيمهم مميزا لتميزهم بسبقهم، وهذا فهمناه من الجمع بين معني القراءتين.  والله أعلم.
وأما ما ذكره صاحب" درة التنزيل". فأقول وبالله التوفيق :
أولاً : لم يذكر الشيخ شيئا من قريب ولا من بعيد إلى قراءة" ابن كثير" بإثبات"مِن" ،وهي قراءة متواترة ، وثبت كتابة " مِن " في المصحف المكي ، وإنما الواضح أنه – يرحمه الله – قد بنَى كلامه على قراءة واحدة فقط، وهي حذف " من "ولم ينظر إلى قراءة الإثبات لابن كثير،فلعل هذا سهو منه(يرحمه الله)وإلا فللشيخ وقفات دقيقة مع التعبير القرآني يستفيد منها كل من يريد التدبر.
 وإن المتأمل لو نظرفى ورود القراءتين ههنا دون باقي المواضع ،لأدرك ما بينت من مكانة عظيمة لهؤلاء السابقين.
ثانيا: أما قوله بأنه حيث ورد ذكر الجنات ووردت " مِن " معها كان الكلام عاماً لعموم المؤمنين الذين فيهم الأنبياء والرسل- عليهم السلام - وغيرهم ففيهم من هو أعلى منزلة من المذكورين في آية السابقين،
أما آية سورة التوبة " فقد حذفت"مِن" لأنها مخصوصة بالسابقين المذكورين في تلك الآية، فناسب ذلك أن لا يذكر " من " ؛لأن هناك من هو أعلى منهم. ( [19] ) ا هـ
قلت : إن حكم الشيخ هذا-يرحمه الله- قد بناه على قراءة واحدة-كما بينت-، وهي حذف " مِن "، ولم يذكر قراءة " إثبات من " ولم ينظر إليها .
 ثم إن هناك موضعا قد ذكر الله فيه "تجري من تحتها الأنهار"ولا يتوقع أن يكون بينهم نبي أو رسول وذلك في قوله تعالى :}  أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ  {[آل عمران/136].
فقد ذكر الله تعالى قبل تلك الآية الكريمة قوله تعالى:}وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ{[آل عمران/135]، ثم أتي باسم الإشارة في قوله تعالي: }أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ{[آل عمران/136]. وفي هذه الآية لايقول أحد بأن هؤلاء المذكورين في تلك الآية بينهم أنبياء أو رسل – عليهم السلام- ،وعليه ،فلا يمكن القول بما ذهب إليه الشيخ –يرحمه الله- ،وإنما مابيَّنَّاه هو الذى يَطمئِنُّ إليه القلب .والله أعلم.
وجه الإعجاز البلاغي في ذلك
عندما نتدبر الآيات التي ورد فيها قوله"جنات تجري من تحتها الأنهار،وقوله "جنات تجري من تحتهم الأنهار([20]) ولم يرد في أي موضع من تلك المواضع قراءة أخري بحذف "من " إلا في موضع سورة"التوبة"لأدركت أن الحقI قد خص هؤلاء السابقين بنعيمٍ متميز لتميزهم بسَبْقهم ،وقد أنزل الحقI في كتابه القراءتين بيانًا لمكانتهم ، وما أعده الله لهم من نعيم، وما هذا إلا دلالة علي إعجاز القراءات، حيث تؤدي كل قراءة معني غير الأخرى، وكأن الله U ذكر الآية مرتين، وهذا هو الإعجاز البلاغي.  والله أعلم



( [1])- انظر:النشر في القراءات العشر لابن الجزري 1|271.
( [2])- انظر:الكشف عن وجوه القراءات السبع مكي بن أبي طالب 1/26 .
( [3])- التحرير والتنوير لابن عاشور 1/ 175 .
( [4])- ينظر في ذلك الطبري 1/ 95 ، التحرير والتنوير لابن عاشور 1/ 175 ، والكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها – مكي بن أبي طالب 1/ 26 بتصرف .
([5]) .آل عمران ( 26) .
([6]) الناس (1،2) .
( [7])- ملاك التأويل – أحمد الغرناطي – تحقيق سعيد الفلاح 1/ 170 بتصرف .
( [8])- التحرير والتنوير لابن عاشور 1|166،167.
( [9])- هو:أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفى الغرناطى كان مخلصا في علمه،واشتهر بتضلعه في اللغة ،ورسوخ القدم في القراءات،وغير ذلك من العلوم الأخرى ت 708هـانظر:شذرات الذهب 6/16.
( [10])-انظر: ملاك التأويل – أحمد الغرناطي 1/ 170 ، 171 بتصرف .
( [11])- النشر في القراءات العشر لابن الجزري 2/ 280
( [12])- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم محمد فؤاد عبد الباقي 152 ، 153
( [13])- النشر في القراءات العشر لابن الجزري 2/ 280
( [14])- التحرير والتنوير ابن عاشور 6/ 19 .
( [15])- درة التنزيل وغرة التأويل – الخطيب الاسكافي 102
( [16])- الذي ذهب إلى ذلك: الخطيب الاسكافي صاحب كتاب درة التنزيل وغرة التأويل انظر ص 102، وتبعه في النقل عنه كل من د/ فاضل السامرائي في كتابه التعبير القرآني 146 ، 147 ، د/ صلاح الخالدي في كتابه الإعجاز البياني 198،199.
( [17])- هو: محمد بن عبد الله المعروف بالخطيب الإسكافي أبو عبد الله الأديب اللغوي  ت 420هـ1026م انظر:بغيةالوعاة 1/149،150.
( [18])- درة التنزيل وغرة التأويل – الخطيب الإسكافي102 بتصرف.
( [19])- درة التنزيل وغرة التأويل – الخطيب الاسكافي 102
( [20])- عدد الآيات (41152،153)آية لم يختلف القراء إلا في موضع سورة التوبة انظر:المعجم المفهرس 152،153.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق