- نظريات
نشأة اللغة الإنسانية الأولى
اختلف الباحثون قديما و حديثا في موضوع
نشأة اللغة الإنسانية الأولى ، و مدى نجاعة دراسة هذا الموضوع بين معارضين للبحث
فيه إلى درجة التحريم ، باعتباره
موضوعا لا يمكن التحقق من صحة وقائعه ، و بين
مؤيدين بل و مصرين على مثل هذه البحوث اللغوية التي تنبع من التراث المعرفي .
و قد تعددت
الآراء و الفرضيات التي تفسر نشأة اللغة الإنسانية الأولى و من أهمها :
1 - نظرية الإلهام و الوحي و التوقيف :
و تذهب هذه
النظرية إلى أن الله الخال أوحى إلى الإنسان الأول و أوقفه على أسماء الأشياء بعد
أن علمه النطق ، و قد ذهب إلى هذا الرأي في العصور القديمة الفيلسوف اليوناني
هيراقليط ( ت 480 ق م ) و في العصور الحديثة طائفة من العلماء على رأسها لامي و
الفيلسوف دونالد و من علماء المسلمين في العصور الوسطى أبو عثمان الجاحظ ( ت 255 هـ ) و أبو الحسن الشعري ( ت 324 هـ )
و أحمد بن فارس ( ت 395 هـ ) الذي يرى أن لغة العرب توقيفية .
قال عبد
المالك بن حبيب (( كان اللسان الأول الذي نزل به آدم من الجنة عربيا ، إلى أن
بَعُد العهد و طال صار سريانيا ، و كان يشاكل اللسان العربي إلا أنه محرف ... ))
و يرى
علماء العبرانية و تابعهم كثير من مشاهير علماء النصرانية و غيرهم أن اللغة
العبرانية هي اللغة التي فتق الله بها لسان آدم عليه السلام حتى انتهت إلى ابراهيم
عليه السلام . و يعتمد العلماء المؤيدون
لهذه النظرية على ما ورد بهذا الصدد في العهد القديم من الإنجيل ، و يضيفون إلى ذلك ثلاثة وجوه :
1 – أنه
سبحانه و تعالى ذم قوما في إطلاقهم أسماء غير توقيفية في قوله تعالى " إن هي
إلا أسماء أنتم و آباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان .. " ( * ) و ذلك يقتضي أن باقي الأسماء
توقيفية . ( 1 )
( * ) سورة النجم ، الآية 23
( 1 ) مصطفى صادق الرافعي ، تاريخ آداب العرب ، ج 1 ،
ط 5 ، ( دار الكتاب العربي ، بيروت ، 1999 ) ، ص 57 ، 58 ، 59 ؛ أحمد شامية ، محاضرات في فقه اللغة ، اللغة العربية و آدابها
، الجزائر ، ص 55 ، 56 - بتصرف
2 – قوله تعالى " و من آياته خلق
السموات و الأرض و اختلاف ألسنتكم و ألوانكم "( * ) و الألسنة غير مرادة لعدم
اختلافها ، فالمراد هي
اللغات .
3 – و هو
عقلي فلو كانت اللغات اصطلاحية لاحتيج في التخاطب بوضعها إلى اصطلاح آخر من لغة أو
كتابة يعود إليه الكلام ، فلابد من الانتهاء إلى التوقيف .
و قدم ابن
جني تفسيرا آخر هو أن الله تبارك و تعالى : علم آدم أسماء جميع المخلوقات بجميع
اللغات : العربية و السريانية و الفارسية و العبرانية و الرومية و غير ذلك من سائر
اللغات ، فكان هو و ولده يتكلمون بها ، ثم إن ولده تفرقوا في الدنيا و علق كل منهم
بلغة من تلك اللغات فغلبت عليه و اضمحل عنها ما سواها .
أما
الخفاجي فيذهب إلى أن التوقيف الإلهي
مستند إلى لغة سابقة له يفهم بها المقصود بافتراض أن المواضعة تقدمت بين آدم و
الملائكة " و علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني
بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين . قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت
العليم الحكيم . قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم
إني أعلم غيب السموات و الأرض و أعلم ما تبدون و ما كنتم تكتمون " ( ** )
2 - نظرية محاكاة أصوات الطبيعة :
و تذهب إلى
أن اصل اللغة محاكاة أصوات الطبيعة كأصوات الحيوانات و أصوات مظاهر الطبيعة و التي
تحدثها الأفعال عند وقوعها ، ثم تطورت الألفاظ الدالة على المحاكاة ، و ارتقت بفعل
ارتقاء العقلية الإنسانية و تقدم الحضارة .
و ذهب إلى
هذه النظرية ابن جني قديما و ويتني حديثا في القرن 19 ( 1 )
حيث يقول ابن جني (( و ذهب بعضهم إلى أن
أصل اللغات كلها ، إنما هو أصوات المسموعات كدوي البحر و خرير الماء و نعيق الغراب ... ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما
بعد )) ، و قد كان ابن جني معجبا بهذه النظرية حيث أفرد لها باب في كتاب الخصائص
سماه ( باب في امساس الألفاظ أشباه المعني ) قال فيه :
(( و لو لم
يتنبه على ذلك إلا بما جاء عنهم من تسميتهم الأشياء بأصواتها : كالخازبار لصوته و
البط لصوته ..)) ( 2 )
( * ) الآية 22 ، سورة
الروم
( ** ) الآيات 31 ، 32 ،
33 ، سورة البقرة
( 1 ) مصطفى صادق
الرافعي ، المرجع السابق ، ص 60 ، 61 ، 62 ، 63 ؛ أحمد شامية ، محاضرات في فقه اللغة مرجع سابق ص 56 ، 57
( 2 ) أبو الفتح عثمان
بن جني ، الخصائص ، ج 1 ، تحقيق محمد علي
النجار ، المكتبة العلمية ، ص 46
و الواقع
أن لهذه النظرية ما يؤيدها ، فالطائر المسمى في الانجليزية CUOKOO ، إلى جانب الهرة المسماة ( مو ) في المصرية القديمة .
و من أهم
أدلتها :
1 – أن
المراحل التي تُقررها بصدد اللغة الإنسانية ، تتفق في كثير من وجوهها مع مراحل
الارتقاء اللغوي عند الطفل ، فقد ثبت أن الطفل في المرحلة السابقة لمرحلة الكلام
يلجأ في تعبيره الإرادي إلى محاكاة أصوات الطبيعة ، فيحاكي الصوت قاصدا التعبير عن
مصدره ، أو عن أمر يتصل به .
لكن يوجه
لهذه النظرية انتقاد أساسي ، فهي من جهة تعجز عن تفسير مبدأ كيفية حكاية الأصوات
في آلاف الكلمات التي لا نرى الآن أية علاقة بين معناها و صوتها ، فما العلاقة بين
لفظ الكتاب و معناه مثلا ؟
3 – نظرية
الاتفاق و المواضعة و الاصطلاح :
تقرر هذه
النظرية أن اللغة ابتدعت و استحدثت بالتواضع و الاتفاق ، و ارتجلت ألفاظها ارتجالا
، و مال الكثير من العلماء و المفكرين لهذه النظرية منهم الفيلسوف اليوناني
ديموقريط و أرسطو و المعتزلة ، و قال بها من المحدثين أيضا آدم سميث الانجليزي .
و ليس لهذه
النظرية أي سند عقلي أو نقلي أو تاريخي بل إن ما تقرره يتعارض مع النواميس العامة
التي تسير عليها النظم الاجتماعية ، و عهدنا بهذه النظم أنها لا تخلق خلقا بل
تتكون بالتدريج من تلقاء نفسها ، إضافة إلى ذلك فالتواضع على التسمية يتوقف في
كثير من مظاهره على لغة صوتية يتفاهم بها المتواضعون فبأي لغة تواصل هؤلاء .
و من هنا فإنه لا توجد نظرية واحدة يمكن
أن تفسر نشأة اللغة الإنسانية و أن ثلاث نظريات متكاملة يمكن أن تفسر ذلك . فالله
سبحانه و تعالى أهّل الإنسان و أعطاه القدرات الخاصة ، فألهمه لكي ينطق و ينشئ اللغة
، و بهذه القدرة استطاع الإنسان الأول أن يضع كلماته و جمله الأولى ، بالإصغاء و
الملاحظة و التقليد لما يوجد حوله في الكون ، و لما تقدم الإنسان و ارتقي في
التفكير ، بدأ بوضع كلمات جديدة بالتواطؤ و الاصطلاح الذي ما زال مستمرا إلى يومنا
هذا بل إلى قيام الساعة .( 1 )
( 1 ) مصطفى صادق الرافعي ، مرجع سابق ، ص 63 ، 64 ؛
أحمد شامية ، محاضرات في فقه اللغة
مرجع سابق ص 57 ، 58
المبحث الأول : نشأة اللغة العربية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق