الأربعاء، 26 فبراير 2014

- نظريات نشأة اللغة الإنسانية الأولى



-  نظريات نشأة اللغة الإنسانية الأولى


       اختلف الباحثون قديما و حديثا في موضوع نشأة اللغة الإنسانية الأولى ، و مدى نجاعة دراسة هذا الموضوع بين معارضين للبحث فيه إلى درجة التحريم ، باعتباره موضوعا لا يمكن التحقق من صحة وقائعه ، و بين مؤيدين بل و مصرين على مثل هذه البحوث اللغوية التي تنبع من التراث المعرفي .
و قد تعددت الآراء و الفرضيات التي تفسر نشأة اللغة الإنسانية الأولى و من أهمها :
1 - نظرية الإلهام و الوحي و التوقيف :
و تذهب هذه النظرية إلى أن الله الخال أوحى إلى الإنسان الأول و أوقفه على أسماء الأشياء بعد أن علمه النطق ، و قد ذهب إلى هذا الرأي في العصور القديمة الفيلسوف اليوناني هيراقليط ( ت 480 ق م ) و في العصور الحديثة طائفة من العلماء على رأسها لامي و الفيلسوف دونالد و من علماء المسلمين في العصور الوسطى أبو عثمان الجاحظ   ( ت 255 هـ ) و أبو الحسن الشعري ( ت 324 هـ ) و أحمد بن فارس ( ت 395 هـ ) الذي يرى أن لغة العرب توقيفية .
قال عبد المالك بن حبيب (( كان اللسان الأول الذي نزل به آدم من الجنة عربيا ، إلى أن بَعُد العهد و طال صار سريانيا ، و كان يشاكل اللسان العربي إلا أنه محرف ... ))
و يرى علماء العبرانية و تابعهم كثير من مشاهير علماء النصرانية و غيرهم أن اللغة العبرانية هي اللغة التي فتق الله بها لسان آدم عليه السلام حتى انتهت إلى ابراهيم عليه السلام .  و يعتمد العلماء المؤيدون لهذه النظرية على ما ورد بهذا الصدد في العهد القديم من الإنجيل  ، و يضيفون إلى ذلك ثلاثة وجوه :
1 – أنه سبحانه و تعالى ذم قوما في إطلاقهم أسماء غير توقيفية في قوله تعالى " إن هي إلا أسماء أنتم و آباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان .. " ( * ) و ذلك يقتضي أن باقي الأسماء توقيفية . ( 1 ) 


 
( * )  سورة النجم ، الآية 23
( 1 )  مصطفى صادق الرافعي ، تاريخ آداب العرب ، ج 1 ، ط 5 ، ( دار الكتاب العربي ، بيروت ، 1999 ) ، ص 57 ، 58 ، 59 ؛ أحمد شامية ،  محاضرات في فقه اللغة ، اللغة العربية و آدابها ، الجزائر ، ص 55 ، 56 - بتصرف
2 – قوله تعالى " و من آياته خلق السموات و الأرض و اختلاف ألسنتكم و ألوانكم "( * )  و الألسنة غير مرادة لعدم اختلافها ، فالمراد هي اللغات .
3 – و هو عقلي فلو كانت اللغات اصطلاحية لاحتيج في التخاطب بوضعها إلى اصطلاح آخر من لغة أو كتابة يعود إليه الكلام ، فلابد من الانتهاء إلى التوقيف .
و قدم ابن جني تفسيرا آخر هو أن الله تبارك و تعالى : علم آدم أسماء جميع المخلوقات بجميع اللغات : العربية و السريانية و الفارسية و العبرانية و الرومية و غير ذلك من سائر اللغات ، فكان هو و ولده يتكلمون بها ، ثم إن ولده تفرقوا في الدنيا و علق كل منهم بلغة من تلك اللغات فغلبت عليه و اضمحل عنها ما سواها .
أما الخفاجي فيذهب إلى أن  التوقيف الإلهي مستند إلى لغة سابقة له يفهم بها المقصود بافتراض أن المواضعة تقدمت بين آدم و الملائكة " و علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين . قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم . قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات و الأرض و أعلم ما تبدون و ما كنتم تكتمون " ( ** )
2 - نظرية محاكاة أصوات الطبيعة :
و تذهب إلى أن اصل اللغة محاكاة أصوات الطبيعة كأصوات الحيوانات و أصوات مظاهر الطبيعة و التي تحدثها الأفعال عند وقوعها ، ثم تطورت الألفاظ الدالة على المحاكاة ، و ارتقت بفعل ارتقاء العقلية الإنسانية و تقدم الحضارة .
و ذهب إلى هذه النظرية ابن جني قديما و ويتني حديثا في القرن 19 ( 1 ) 
        حيث يقول ابن جني (( و ذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها ، إنما هو أصوات المسموعات كدوي البحر و خرير الماء  و نعيق الغراب ... ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد )) ، و قد كان ابن جني معجبا بهذه النظرية حيث أفرد لها باب في كتاب الخصائص سماه ( باب في امساس الألفاظ أشباه المعني ) قال فيه :
(( و لو لم يتنبه على ذلك إلا بما جاء عنهم من تسميتهم الأشياء بأصواتها : كالخازبار لصوته و البط لصوته ..)) ( 2 ) 


 
( * ) الآية 22 ، سورة الروم
( ** ) الآيات 31 ، 32 ، 33 ، سورة البقرة
( 1 ) مصطفى صادق الرافعي ، المرجع السابق ، ص 60 ، 61 ، 62 ، 63 ؛ أحمد شامية ،  محاضرات في فقه اللغة مرجع سابق ص 56 ، 57
( 2 ) أبو الفتح عثمان بن جني  ، الخصائص ، ج 1 ، تحقيق محمد علي النجار ، المكتبة العلمية ، ص 46
و الواقع أن لهذه النظرية ما يؤيدها ، فالطائر المسمى في الانجليزية CUOKOO ، إلى جانب الهرة المسماة ( مو ) في المصرية القديمة .
و من أهم أدلتها :
1 – أن المراحل التي تُقررها بصدد اللغة الإنسانية ، تتفق في كثير من وجوهها مع مراحل الارتقاء اللغوي عند الطفل ، فقد ثبت أن الطفل في المرحلة السابقة لمرحلة الكلام يلجأ في تعبيره الإرادي إلى محاكاة أصوات الطبيعة ، فيحاكي الصوت قاصدا التعبير عن مصدره ، أو عن أمر يتصل به .
لكن يوجه لهذه النظرية انتقاد أساسي ، فهي من جهة تعجز عن تفسير مبدأ كيفية حكاية الأصوات في آلاف الكلمات التي لا نرى الآن أية علاقة بين معناها و صوتها ، فما العلاقة بين لفظ الكتاب و معناه مثلا ؟
3 – نظرية الاتفاق و المواضعة و الاصطلاح :
تقرر هذه النظرية أن اللغة ابتدعت و استحدثت بالتواضع و الاتفاق ، و ارتجلت ألفاظها ارتجالا ، و مال الكثير من العلماء و المفكرين لهذه النظرية منهم الفيلسوف اليوناني ديموقريط و أرسطو و المعتزلة ، و قال بها من المحدثين أيضا آدم سميث الانجليزي .
و ليس لهذه النظرية أي سند عقلي أو نقلي أو تاريخي بل إن ما تقرره يتعارض مع النواميس العامة التي تسير عليها النظم الاجتماعية ، و عهدنا بهذه النظم أنها لا تخلق خلقا بل تتكون بالتدريج من تلقاء نفسها ، إضافة إلى ذلك فالتواضع على التسمية يتوقف في كثير من مظاهره على لغة صوتية يتفاهم بها المتواضعون فبأي لغة تواصل هؤلاء .
       و من هنا فإنه لا توجد نظرية واحدة يمكن أن تفسر نشأة اللغة الإنسانية و أن ثلاث نظريات متكاملة يمكن أن تفسر ذلك . فالله سبحانه و تعالى أهّل الإنسان و أعطاه القدرات الخاصة ، فألهمه لكي ينطق و ينشئ اللغة ، و بهذه القدرة استطاع الإنسان الأول أن يضع كلماته و جمله الأولى ، بالإصغاء و الملاحظة و التقليد لما يوجد حوله في الكون ، و لما تقدم الإنسان و ارتقي في التفكير ، بدأ بوضع كلمات جديدة بالتواطؤ و الاصطلاح الذي ما زال مستمرا إلى يومنا هذا بل إلى قيام الساعة .( 1 ) 




 
 ( 1 ) مصطفى صادق الرافعي ، مرجع سابق ، ص 63 ، 64   ؛  أحمد شامية ،  محاضرات في فقه اللغة مرجع سابق ص 57 ، 58 
المبحث الأول  : نشأة اللغة العربية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق