الأربعاء، 26 فبراير 2014

لغة قريش اثر مكة وعمل قريش على اللغة العربية



تغلب لغة قريش  

       لم تتغلب لغات الشمال على لغات الجنوب فحسب ، و إنما استطاعت كذلك أن تتبرأ مما جنته عليها الأمية و الهمجية و البداوة من اضطراب المنطق و اختلاف الدلالة و تعدد الوضع ، فتغلبت منها لغة قريش على سائر اللغات لأسباب دينية و اقتصادية     و اجتماعية أهمها : ( 1 )
1 - الأسواق :
 و كان العرب يقيمونها في أشهر السنة للبيع و التسوق ، و ينتقلون من بعضها إلى بعض ، فتدعوهم طبيعة الاجتماع إلى المقارضة بالقول و المفاوضة في الرأي ، و المبادهة بالشعر ، و المباهاة بالفصاحة ، و المفاخرة بالمحامد و شرف الأصل ، فكان من ذلك للعرب معونة على توحيد اللسان و العادة و الدين و الخلق ، إذ كان الشاعر أو الخطيب إنما يتوخى الألفاظ العامة و الأساليب الشائعة قصدا إلى إفهام سامعيه ، و طمعا في تكثير مشايعيه ، و الرواة من ورائه ينشرونه في الأنحاء ، فتنتشر معه لهجته و طريقته        و فكرته . و أشهر هذه الأسواق عكاظ ، و مجنة و ذو المجاز( * ) و أولاهن أشهر       و أقوى أثرا في تهذيب العربية و كانت تقوم هلال ذي القعدة و تستمر إلى العشرين منه ، فتفد إليها زعماء العرب و أمراء القول للمتاجرة و مفاداة الأسرى و أداء الحج ، و كانوا يتوافدون عليها من كل فج لأنها متوجههم إلى الحج ، و لأنها تقام في الأشهر الحرم       و ذلك سر قوتها و سبب شهرتها .
2 – أثر مكة و عمل قريش :
كان لموقع مكة أثر بالغ في وحدة اللغة و نهضة العرب ، لأنها كانت في النصف الثاني من القرن السادس محطا للقوافل الآتية من الجنوب تحمل السلع و التواجر من الهند       و اليمن ، فيبتاعها المكيون و يصفونها في أسواق الشام و مصر و كانت قوافل مكة التجارية آمنة لحرمة البيت و مكانة قريش و زعامتهم في الحج و رياستهم عكاظ        و إيلافهم رحلة الشتاء إلى اليمن و رحلة الصيف إلى حوران فكانوا اشد الناس بالقبائل


 
( 1 ) أحمد حسن الزيات ، تاريخ الأدب العربي ، ط 24 ، ( دار المعرفة ، بيروت ) ،  ص  15 ، 16 ، 17
( * ) عكاظ قرية بين نخلة و الطائف و اتخذت سوقا سنة 540م ثم بقيت في الإسلام إلى ان نهبها الخوارج سنة 129 هـ و مجنة موضع اسفل مكة على أميال منها ، و ذور المجاز بمنى خلف عرفات .

ارتباطا ، و أكثرهم بالشعوب اختلاطا ، كانوا يختلطون بالحبشة في الجنوب و بالفرس في الشرق و بالروم في الشمال ثم كانوا على أثارة من العلم بالكتب المنزلة :باليهودية في يثرب و ما جاورها من أرض خيبر و تيماء و بالنصرانية في الشام و نجران و الحيرة ، فتهيأت لهم بذلك الوسائل لثقافة اللسان و الفكر ، ثم سمعوا المناطق المختلفة ، و تدبروا المعاني الجديدة ، و نقلوا الألفاظ المستحدثة ، و اختاروا لغتهم من أفصح اللغات ثم أخذ الشعراء يؤثرونها و ينشرونها حتى نزل بها القرآن الكريم فأتم لها الذيوع و الغلبة .( 1 )   و يعد القرن السابق لنزول القرآن الكريم فترة تطور مهمة للعربية الفصيحة ، و صلت بها إلى درجة راقية ، و يدل على ذلك ما وصل إلينا على ألسنة الرواة من الشعر و النثر الجاهليين . ( 2 ) و يذهب علماء اللغة إلى أن لهجات الغرب و الوسط تقاربت حتى صارت في أصفى صورها عند قبائل أعاريب نجد ، و ليس المراد بذلك بالضرورة كبار القبائل ، بل إن اللهجة العربية التي يفهمها اكبر عدد من العرب وجدت عند بطون من غطفان و هوازن و تميم ، و جدير بالذكر أن السيدة آمنة أم رسول الله صلى الله عليه    و سلم اختارت أن تبعث بولدها الرضيع إلى منازل بني سعد بن بكر و هم من هوازن حتى تتعود أذنه النطق السليم ، و من بطون القبائل النجدية تلك كانت غالبية الوافدين على اسواق الحجاز و أعدادهم الكثيرة هي التي جعلت اللهجة النجدية اشيع اللهجات على الألسن في سوق عكاظ ، و تلك اللهجة النجدية من العربية اصبحت شيئا فشيئا لغة عامة يفهمها الناس من كل القبائل. إذن فالقرشيون أولئك التجار الأذكياء عرفوا كيف ينتزعون من أعاريب نجد شرف وضع اسمهم على هذه اللهجة التي نشأت في بلاد غيرهم ، فنسبت إليهم العربية الفصحى ، و لم يقل القرآن الكريم إنها لسان قريش ، بل قال إنها لسان عربي مبين ، و لكن القرشيين بسيطرتهم السياسية على أمة الإسلام نسبوها إلى أنفسهم . و مهما يكن من أمر فإن قريشا ذهبت بالمجد كله ، لأن الاتجاه العام بعد الإسلام كان يتجه إلى تعظيم قريش من باب المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم و البر بأهله ، فقال الناس إن قريشا أبلغ العرب و خلطوا بذلك بين محمد ( ص ) و قبيله ، فإنه كان فعلا أبلغ العرب ، و لكن قريشا لم تكن أبلغها و لا أشعرها ، و لا أعلمها ، فلم يكن لقريش شاعر ذو قدر يقارن بشعراء غيرها من القبائل حتى نجم فيها عمر بن أبي ربيعة و هو شاعر كبير و لكنه في النهاية لا يُعد من الفحول ( 3 )
( 1 ) أحمد حسن الزيات ، مرجع سابق  15 ، 16 ، 17
( 2 ) الموسوعة العربية ، 2004
( 3 ) حسين مؤنس ، تاريخ قريش ( دراسة في تاريخ اصغر قبيلة عربية جعلها الله أعظم قبيلة في تاريخ البشر ) ، ط 1 ، ( العصر الحديث للنشر و التوزيع ، 2002 ) ،   ص 203 ، 204 ، 205 ، 206
       و يقول ابن خلدون في المقدمة عن لغة قريش  :
.. و لهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية ، و أصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم ، ثم من اكتنفهم من ثقيف و هُذيل و خُزاعة ، و بني كِنانة و غطفان و بني أسد و بني تميم .
و أما من بَعُد عنهم من ربيعة و لخم و جُذام و غسّان و إياد و قضاعة و عرب اليمن المجاورين لأمم الفرس و الروم و الحبشة فلم تكن لغتهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم .
و على نِسبة بُعدهم من قريشكان الاحتجاج بلغاتهم في الصحة و الفساد عند أهل صناعة العربية . ( 1 )




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق