الأحد، 23 فبراير 2014

تعريف التيار العقلاني النقدي

تعريف التيار العقلاني النقدي ظهر هذا التيار بشكل واضح في أعقاب الهزيمة العسكرية للانظمة الثورية العربية في حرب 1967.وكانت الحضارة الغربية قد دخلت في ازمة منذ منتصف الستينات من القرن الماضي بعد وصول منظومة الحداثة الغربية الى طريق مسدود ،وتناول العديد من المفكرين الغربيين الجوانب المظلمة في الحضارة الحديثة التي اسفرت عن خوض حربين عالميتين، وموت ملايين البشر، وانتاج أسلحة الدمار الشامل، وهيمنة أجهزة الدولة الامنية والتربوية والاعلامية على الناس، وعلى عقولهم وحياتهم الخاصة وتلوث البيئة، وظهور اتجاهات مابعد الحداثة في الفكر والمعرفة. وتبلور الفكر النقدي الغربي منذئذ في نقد فكر عصر التنوير في دراسات كثيرة .وكان من أهمها كتاب هربرت ماركوز(1898ـ 1979) (الانسان ذو البعد الواحد) الصادر سنة 1965الذي مزج فيه بين التحليل الماركسي والتحليل النفسي الفرويدي في دراستة للحضارة الغربية . واعاد كثير من المؤرخين كتابة تاريخ الحضارة الغربية بروح نقدية، أظهرت الجرائم التي ارتكبها الغرب في آسيا وافريقيا، ومدى النهب لثروات هاتين القارتين الذي مارسه الغرب الاستعماري . وركزت دراسات اخرى على نقد نظريات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وساهمت حركة اليسار الجديد في الغرب في تعزيز الفكر النقدي. تأثر المثقفون العرب بهذا التيار العقلاني النقدي الغربي، وتدنى اعجابهم بالحداثة الغربية، ووجهوا اليها سهام نقدهم الجذري . واعتبر بعضهم الماركسية شكلا من اشكال نقد الحداثة، مثلما اعتبر آخرون الادب الرومانسي ومسرح العبث تعبيرا عن الاحتجاج الغربي على الطريق المسدود امام الحضارة الغربية المعاصرة ، وعد بعضهم الاصولية الدينية امتدادا جماهيريا لهذا الاتجاه الفكري ، واتضح فكر مابعد الحداثة في الغرب في رفضه للشمولية التي مثلها هيغل والنظريات الكلية في التاريخ ، والعلوم الاجتماعية، والتركيز على الجزئيات والشؤون المحلية ، وفي نبذه لليقين المعرفي ورفض المنطق التقليدي، وفي الالحاح على اسقاط نظام السلطة الفكرية في المجتمع ، وفي الجامعة وفي الادب والفن والعلوم الاجتماعية والانسانية. وقد استثمر اتباع التيار العقلاني النقدي من العرب تطور العلوم الانسانية في تفكيك بنية الوعي هذا التفكيك الذي يتجاوز الحدود المرسومة عادة بين من في السلطة ومن في المعارضة ، او بين الاتجاهات الديمقراطية ـ الحداثية والاتجاهات الاسلامية، ويزيل الاوهام التي لدى كل فريق عن نفسه وعن الاخر، وهي اوهام تحول دون نقد كل فريق لنفسه ودون فهمه لمنهجيته في التفكير. كان صادق جلال العظم من رواد هذا التيار بصدور كتابه( نقد الفكر الديني) سنة 1968الذي اثار احتجاج الاوساط الدينية المحافظة وتلاه كتاب حسن صعب (تحديث العقل العربي : دراسات حول الثورة الثقافية للتقدم العربي في العصر الحديث) الذي صدر سنة 1969وتبنى صعب نظرية التحديث الغربية التي تتلخص في المبادىء الاساسية التالية: الحرية الانسانية، والتجريبية العلمية، والتنظيمية العقلانية، والابداعية الفكرية. وكان عبد الله العروي في المغرب من بناة هذا التيار العقلاني النقدي سواء في دراساته التاريخية ام الثقافية ، يرى العروي ان (الثقافة العربية في دلائلها الكلاسكية وفي اكثر دلائلها الحديثة المعاصرة ، تكاد ان تكون معارضة نقطة نقطة للثقافة الليبرالية ، ويوجه نقده لكتابة التاريخ عن العرب في العصور الاسلامية المختلفة , ويقول (في رؤية المؤرخ العربي الكلاسيكي يبدو التاريخ لاكسلسة متوالية وانما كتجميع تكرارات او اعادات ) ويرى العروي ان كل (عمل تاريخي يكون دائما معلقا ، غير مبتوت فيه كل حكم باق في التداول . وهذا المبدأ هوفي آن واحد اساس التاريخانية والديمقراطية والعلم الحديث ) وعلى الصعيد الثقافي يرى (ان عقبة التقدم في مجتمع تقليدي ليست فقط داخلية ، هي النتيجة المركبة من تاثير خارجي ، ماثل دائما كتهديد ، ومن رد فعل خاص بالمجتمع موضوع البحث . وسار على هذا الخط في نقد الكتابة التاريخية العربية عزيز العظمة . وحدد هدفه من تأليف كتابه (الكتابة التاريخية والمعرفة التاريخية : مقدمة في اصول صناعة التاريخ العربي )بقوله : (فهذا الكتاب محاولة في اعطاء التراث حقه في الخصوصية والتميز المطلقين ، واعادة التوكيد على ماضوية الماضي واكتفائه بنفسه ، وفرضه على كل ما يصدر عنه شروط وضوابط تختص به ، بما هو ثقافة متكاملة ليست بحاجة لنا لكي ننقذها ماضويتها ) والهدف منه (تبيان اسس كتابة التاريخ في حقل ثقافي وتاريخي محدد ومعين ، وذلك بناء على المحور الاساسي الذي ينتظم هذا الكتاب: محور المعقولية .. المعقولية التي تصف الاشياء في الموقع الذي تحتله في مكان وزمان معينين ) اما هشام جعيط فيرى ان اولوية العمل والسياسة على الفكر والمعرفة والثقافة، من عوامل الازمة الفكرية عن العرب . والفكر في نظره ، مكتسب .والحيوية الثقافية كانت في الخطاب الشفوي الذي هو امتداد لتقليد عربي قديم .ويدين جعيط الجامعات العربية حيث يختفي الطموح الفكري وتسود الاحكام المسبقة المناقضة للتفكير الحر ، ويذهب الى القول انه مقتنع بأن التجديد في الفكر العربي سيأتي من المغرب العربي وليس من المشرق لان . المشرق وصل الى طريق مسدود فاصيب الفكر بالجمود والتشويه . وساهم استبداد الدولة وتسلطها في القضاء على كل ممارسة حرة للفكر ، كما ان الفكر في المشرق لم يتلقح مباشرة بالثقافة الغربية ، وكان انغماسه بالحداثة العالمية انغماسا زائفا ومشوشاً ، ورافقه رؤية زائفة للتاريخ العربي القديم . وهو يدعو المفكرين العرب الى الاخذ بالنقد العلمي والانثروبولوجيا والفلسفة التاريخية من اجل ايقاظ الضمير العربي والاسلامي مثلما يدعوهم الى رفض الايديولوجيا ت القمعية والسطحية والقبول بالفكر الحر والمنفتح . وينقد ميل العرب الى استقبال اخر ما يكتشفونه والحماس الشديد له :(فاذا كانوا حداثيين احتقروا كل ما عدا الحداثة ، واذا كانوا ثوريين تمسكوا بالثورة دون سواها ، واذا كانوا نقاداً غداً كل فكر بناء للمستقبل هباء ) ويعد هشام شرابي من قادة هذا التيار العقلاني النقدي فكتابه مقدمات لدراسة المجتمع العربي الصادر سنة 1975 من المؤلفات التي تناولت المجتمع العربي بالتحليل ، وابرزت الثقافة والقيم السائدة فيه ، واوضحت اسباب التخلف الذي يعانيه والتحديات الحضارية التي تجابهه . وركز شرابي على بنية العائلة وسيطرة الاب فيها ، وبين خصائص المجتمع البطريركي وما يعاني من اتكالية وعجز وتهرب . ويدعو شرابي الى الفكر النقدي الصحيح الذي يقوم على الحرية والمساواة ويرى في ابتعاد المثقفين والكتاب العرب عن معالجة الواقع العربي باشكالياته الاجتماعية والسياسية والايبيستيمولوجية واللغوية والانتولوجية ، خطراً كبيراً .والخطاب النقدي الحضاري الذي يدعو اليه يرفض الشرعيات المطلقة ، ويصر على الاختلاف السياسي والتعددية الفكرية ويضع حقوق الانسان والحريات والديمقراطية وتحرر المرأة على راس اهتماماته الفكرية . ويذهب اسماعيل صبري عبد الله الى بيان مظاهر تخلف الفكري العربي المعاصر . وهي ، في نظرة ماضوية التفكير الثقافي العربي ، والتغني بالقديم ، والتعلق بالاوهام (السلفية في الفكر العربي وهي اسلامية وماركسية وليبرالية) ويدعو الى اصلاح التعليم اصلاحاً جذرياً واشاعة الديمقراطية في المجتمع . وينقد محمد عابد الجابري العقل العربي معتمدا في نقده على الفلسفة الوضعية الغربية ويدعو الى اعادة تأسيسه على الواقع الحسي والاجتماعي لان (العلم لا يؤمن بمصدر اخر للعقل وقواعده غير الواقع ) ويعتبر الجابري الواقع المادي المحسوس مصدراً لقواعد العقل ، اذ يقول :( واذا شئنا بالاستناد الى التصور العلمي المعاصر لحقيقة العقل ،قلنا مع غول المور :(ليست القواعد التي يعمل بها العقل هي التي تحدده وتعرفه ، بل قدرته على استخلاص عدد لانهائي منها هي التي تشكل ماهيته ) ويذهب الجابري الى ما ذهب اليه كثير من المستشرقين ، بان العقل العربي المعاصر قد تكون في عصر التدوين ، دون ان يعير اهتماما لثقافة عصر الانحطاط في القرون المتأخرة . ويتناول الجابري بالدراسة والنقد شعار العلمانية الذي رفعه المفكرون القوميون العرب مبينا ان هذا الشعار طرح رداً على سياسة التتريك العثمانية ، وسعيا الى استقلال الولايات العربية عن الدولة العثمانية . واستمر هذا الشعار في مرحلة الاستقلال الوطني ، لكي يعني بناء الدولة على اساس ديمقراطي عقلاني وليس على اساس الهيمنة الدينية ويرى ان العلمانية مسألة مزيفة ، وان البديل عنها هو الديمقراطية والعقلانية. ويعتقد الجابري ان التحرر من التبعية للغرب لايمكن ان يتم الا من خلال العمل من اجل التحرر من التبعية للماضي العربي ، اي التراث والتحرر من التبعية للغرب يعني التعامل معه بروح ناقدة ويعزو مظاهر الاستلاب الثقافي عند العرب الى انهم يأخذون من الغرب النتائج والثمرات ويعرضون عن المبادئ والاسس ، اي انهم يستوردون ليستهلكوا وليس ليغرسوا ويستنبتوا . ويرى محمد اركون ان المنهج التاريخي الذي يتبعه المؤرخون العرب المحترفون غير كاف (وقد يضل الباحث الذي قد ينسى الاسبقية الايديولوجية .. ولذلك فمن الضروري اكماله وتصحيح تأويلاته عن طريق استخدام المنهج الاجتماعي والانتولوجي ) ويدعو اركون الى التوجه نحو الحقوق المعرفية والتركيز على العقل في العلوم العقلية ، والعقل والمخيال في الشعر ، والاسطورة ، والعقل المخيال الاجتماعي والثورات ، ورهانات العقلانية وتحولات المعنى ، ويرى ان التراث الاسلامي لم يعالج ضمن اطار التحليل والفهم الانثروبولوجي ، وان الدراسات الاستشراقية النقدية زادت من خطورة المنهجية والايمانية الشكلية عند المسلمين بتركيزها على الجانبين اللغوي والتاريخي . وياخذ على مفكري عصر النهضة العربية الحديثة اهمالهم البعد النفسي (السيكولوجي) والبعد الاجتماعي (السوسيولوجي) ويؤكد ان الحقيقة نسبية ،وتتطلب عدة مستويات من التحليل (المستوى اللغوي ، والمستوى التاريخي والمستوى السوسيولوجي ، والمستوى الانثربولوجي ، والمستوى الفلسفي ، والمستوى الثيولوجي ) ويتناول بالنقد العقلاني العقل الاسلامي الكلاسيكي ، والعقل الارثوذكسي والحس العلمي المباشر ، والوعي الاسلامي المعاصر ، في كتابه تاريخية الفكر العربي الاسلامي . ويعد جلال امين من المفكرين البارزين في التيار العقلاني النقدي ، فقد قارن بين افكار عصر التنوير الاوربي كما نشأت في اوروبا والغرب واسباب نشأتها وتطورها ، وبين افكار رواد التنوير العرب ، واوضح البون الشاسع بينهما . ووجه سهام نقده الى افكار التنوير الاوروبية والعربية . واكد انه (كان لدى التنويريين العرب تنوير فيه من التغريب اكثر مما كان لازما لتحقيق النهضة (العربية) المنشودة ) ولم يدر في خلد احد من روا دالفكر العربي ان يثير الشك في اي من الافكار والمؤسسات التي نقلوها عن الغرب ، كما هي دون تبديل او تغيير . واولى برهان غليون العقلانية والعقل عناية كبيرة في مؤلفاته ولاسيما في كتابيه (اغتيال العقل( و(الوعي الذاتي )وتناول العقلانية الغربية العلمانية بالتحليل والنقد وبين انهما لم تكونا منعزلتين عن الصراعات والثورات الاجتماعية والمعرفية التي ظهرت في الغرب ، اي انهما لم يكونا نمطين للتفكير والعقل كما يحاول العقلانيون اظهارهما . واوضح غليون فشل العقلانية في العالم العربي واسباب هذا الفشل كما اكد (ان الحداثة ليست قيما او مؤسسات نقبلها او نرفضها كما نشاء ، بل هي عملية مستمرة عندنا منذ قرنين ، ومستمرة بالرغم منا ) ويرى ان اصل التخلف لاينبع من استمرار وجود وتأثير التراث علينا ،وعزله لنا عن غيرنا ،وانما من بقاء هذه الحداثة نفسها غريبة عنا واداة تفكيك وتقسيم اي نفياً للذات . الخلاصة كانت وما زالت هذه التيارات العقلانية الاربعة تتفاعل في مجتمعنا العربي ويحتدم الصراع بينها ، فيتغلب احدها على الاخر الى حين ثم ما يلبث ان يتراجع او يتوارى . وعلى اي حال مازال الغرب قبلتنا التي نتوجه اليها لدراسة واقعنا ومشكلاته ووضع الحلول المناسبة لها وما زلنا نقتبس منه ونستعير ونستورد كل شيء ، دون ان نتمكن من بناء قاعدة فكرية سليمة ننطلق منها لفهم واقعنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي . ومازال الخلاف محتدماً بين مفكرينا حول ماذا ناخذ من الغرب وماذا لا ناخذ . كما ان تياراً شعبيا قوياً يتنامى في وطننا العربي الكبير يكن الحقد والكراهية للغرب الذي كان ولا يزال يغزونا في عقر دارنا ويستغل ثرواتنا ، ويحول دون نهوضنا . ويرفض هذا التيار الغرب وحضارته رفضا قاطعا ويدعو الى الانكماش على الذات والعزلة، وفي ذلك خطر كبير يهدد مستقبلنا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق