الأحد، 23 فبراير 2014

تعريف التيار العقلاني الليبرالي

 علي حافظ 

تعريف التيار العقلاني الليبرالي نشا هذا التيار لدى المثقفين العرب الذين درسوا في الغرب أو تمكنوا من الاطلاع على الفكر الغربي الحديث ، والتعرف على مؤسسات الغرب السياسية ونظمه الاقتصادية والاجتماعية فأعجبوا بها أيما اعجاب ، واقتبسوها ونشروها في اقطارهم ، وتحمسوا للدفاع عنها. وكان من أوائل رواد هذا التيار بطرس البستاني(1819ـ 1883)، الذي كان يرى أن الشرق لاينهض الا بالاطلاع على فكر أوروبا الحديث، ويدعو الى اصلاح الدولة العثمانية واقتباس النظم والمؤسسات الاوروبية وتبنى هذه الدعوة أحمد فارس الشدياق(1804ـ1887) الذي ماانفك يقارن بين المجتمع المتخلف والمجتمع المتقدم في مجمل مؤلفاته ومع اعجابه بأوروبا وحضارتها، فقد تحفظ على الحرية الاجتماعية فيها وعلى التفاوت في الثروة ودعا الى الشورى في الحكم واصلاح الادارة العثمانية والشوري في نظره هي النظام البرلماني الاوروبي كما سار في الاتجاه نفسه سليم البستاني (1848ـ 1884)الذي دعا من خلال مجلته (الجنان) الى مشاركة الاهالي في الادارة المحلية والفصل بين الدين والسياسة، والمطالبة بجعل التعليم عاما والزاميا. وكان فرنسيس مراش(1836ـ1873) من رواد هذا التيار وظهرت افكاره ودعوته في كتابة (غابة الحق) الذي طبع لاول مرة في حلب سنة 1865والمباديء التي دعا اليها هي المحبة الانسانية، والعدالة الاجتماعية، والمساواة، والحرية، وتثقيف العقل، وتحسين الاخلاق والعادات، وتوطيد الحق، ورفض الاستبداد والتمييز العنصري. وحمل أديب اسحق(1856ـ 1884) افكار التنوير الى القراء العرب في بلاد الشام و(مصر) من خلال مؤلفاته ومقالاته الصحافية والكتب التي ترجمها الى العربية وزين صحيفته مصر التي صدرت في القاهرة سنة1877بشعار الثورة الفرنسية(مساواة، حرية، واخاء). وبدا التحول الجذري في الموقف العربي من اوروبا بعد فرض الحماية الفرنسية على تونس سنة 1881واحتلال بريطانيا لمصر سنة 1882اذ شعر العرب ان الدول الاوروبية طامعة في خيرات بلادهم واصبحت تهدد كيان مجتمعهم .وتركز اهتمام مفكريهم على التخلف الذي تعانيه شعوبهم وعلى الخطر الخارجي الذي يهدد بقاءهم وراوا ان الاصلاح. على النمط الغربي هو سبيلهم الى المنعة والقوة والتقدم وكان شبلي الشميل(1853ـ 1917) من أجرأ دعاة الاصلاح الف كتاب (شكوى وأمل )سنة 1896، الذي وجهه الى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني وبين فيه ان الدولة العثمانية تفتقر الى العلم والعدل والحرية وذهب الى القول بان الحكم الديني والحكم الاستبدادي فاسدان لانهما غير طبيعيين وغير صحيحين فالاول يلجأ الى السلطة لمنع نمو العقل البشري نموا سليما، والثاني لايعترف بحقوق الافراد. وكلاهما يؤديان الى جمود العقل ويعوقان التقدم وكان الشميل من قيادة حزب اللامركزية العثماني وتزعم التيار الداعي الى اعتبار العلوم الحديثة الاساس الذي قامت عليه الحضارة الغربية المتفوقة والى ضرورة اقتباسها والاخذ عنها دون تردد ويعد الشميل من كبار دعاة العلمانية وأول من أدخل نظرية داروين في النشوء والارتقاء الى العالم العربي اذ ترجم شرح بخنر لنظرية داروين الى العربية. وسار في الاتجاه نفسه فرح انطوان(1874ـ 1922) الذي نشر دراسة عن حياة ابن رشد وفلسفته في مجلته الجامعة القاهرية وترجم حياة يسوع لارنست رينان المفكر الفرنسي الملحد ورأى انطوان ان العلم هو الاساس في بناء الفرد والمجتمع ، ودعا الى العلمانية ، بعد ان فصل بين العلم والدين وجعل لكل منهما اختصاصا مستقلا، لايتجاوز احدهما على حدود الاخر ونادى بالفصل بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية وباقامة الدولة التي تضم المسلمين والمسيحيين على قدم المساواة وعلى اسس الحرية. ودعا كل من جورج سمنة وندرة المطران وخير الله خير الله الى قيام جمهورية سورية علمانية ديمقراطية اتحادية تحت حماية فرنسا في مؤلفاتهم التي حملت عنوان سوريا ونشرت بالفرنسية في العقد الثاني من القرن العشرين. ولعل ابرز قادة هذا التيار في مصر . في فترة مابعد الحرب العالمية الاولى هم احمد لطفي السيد(1870ـ1963)وطه حسين(1889ـ1973) وزكي نجيب محمود(1905ـ 1993)في مصر تتلمذ لطفي السيد على يد الشيخ محمد عبده وتأثر بافكار اوغوست كونت وارنست رينان وجون ستيوارت مل وهربرت سبنسر واميل دوركهايم، القائلة بسيطرة العقل في المجتمع البشري الذي سيدفعه نحو التقدم وبأتساع افق الحرية وتبنى السيد المفهوم الليبرالي للحرية في اوروبا القرن التاسع عشر وذهب الى المناداة بغياب رقابة الدولة على المجتمع والى تمتع الفرد بقدر كبير من الحرية وان الحكم لابد ان يقوم على التعاقد الحر بين الناس وحكامهم ولكنه تبنى مفهوما ضيقا للامة فاعتبر مصر أمة كاملة وقد جمعت مقالاته التي كان ينشرها في الصحف المصرية ولاسيما صحيفة (الجريدة) في (المنتخبات) في مجلدين(القاهرة 1937ـ1945) وسادت لدى المفكرين والمثقفين العرب العقلانيين الليبراليين في حقبة مابين الحربين العالميتين افكار عصر التنوير ومبادئه مثل : المجتمع القومي وحكم الامة لنفسها وفق مصالحها القومية وفصل الدين عن السياسة والديمقراطية البرلمانية واحترام الحريات الفردية والعامة والتضحية من اجل استقلال الوطن ونشر العلوم والنهج العقلاني في التفكير والممارسة وكان من ابرز هؤلاء طه حسين الذي عمل استاذا في جامعتي فؤاد(القاهرة) وفاروق(الاسكندرية)ووزيرا للتربية والتعليم وقد طبق اساليب النقد العلمي الحديث في دراستة للشعر الجاهلي والقى ظلالا من الشك ان يكون هذا الشعر قد نظم قبل الاسلام فاثار معارضة شديدة في الاوساط المحافظة والمتدينة منها بخاصة وكان اهم كتبه مستقبل الثقافة في مصر الصادر سنة 1938اي بعد حصول مصر على استقلالها السياسي المقيد بمعاهدة التحالف المصرية ـ البريطانية لسنة 1936ودخولها في عصبة الامم . دعا طه حسين المصريين في كتابه هذا الى التخلص من عقدة النقص تجاه الاوروبيين (علينا ان نصبح أوروبيين في كل شيء قابلين مافي ذلك من حسنات وسيئات.. علينا ان نسير سيرة الاوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم اندادا ولنكون لهم شركاء في الحضارة ، خيرها وشرها، حلوها ومرها، ومايحب منها ومايكره، ومايحمد فيها ومايعاب. ولايختلف طه حسين في نظرته الى مصر كأمة عن احمد لطفي السيد ويستبعد طه حسين كالسيد ان يستطيع الدين توجيه الحياة السياسية ولكنه في كتابه الوعد الحق خطا خطوة نحو دمج مصر في بوتقة العروبة وأولى طه حسين التربية والتعليم اهتماما كبيرا باعتبارها سبيل التقدم والحرية والحياة الديمقراطية. وفي بلاد الشام والعراق ، وفي نشوة انتصار التيار الليبرالي الاصلاحي فيهما بعد استقلال العراق المقيد بمعاهدة التحالف العراقية - البريطانية لسنة 1930 ونجاح الكتلة الوطنية في وسوريا في ابرام المعاهدة السورية - الفرنسية لسنة 1936 طغى ساطع الحصري (1883-1968) على اقرانه في هذا التيار من خلال مؤلفاته الغزيرة التي ظهر فيها اثر الفلسفة الوضعية الفرنسية والقومية الاوروبية واضحاً جداً واستقى مفاهيمه من مفكري عصر التنوير والقرن التاسع عشر ولاسيما الرومانسيين الالمان امثال ارندت وهردر وهيغل وفيخته واعجب بالمربي السويسري بستالوزي لاقتران فكرة بعمله . وتبنى الفكرة الالمانية في اعتبار الامة (كائنا حياً روحياً ) ولكنه رفض الدعوة الالمانية للتفوق العرقي وكان من كبار دعاة العلمانية ، ومن المؤمنين بقدرة الانسان على تشكيل بيئته . وتصدى الحصري للسلفية الاسلامية وللشيوعيين ، ورد على الحجج التي ساقوها للدفاع عن ارائهم السياسية . فقد قال في رده على السلفيين الاسلاميين يصبح (الماضي) مضراً حين يأخذ شكل قوة جاذبة تدعونا الى العودة الى الوراء ، فلا يجوز لنا ان نعتبر الماضي هدفاً نتوجه نجوه ونسعى للعودة اليه ، بل يجب علينا ان نكون منه قوة فعالة حافزة ، تدفعنا نحو المستقبل الجديد . وقال رداً على الدعوة الاممية الشيوعية :(ان دعاة الاممية الشيوعية يريدون تغيير نظام المجتمع الحالي من اساسه ، ويعتقدون ان ذلك لايمكن ان يتم دون ثورة وحروب ، يقولون ان هذه الثورة يجب ان لاتتقيد بقيود الوطنية ، بل يجب ان تعمل ضدها .. ان هذه الاسطر كتبت قبل ست سنوات ، والان بعد ان حدث ما حدث في روسيا السوفياتية منذ ذلك التاريخ ، ولاسيما منذ نشوب الحرب العالمية الجديدة نستطيع ان نقول : ان فكرة الوطنية قد انتصرت على فكرة الاممية حتى في روسيا السوفياتية نفسها . وظهرت في العراق (جماعة الاهالي ) سنة 1932 من صلب هذ التيار العقلاني الليبرالي الاصلاحي . وضمت شخصيات مؤثرة محمد حديد وعبد القادر اسماعيل وعبد الفتاح ابراهيم وحسين جميل وكامل الجادرجي . وظلت صحيفة الاهالي عن اتجاههم الفكري وتضمنت مبادئ الحركة الشعبية التي تأسست في ما بعد من هذه المجموعة من المثقفين : ضمان حقوق الفرد وحريته ، واستقلال الدولة وسيادتها التامة ، وتدخل الدولة في الحياة الاقتصادية لضمان العدالة في توزيع الثروة وتوفير الخدمات العامة للمواطنين ولاسيما التعليم والصحة العامة وتنظيم الاحوال الشخصية وفق قوانين مدنية حديثة ، وتحرير المرأة . ويندرج في نطاق هذا التيار دعاة القومية الفرعونية في مصر الذين تناولنا بعضهم ودعاة القومية اللبنانية وعلى راسهم بولس نجم وشارل قرم وميشال شيحا وسعيد عقل . فقد قال هؤلاء بوجود امة لبنانية قائمة بذاتها ، تعود جذورها الى عهد الفينيقيين ، وساهم الموقع الجغرافي واستمرار سكانها في تشكيلها وقد دعا هؤلاء الى الاقتصاد الحر ، وضمان هيمنة الاكثرية المسيحية في لبنان . والحرية عند شيحا هي حرية المعتقد وحرية التجارة . واكد تفرد لبنان باعتباره الوطن الاعجوبة . وكانت عصبة العمل القومي التي تأسست سنة 1933 من نخبة من الشباب القومي العربي من لبنان وسوريا وفلسطين والعراق ، من هذا التيار العقلاني الليبرالي الاصلاحي . وقد ركزت في اهدافها على سيادة العرب واستقلالها ، والوحدة العربية الشاملة وتوحيد حركة المقاومة في الاقطار العربية ، ومحاربة الصهيونية والاستعمار وتوحيد السوق الاقتصادية العربية ، ومحاربة الاقطاع ، والقضاء على العصبيات العائلية والمذهبية والمحلية ورفع مستوى المرأة ونشر التعليم وتعميمه على جميع فئات المجتمع العربي . وكان عبد الله العلايلي من الرواد القوميين في هذا التيار . فقد راى ان من اسباب فشل ثورة العرب سنة 1916 استسلام العرب للوعود المموهة التي اطلقها الحلفاء ، وخدعة الانتداب التي شجعت على الانفصال والتجزئة السياسية . وشعر بان العرب يفتقرون الى فلسفة قومية ، باعتبارها القوة التي تمدهم بفيض من الحيوية وتضمن لهم المقاومة والبقاء . ومن الرواد القوميين الليبراليين : على ناصر الدين الذي الف كتاب (قضية العرب ) وعرف فيه الامة تعريفا مستمداً من الفكر القومي الاوروبي ، واوضح ان قضية العرب هي قيام دولة الوحدة التي تضمهم جميعاً . اما قسطنطين زريق فقد كان اقدر القوميين العرب الليبراليين في التعبير عن الاتجاه العقلاني الليبرالي ، راى زريق ان لا وحدة للعرب من دون نهضة وتحرير (لا توجد قومية ، في نظره ، من دون فكر متحرر ،ولا من دون نهضة اجتماعية ) واكد زريق انتماءه للحضارة العربية الاسلامية (انا كعربي اعتمد الفكر الاسلامي والفن الاسلامي والادب العربي والامجاد العربية هي كلها من تراثي) وفصل زريق بين القومية والدين ، وجاء كتابه (الوعي القومي) الصادر سنة 1939 معبراً عن نزعة زريق العقلانية الليبرالية الاخلاقية . وكان لزريق وما زال تاثير قوي في الفكر العربي المعاصر . وفي المغرب العربي يعد الحزب الدستوري الجديد في تونس ممثلا لهذا التيار فقد ركز الحبيب بورقيبة على العقل الذي (يجب ان يسيطر على كل شيء في هذا العالم ويوجه كل نشاط بشري ) كما ركز على القومية التونسية ، مع دعوته الى اتحاد الاقطار المغربية كهدف نهائي ونجح الى حد بعيد في اضعاف الولاءات الضيقة القبلية والجهوية . وفي الجزائر يعد (تيار اتحاد المنتخبين المسلمين الجزائريين ) الذي تاسس سنة 1927 من هذا التيار الليبرالي الذي كان يطالب بتمثيل (الاهالي)تعبر في البرلمان الفرنسي والمساواة بين الجزائريين والفرنسيين ، وتطوير التعليم وتعميمه ، وتطبيق القوانين الاجتماعية الفرنسية في الجزائر وكان فرحات عباس حتى قيام الثورة الجزائرية يمثل هذا التيار . وكان حزب الشعب الذي تاسس سنة 1937 امتداداً لجمعية نجم افريقيا الشمالية من هذا التيار الليبرالي ، وان اختلف عن اتحاد المنتخبين في دعوته الى استقلال الجزائر عن فرنسا . اما في المغرب الاقصى فقد كانت (كتلة العمل الوطني) التي وضعت اول خطة للاصلاح سنة 1934 من هذا التيار الليبرالي. واستمر هذا التيار العقلاني الليبرالي الاصلاحي في بعض الاقطار العربية بعد الاستقلال الوطني، ولكنه لم يستمر طويلا بسبب الانقلابات العسكرية وهيمنة التيار العقلاني الثوري على الساحة السياسية العربية في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن العشرين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق