الثلاثاء، 25 فبراير 2014

المقدمات النظرية التوزيعية لهارتس




المقدمات النظرية للتوزيعية
ليس من العسير أبدا أن نكتشف أن مقدمات العمل النظرية للتوزيعية قائمة بشكل أساسي على مبادئ سوسير، فهي تشبه إلى حد كبير ما صاغه هذا العلامة من مقدمات.
-
موضوع الدرس هو اللغة مقابلة بالحديث، وغالبا ما يطلق على اللغة لفظ القانون؛ أي أنها النظام الذي يحكم عملية الاستعمال الفردي (الكلام)، وهي تسمية لها صدى عملي ملموس، وقد كان سوسير قبل أصحاب المنهج التوزيعي قد أكد أن موضوع اللسانيات (الدرس اللساني) بمختلف مناهجه هو اللغة.
-
الآنية: يتسم هذا الدرس بالآنية، لأنهم بإزاء لغات منعدمة الكتابة، وماضيها مجهول، فالتوزيعيون انطلقوا في بداية الأمر من دراسة لغات الهنود الحمر، وثقافتهم التي لم تبحث أو تدون آنذاك – كما سلفت الإشارة - وليست الآنية إلا المنهج الوصفي الذي اشتهر به دي سوسير، حيث إنه نادى إلى دراسة اللغة دراسة آنية لأنها كفيلة بإعطاء نتائج مضمونة، وعندما يفرغ الباحث منها له أن ينتقل إلى الدراسة التاريخية التي تتم وفق امتداد زمني طويل، قد يحول بين الدارس وبين تحقيق مراميه بشكل أفضل.
- ”
تتألف اللغة من وحدات متفاصلة تفرزها عملية التقطيع ، ويقدم سوسير في هذا المجال رؤية شاملة حول العلامة اللسانية ، وطبيعتها وعلة وجودها، ولكن لا وجه للمقارنة مع ما للتوزيعيين، فلا محل عندهم للبحث النظري، وإنما لمعالجة شديدة الضبط للقضايا التي يوفرها الوصف (ولا يذكرها سوسير) ؛أي كيف نبرز الكلم المميز (المورفيمات)، وهي تقابل عندهم العلامات، و ما هي المقاييس عند ظهور بعض الشك… إلخ” ،ويمكن أن نلاحظ اطراد المقابلة بين الدال والمدلول، واعتبار المورفيم  وحدة دنيا تفيد دلالة يفردها التحليل، لكن جميع ما يتعلق بالمعنى في شتى أشكاله يحذو فيه حذوا ثابتا، وترجع المناقشات حول المورفيمات عادة إلى قضايا تخص الشكل، فالمعنى في حد ذاته لا يدرك موضعه، ولا نحصل إلا على معاينة أوجه التماثل، و أوجه التباين الدلالية.
ارتكز التوزيعيون بشكل واضح على مبادئ دي سوسير، وإن بدا لنا بعض الاختلاف بينهم وبينه، فليس إلا صبغة خاصة أرادها التوزيعيون، لأنفسهم ليتميزوا عن باقي المدارس اللسانية الأخرى.
-
تؤلف كل لغة نظاما مخصوصا، وهو ما يقابل الاعتباطية عند سوسير، فموضع الكلمة في البنية محدد بعلاقاتها مع الكلمات الأخرى، ومن هذه العلاقات تنشأ قيمة كل كلمة.
-
إن العناصر تتحدد بعلاقاتها داخل النظام، أي بعلاقاتها مع غيرها من العناصر اللغوية في التركيب الواحد، وهو ما يسميه سوسير بالعلاقات الركنية أو السياقية التي تجمع بين كلمات جملة واحدة، حيث تستدعي كل منها الأخرى، لتشكل سياقا لغويا ذا دلالة، ولعلنا هنا واقفون على أهم مبادئ النظرية التوزيعية، حيث إنها ترى أن عملية التوزيع السليم الذي تأخذ فيه الكلمة قيمتها وبالتالي علاقات منطقية ولغوية مع بعضها البعض هي التي تصل بنا في النهاية إلى المعنى السليم، ومن هنا جاء اسم النظرية التوزيعية ولتوضيح ذلك نضرب المثال الآتي.
تتوزع الجمل في العربية وفق أحد النظامين (في الغالب الأعم)
الجمل الاسمية: التي يتصدرها اسم (مسند إليه + مسند(
الجمل الفعلية: التي يتصدرها فعل (مسند + مسند إليه(
وقد يخالف مستعمل اللغة أحد التركيبين إلى تركيب جديد بالزيادة أو الحذف أو التقديم أو التأخير… دون أن يخالف نظام اللغة، فيوزع مفرداته توزيعا سليما، وفق قانون لغوي يخضع له للتعبير عن تجربة معينة، أو فكرة ما، لكننا قد نكون بإزاء متكلم جاهل بقواعد اللغة، فيوزع ما في ذهنه من مفردات توزيعا مختلا، به يختل المعنى، كأن يقول: نضع الصحن في الطعام، وهو يريد: نضع الطعام في الصحن، فيربط بين الوحدة اللغوية التي تريد فعلا وبين التي تأتي رابطا (حرف الجر)، عوض أن يربط هذه الأخيرة بكلمة (الصحن) ليدل على المكان (الموضع) الذي يوضع فيه الطعام .
4-
أثر علم النفس السلوكي على التوزيعيه:
ألف بلومفيلد سنة 1914 كتابا يحمل عنوان (اللغة) ويبدو واضحا أنه في كتابه هذا متشبع بمبادئ السلوكية، و هذا ما جعله يعلن صراحة عن التزامه بهذا المذهب بعده إطارا نموذجيا لوصف اللغة، فقد ذهب إلى أن اللسانيات شعبة من شعب علم النفس  السلوكي، متأثرا في ذلك بـ (واطسون/Watson) مؤسس المذهب السلوكي في علم النفس، ولعل هذه القضية من أهم النقاط التي تقوم عليها نظرية بلومفيلد السلوكية، حيث اعتبر اللغة نتاجا آليا واستجابة كلامية لحافز سلوكي ظاهر، وعلى هذا الأساس حاول تفسير الحدث الكلامي من منظور سلوكي بحت.
أطلق بلومفيلد على المنهج الذي اتبعه في دراسة اللغة اسم المنهج المادي أو الآلي، وهو منهج يفسر السلوك البشري في حدود المثير والاستجابة على غرار ما تقوم به العلوم الفيزيائية والكمياوية في اعتمادها في تفسير الظواهر على تتابعات العلة والأثر، وقد استعان في شرح منهجه هذا بقصته المشهورة عن (جاك) و(جيل)
افترض بلومفيلد أن جاك وجيل كانا يتنزهان في الحديقة بين صفوف الأشجار، شعرت(جيل) بالجوع، وتولدت لديها رغبة في الأكل، رأت تفاحة على الشجرة، فأصدرت أصواتا عبرت من خلالها عن هذا الجوع، فقفز (جاك) على إثر هذه الأصوات، ليتسلق الشجرة، ويقطف التفاحة، ليقدمها إلى(جيل) التي اشتكت من الجوع أو عبرت عنه، و بعد ذلك يضع التفاحة في يدها، وتأكلها هانئة البال. إن في هذه القصة مجموعة من الجوانب التي تثير اهتمام الدارسين، إذ يهتم الباحث اللغوي هنا بالحدث الكلامي، والتصرف السلوكي الذي ترتب عليه، لأن اللغة في نظره سلسلة من الاستجابات الكلامية لحوافز ليست ميدان الباحث اللغوي، فهو لا يهتم بالعمليات النفسية (الحافز الداخلي) السابقة على عملية الكلام، وإصدار الإشارات الصوتية، بل بدراسة التصرف الكلامي، فيصف ما فيه من فونيمات ومورفيمات توزع في إطار جملي.
و قد قام بلومفيد بتحليل هذه القصة كما يلي:
1-
أحداث عملية سابقة الحدث الكلامي.
2-
الحدث الكلامي.
3-
أحداث عملية تابعة للحدث الكلامي.
والشكل الآتي يوضح هذا التحليل:
>R ……………>s……………r >…………S
-
الخط المتقطع يمثل الحدث الكلامي الذي يملأ الفراغ بين جسمي المتكلم والسامع
-
المثير S: يعادل الأحداث العملية السابقة للحدث الكلامي (إحساس جيل بالجوع، ثم رؤيتها التفاحة).
-
الاستجابة R: تعادل الأحداث العملية التابعة للحدث الكلامي (قفز جاك لتسلق الشجرة، وقطف التفاحة لتقديمها إلى جيل).
-
الحرفr: يدل على الاستجابة البديلة ( إصدار جيل أصواتا دالة على الجوع، بدل قطفها التفاحة)
-
الحرفs: يدل على المثير البديل (أصوات جيل التي تجعل جاك يتصرف كما لو أنه هو الجائع)
إن أثر السلوكية على الدراسات اللغوية واضح جدا، حيث إن اللغة ترتبط ارتباط وثيقا بسلوك الإنسان وبنفسيته، فتراه يستعملها حسب هذه الحالة ،والمواقف التي يخضع لها، أما أثرها على المنهج التوزيعي فيتجلى في رأي سابير الذي يرى أن الفونيم مميزا يعتمد على الافتراضات السيكولوجية. ثم إن التوزيع مبدأ تخضع له الجمل كما تخضع له الأصوات، وهو مرتبط أيضا بالحالات النفسية للأشخاص المتكلمين، فيتأثر بها وبسلوكياتهم، وهو ما جعل مستعمل اللغة يقدم ويؤخر، ويحذف ويزيد… فليست اللغة إلا ظاهرة سلوكية من الظواهر القابلة للملاحظة والمقياس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق