تأثير الكآبة و أنواعها
عند أبي القاسم الشابي :
هذا الجزء من المبحث من الأهمية بمكان إذاما نظرنا إلى تأثير الكآبة في
الإنسان , فهي تقض مضجعه و تنسف أحلامه , و توقف من يصاب بها عن الحياة و ممارستها
إلى حين , و هذا نراه في جزءٍ كبير من ديوان الشابي معبراً عن التجربة المرة التي
مرَّ بها الشاعر :
1-
الكآبة المنغلقة –
السلبية - :
و هي تلك التي اتصف
بها في كثير من قصائده , حيث اصطدم بواقعه و تأثر لمرضه , فكان يرجو الموت و يبحث
عنه , و يغرق في أحلامه , بعيداً عن الثورة , و هي الجانب الذي أغفله في مرحلته
هذه .
يقول أبو القاسم :
بئست الأفراح ,
أفراح الحياه إنها أحلام
تخلب اللب بألحان
عذاب
و أغاريد , كأملاك
السما
ثم لا تلبث أن تذوي
كما تذبل الأزهار
هنا نلحظ الألم الشديد من الحياة , و ليس أي حياة و إنما أجمل ما فيها و
هو الفرح , لكنه لا يطمئن إليه , و لا ينظر بعين راضية نحوه , بل إنه يرى الحياة
بكل مفاتنها أحلاماً و سراباً , سريعة الانقلاب و التبدل .
و نرى في قصيدة ( النبي المجهول ) الالتجاء إلى الطبيعة و الغاب , الحلَّ
المفضلّ الذي يجد فيه سلوته بعد الصراعات التي عايشها :
أيها
الشعب ليتني كنت حطاباً === فأهوي على
الجذوع بفأسي
تحولات نفسية ابتدأت بالصراخ
بالثورة ضد الظلم في خطاب حادٍ و ساخرٍ
لشعبه :
ليت
لي قوة العواصف يا شعبي === فألقي إليك ثورة نفسي
أنت روح غبية تكره
النور === و تقضي الدهور في ليل ملسِ
أنت لا تدرك
الحقائق إن طافت === حواليك دون مس و جبسِ
ثم نراه بعدما أخفق في استثارة قومه ينزوي إلى الغابة و راح يتهدد
بالعزلة و الابتعاد :
إنني
ذاهب إلى الغاب يا شعبي === لأقضي الحياة
وحدي بيأسِ
إنني ذاهب إلى
الغاب , علِّي === في صميم الغابات أدفن
بؤسي
لكنه يحيا الحياة التي أرادها :
........
ثم سار إلى الغاب === ليحيا حياة شعر و قدسِ
و بعيدا .. هناك ..
في معبد الغاب === الذي لا يظله أي بؤسِ
.......
يالها
من معيشة في صميم الغاب === تضحي بين الطيور و تمسي
يالها من معيشة ,
هي في الكون === حياة غريبة ذات قدسِ[1]
و ربما ازدادت نبرة الأسى عنده و عاش في صراع نفسي أليم , حتى إننا نراه
يتحدى الجميع , و يحكم مشحونا بالثقة الغامرة ؛ أن الدنيا بكل ما فيها لا تستحق أن
يهتم بها الإنسان , و أنه لو تولى شيئا من شؤونها لما أبه بها , و لألقى بها في
غياهب الموت :
لو
كَانَتِ الأَيّامُ في قبضتي === أذريتها للريح، مثل الرمالْ
وقلتُ: «يا ريحُ، بها فاذهبي === وبدِّديها في سَحيقِ الجبالْ
"بل في فجاج الموت.. في عالَمٍ === لا يرقُصُ النُّورُ بِهِ والظِّلالْ..
لو كان هذا الكونُ في قبضتي === ألقيْتُه في
النّار، نارِ الجحيمْ
يقول الأستاذ إيليا الحاوي :
" هنا تجتاح الشاعر شهوة الانقراض و العدم , و تلتمع له الصورة النائية
المبدعة في فجاج الموت و الكنايات .. "[3] ,
إن مبدأ ( العدم ) الذي ألمح إليه الأستاذ يشي بأن أبا القاسم الشابي قد مرت عليه
مرحلة من الضغط النفسي و القلق الشديد , الذي جعله لا يقيم للدنيا قيمة , فعالج
ذلك بالطريقة الرومانسية المكتئبة , التي تركن إلى خوض غمار العدمية كمنطلق فكري
يرى أن العدم هو القدر الأكيد الذي ينتج عن تلك الصراعات الرهيبة في هذه الحياة .
2-
الكآبة الإيجابية :
تكونت في مرحلة تالية , إذ انطلق في استغلال تلك الكآبة التي جعلته يمعن
النظر في الحياة و يطيل التأمل في أحوالها , لم يستطع أن يتوقف عند حد , و لم تعد
الغابة ملجأً يطمئن إليه دائماً , ففي قصيدته : ( الصيحة )
يا
قومُ عيني شامت === للجهل في الجو نارا
يا قوم مالي أراكم
=== قطنتم الجهل دارا
أضعتمُ مجد قوم ===
شادوا الحياة فخارا
حاكوا لكم ثوب عزٍ
=== خلعتموه احتقارا
ثم ارتديتم ... ===
لبوس خزي و عارا
يا ليت قومي أصاخوا
=== لما أقول جهارا
يا شعر أسمعت لكن
=== قومي أراهم سكارى
فلا تبال إذا ما
=== أعطوا ندارك ازورارا
و اصبر على ما
تلاقي === و اصدع وُقيت العثارا[4]
نتبين عقيدته الشعرية التي يلتزم
بها في خطابه للشعر بعد خطبته لقومه التي حذر فيها من الجهل , و نصح جاهدا أولئك
الناس بالمحافظة على المجد الذي أُورثوموه , و مع ابتعادهم عنه و ازورارهم , إلا
أن شعره سيبقى مخلصاً لهم , و مستمراً في نصحهم .. !
و نرى للشاعر قصيدته التي بها يستصرخ أمته , و يحث على المواجهة و
المقاومة رغم كل المصائب و الرزايا .. :
تسائلني" ما
لي سكت و لم أهب === بقومي و ديجور المصائب مظلم ُ"
" وسيل
الرزايا جارف,متدفع === غضوب و وجه الدهر أربد أقتمُ؟"
سكت و قد كانت
قناتي غضة === تصيخ إلى همس النسيم و تحلمُ
و قلت و قد أصغت
إلى الريح مرة === فجاش بها إعصاره المتهزمُ
و قلت و قد جاش
القريض بخاطري === كما جاش صخّاب الأواذيّ أسحمُ
"أرى المجد
معصوب الجبين مجدّلا === على حَسَكِ الآلام يغمره الدمُ "
سيثأر للعز المحطم تاجه === رجال إذا جاش الردى فهمُ همُ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق