نماذج لقصائد الكآبة و الحزن و
تحليلها :
نشيد الأسى :
في قصيدة نشيد الأسى نرى أن عنوانها يكشف عن
طبيعتها التي أرادها هذا الشاعر؛ فجعل للأسى نشيداً , و إن شئنا فلنقل جعل للأسى
صوتا مرويا مسموعا, و النشيد في كلام
العرب هو رفع الصوت, و ربما التغني أيضا , أراد أن يتصالح مع الدنيا , و يعطي عهداً
بالسلام و الوئام , ربما كان هروباً من حزنه , و استسلاماً لهزيمته , لكنه يتساءل
بكل أسى , عن ليل نفسه , متى ينفلق الصباح
عنه لأنه يحس بعواصف تترى تهب عليه ,و
سمَّاها بالظلام , أراد أن يغني أغنية الحياة , نراه يكثر من الاستثناءات العجيبة
, و الاستدراكات ليشدد على سوء حظه في هذه الدنيا و تكالب الأقدار عليه !
فيقول :
ما
للرياح تهب في الدنيا و يدركها اللغوب
إلا رياحي , فهي
جامحة تمردها عصيب
تساءل بكل حرقة , عن ذلك التمايز العجيب في هذه
الرياح , التي قدَرُهَا عند الآخرين -مهما بلغت صولتها- أن تتعب , فتقف و لو قليلا
, أما الرياح التي هبت علي , فلها قدرة خارقة , تمتاز بالجموح و التمرد العصيب ,لا
يمسها تعب أو لغوب. !
ثم راح يتساءل بكل
مرارة أيضاً عن سبب تعاسته في هذه الدنيا , كان ينكر استحقاقه لهذا السيم المتواصل
, يرى أن قلبه نقي أنقى من الموج الوضيء , و ألطف من أغاريد الطيور, و انتهى إلى
أنه تجنب الأثم الأكبر؛ الذي هو إثم الحياة , فمالنفسه النقية ينالها عذابٌ أليم
..!؟
بعد تلك المقدمة
التي عبَّر فيها عن موقف القدر منه , و عن الحياة و ما تحيكه ضده , انطلق إلى
عالمه الآخر ,هارباً حالماً , حاملاً همومه ليطفئها ,و أحزانه ليبدلها بشيء آخر,
فأضحى ينادي الغابة , لكنه نداء يحمل أسئلةً يحاول أن يقارن من خلالها بينه و بين
الغابة ,! و كيف استطاعت تلك الغابة أن تصمد في وجه الخطوب , و أن تجابه الأخطار! حتى
باتت ملجأ لكل حزين , و موئلا لكل مكتئب باكٍ .
أعاد بعد ذلك نداءه
للشفق , و هو يعني به الصباح , و ربما قصد به التغيير في الحياة . أراد أن يبدأ مرحلة
الجديدة في علاقات الكون .. فينادي بأعلى صوته :
يا
كوكبَ الشفق الضحوك و أنت مبتهل الكئيب
لح في السماء , و
غن أبناء الشقاوة و الخطوب
أنشودة تهب العزاء
لكل مبتئس غريب
فالطير قد أغفت و
أسكت صوتها الليل الهيوب
و ابسط جناجك في
الوجود فإنه عذب خلوب
و انشر ضياءك ساطعا
لينير أعماق القلوب
فعلى جوانبها من
الأحزان ديجور رهيب
هكذا أراد من ندائه
, تمنى رؤية التغير الذي عبر عنه بـ(كوكب
الشفق ) أو بـ( الصباح) ,فإنه يفرق الظلمة و يطرد الدياجير المدلهمة , هو لا يقصد
الصباح بذاته و لا الظلام لذاته , لكنها صور الطبيعة التي تزخر بها قريحته , يقصد البحث
عن الأمل و التجدد , و أمنية الخلاص من الواقع الكئيب .. !
انطلق حالماً ,, متفكراً في الطبيعة و عالمها
البديع الجميل ؛ ليبرد كبده بمائها القراح , و بعد ذلك الأمل , و تلك النداءات ,
عاد من جديد ليعقد مقارنة بينه و بين الطبيعة , كيف أنها تعود جميلة أنيقة نقية ,
و هو يبتلى بالنقص و الحزن و التعاسة !؟ .
و يختتم قصيدته
بأنه لن يداخله سرور , حتى و إن تضاحكت الحياة بأسرها , ترى ما السبب في ذلك .. ؟
يجيب عنه .:
أصغي
لأوجاع الكآبة و الكآبة لا تجيب
في مهجتي تتأوه
البلوى و يعتلج النحيب
و يضج جبار الأسى و
تجيش أمواج الكروب
إني أنا الروح الذي
سيظل في الدنيا غريب
و يعيش مضطلعا
بأحزان الشبيبة و المشيب[1]
قد اتضح لنا الآن سبب مهم في حزنه , و هو تلك
الروح الكبيرة التي يحملها , تلك النفس الأبية المسؤولة التي تجعله ينظر دوماً إلى
مواطن الأحزان , يتمنى لو انقلبت الشرور خيراً , و الحزن فرحاً , لكنه إذ يرعي
سمعه للكآبة , فهو الكئيب ,! و مما يزيد ذلك كآبة أنه يتمنى لو بادلته الكآبة
اهتمامه , فتصيخ له , لكنها لا تصيخ .. !
ثم إن أبا القاسم .. يظهر بمظهر الرجل الكبير ,
الذي يُعنى بأحزان مجتمعه , فهو يضطلع بأحزان الشبيبة و المشيب , و هنا مفارقة
واقعية ,لأن أبا القاسم شاب في مقتبل عمره , لكنه في دواخل نفسه يرى أنه رجل حقيق
بفداء العالم و حمل همومه و ربما رأى أنه مسؤول عن كثير مما يحل به .. !
قصيدة : ( نشيد
الجبار , أو هكذا غنى بْرُمِيثْيوس .. )
سأعيش رغم الداء و
الأعداء === كالنسر فوق القمة الشماءِ
مع أنه كان في هذه
القصيدة يصراع من أجل الحياة , إلا أنها تضجُّ بكثير من الأسى و تضطرم فيها
الصراعات الحقيقية و الوهمية , تنوعٌ في المفردات , و تبادلٌ في المعاني و تجاذب
للطبيعة , و استعارة لكثير من معانيها و غوص في أسرارها .!
لديه الكثير من
الأعداء , و ربما كان أول أعدائه هي الدنيا , و سيحيا برغم المرض الذي يوهنه و يضع من قوته ..
!
استعار لنفسه اسم
الجبار , و في هذا دليل إصرار عجيب على الغلبة و الوقوف ضد طوفان الحياة الهائج ..
!
و نرى أن أبا
القاسم قد استعار شخصية ( بروميثيوس ) و هو إله في الأساطير اليونانية القديمة , دافع
عن الإنسان , فعاقبته الآلهة الأخرى عقاباً شديداً , لكنه كان صلباً لم يتزحزح , و
ظلَّ متحدياً برغم كل ما يواجهه ..!
و قد اختار أبو
القاسم هذه الشخصية اليونانية القديمة ؛ لأنها ترمز إلى الصمود و التحدي و الثورة
.. بالرغم من الألم الذي ينوء به , و كأنه يشير إلى حاله الشخصية التي ترزح تحت
نير الاتهامات الكثيرة , و العداء الحاقد , و زيادة إلى ذلك , مرضه الذي يهد كيانه
, يرى نفسه وحيدا يقف أمام تلك الأمواج العاتية من الناس , و ذلك المد الهائل من
القدر الأليم , كان ( بروميثيوس ) وحيداً
مقيداً متألماً , و كذلك كان أبو القاسم .. [2] .
إلا أن الأستاذة
-ريتا عوض- تشير إلى أن شخصية (بروميثيوس) قد توقف ذكرها على العنوان للقصيدة ,
فلم يأت لها بيان في القصيدة كما أن إيرادها ضمن شعر عربي ضمن إطار الثقافة
العربية يجعل منها فكرة قاصرة , غير مفهومة لكثير من القراء العرب .. لأنها ذات
بعد رومانسي أوربي يوناني .. [3] .
و يرى هشام الريفي
أن هذه القصيدة تحمل قرائن عديدة تحيل على مرجعية غير عربية , و أن أبا القاسم
الشابي كشاعر و مغنٍ , بات شخصية غريبة عن التراث العربي , عريقة في السنّة
الأدبية الغربية , و هذا تقليد رومانسي
احترمه أبو القاسم برغم جهله بلغة غير اللغة العربية ! [4]
و تشكل هذه القصيدة
مرحلةً جديدة في نظرة أبي القاسم الشابي إلى الحياة , إذ كان في سابق عهده يرى
بؤسها و شدة بأسها , و أنها مظنة الفجيعة و محل النقيصة و موطن البلاء , فكان يرجو
الموت و يأمله , لكنه هنا .. قد خلع ذاته العتيقة و لبس الإنسان الجديد , ابن
الحياة الجديد , و اعتنق إرادة القوة التي بلغت مداها – كما يقول جان طنوس - في
قصيدته الرائعة ( أنشودة الجبار ) ..
و يصفه بأنه "
كان سجين الموت الروحي ,و العبودية العمياء , فأصبح الآن حرا يذوب في روح الكون
الخلَّاقة , "[5]
.
إن التحدي الذي يدفع به الشابي أمام القدر ,
يعطيه قيمة أعلى , و يملأ نفسه سعادة غريبة ترفعها فوق صغائر الدنيا , كالنسر الذي
يتعالى على الحشرات التي تدب على الأرض , فلم يعد القدر الآن حتمية قوية لا بد أن
يخضع لها , لكنه يعتقد أنها نقطة انطلاق لإرادة القوة التي تبدل الظروف كما تشاء
.. [6]
إن القصيدة لا تزال
في طور الكآبة , لكنها كآبة إيجابية , تتحول إلى أداة فاعلة , إلى محرك دافع للقوة
محفز للعمل و التفاعل مع تلك الحياة , لم يعد ذلك الإنسان المنزوي المنغلق على
ذاته , المحلق في خيالاته في أوساط الغابة , بل انبرى أمام مد الحياة , ليدفع به ,
لكنني أؤكد أنه لو انتصر لعاد إلى غابته , لأنه أحب الحياة الأولى , و لم تحركه
تجاه المواجهة هذه سوى حياة الغاب بكل ما فيها من هدوء و سكينة ,,
أما
إذا خمدت حياتي و انقضى === عمري و أخرست المنية نائي
فأنا السعيد بأنني
متحول === عن عالم الآثام و البغضاءِ
لأذوب في فجر
الجمال السرمدي == و أرتوي من منهل الأضواءِ .
و هو الآن يدعو إلى مواجهة القدر , بكل ثبات و
صمود , و سوف يقف أمامه شامخاً , و يرى أنه و إن هُزم في هذا الصراع , سيعد نفسه
منتصراً , و أنه سينتهي إلى الحياة التي يريدها حقيقة .. لذا فهو قد أعاد التفكير
في طريقة تعامله مع الحياة و القدر, فوجد أن غايته التي تتنتهي في الجمال السرمدي
و الخلود الأبدي في أكناف الخيال البديع , له طرق عديدة , لكن أولاها و أعظمها هو
جهاد الحياة و القدر , فمتى انتهى فسوف يُبّشَّرُ بحياة أخرى أجمل و أروع ! .
و قد اختتم قصيدته , بإعلان التحدي مرة أخرى ..
و وجه حديثه لأولئك الذين أرادوا هدمه و تمنوا انتهاءه ؛ بأنه لن يمضي إلا منتصراً
عليهم , متغلباً على مكائدهم .. و شبَّههم بالأطفال, و جعل نفسه أرفع منزلة حيث
يطال السماء , و هم تحتها يحيكون مؤامراتهم . !
و قد قدم لنا صوراً
بديعة, حين يقول :
فارموا
على ظلي الحجارة و اختفوا === خوف الرياح الهوج و الأنواءِ
فإنهم في نظره لن
يبلغوا إن استطاعوا أكثر من ظله , ليمكروا فيه و يعتدوا عليه , و يوصيهم بالهرب
السريع , لئلا يصابوا بشيء من الرياح أو الأنواء .. و فيحذيره هذا معان كثيرة ,
فإما أنه يحذرهم لخوفهم الشديد منها في حياتهم الواقعية , فهو يعرِّضُ بهذا الأمر
في إيمانهم بالشعوذة و الأساطير , أو أنه يضع نفسه كالريح الهوجاء التي تضربهم
فعليهم الخوف منها , و المعنى الثالث الذي لاح لي , أنه يخوفهم من شيء طالما وقف
تجاهه من الرياح الهوج و الأنواء التي هي كناية عن الدنيا , و ما تبعثه من مصائب
ومكائد , فهم ليسوا بشيء بالنسبة إليه , و لن يستطيعوا مجابهة شيء استطاع مواجهته ,و
الوقوف في وجهه .. فهو في هذه المرحلة قد بلغ شأوا عظيما ,و وقف موقفا خطيرا في
اتجاه الريح التي طالما خشيها و ابتأس لوجودها .!
و يذيِّل قصيدته ,
ببيت يعطينا دلالة على تغيُّر نهجه و ظهور نظرة حادثة في حياته :
من
جاش بالوحي المقدس قلبه === لم يحتفل بحجارة الفلتاء[7]
فماذا يكون ذلك
الوحي المقدس .. ؟ يقول الأستاذ -جون طنوس- : "أنه ذلك الاكتشاف لمنابع القوة
التي أنقذته من جاذبية الصغائر و رفعته إلى سماء القدرة و الجبروت , حيث جاذبية
الخلق و التحدي " .. [8] .
إن تحديه للقدر ,, لم يكن في صالحه .. لأنه كان
خاسراً مسبقاً .. فمن ذا الذي يقف أمام القوة الجبارة التي تكتسح الأرض .. !
و يقول الدكتور
محمد مندور معلقاً على هذه القصيدة ,و معقباً على ذلك الصوت الصدّاح الذي أطلقه
أبو القاسم : "إن روح أبي القاسم كانت ترهص بكل ذكاء بالأيام المجيدة التي
يحياها شعب تونس , إذ يجاهد الطغيان دون أن يعرف الضعف أو الاستكانة ".. [9]
قصيدة ( النبي المجهول )
كانت كآبته و أحزانه تزيده في أواخر عمره قوة و
إصراراً على مواجهة الحياة , و على كسر ذلك الحاجز المهيب , و بما أنه رجل مسؤول
يحمل همَّ أمته , و يتأثر بحساسية بالغة بالسيطرة الأجنبية التي تقهره و تقهر شعبه
؛ فقد نذر نفسه داعية عزٍ و منادي صحوة ,
بحث عن موضع القوة في بلاده , فوجد أن الشعب بذاته هو القوة التي لن يقف
أمامها شيء .. فأضحى مهيجاً للمشاعر , لكنه يصطدم بتلك القوة المحتملة , تقف
مكتوفة الأيدي , فيصاب بخيبة أمل كبيرة , ! و يتحول عن حاله تلك ليهرب إلى الغاب و
ينزوي في أحضانها, كانت تلك قصيدته التي سماها بـ ( النبي المجهول ) ..!
و قد استعار الشابي
شخصية ( النبي ) ليتسمى بذلك .. و في هذه الاستعارة خروج كبير على الطريقة العربية
, التي تفصل كثيراً بين مقام النبوة و تجعل منه قداسة كبيرة و بين الشاعر أو حتى
المصلح , فثمة درجات لا يجوز الخلط بينها..! و لكن هذا الاستخدام قد أتى مستجيباً
للنزعة الرومانطيقية التي ينزع إليها أبو القاسم الشابي .,.. [10]
كما أن استعارة (
النبي ) .. ذات دلالات ذكية , أهمها أن النبي في ناموس الكون لم يأت إلا و هو صالح في ذاته , و صاحب رسالة سامية لا شك في
نتائجها , كما أنه يملك الحلول السائغة الناجعة .. إلا أنه يلاقي الرفض و الطرد ..
!
أيها
الشعب ,, ! ليتني كنت حطابا === فأهوي على الجذوع بفأسي
في مطلع قصيدته : آثر استجلاب صور الغابة , و
أعمالها و مظاهرها , و الأخذ من مظاهر الطبيعة كالسيول و الرياح و الشتاء و
العواصف و الأعاصير .. ليوظفها في قصيدته , و ربما كانت البداية بهذه الاستعارات
منطلقة من غايته التي ضمنها القصيدة , فهو يريد أن يستثير المشاعر , لكنه يعلم
مسبقا فشل ذلك , و ربما كان يعلم أن الشعب لن يصغي إليه و لن يسمع , لكنه يكثف تلك
الصور , تبعا لجبلَّته التي تجنح إلى الطبيعة و تأوي إليها , و مما يدل على ذلك أنه ما إن انتهى من تلك
المقدمة حتى سخر من الشعب , و راح يغلو في تصويره بالتخاذل و الضعف و الغباء .. :
ليت
لي قوة الأعاصير ..! لكن === أنت حي , يقضي الحياة برمسِ
أنت لا تدرك
الحقائق إن طافت ==== حواليك دون مسٍ و جبسِ
و قد أمعن في
السخرية و الشتم لهذا الشعب , و هذا في الحقيقة يخالف ادعاءه بأنه صاحب رسالة
نورانية طاهرة لم تتوسخ بطين هذا العالم , خصوصا أن إقذاعه هذا يقابله احترام كبير
لأصحابه الذين وافقوا رأيه و سلكوا سبيله ,! و يرى- الأستاذ جان طنوس- أن هذا
التناقض في تعامله مع أتباعه و مع العامة و السوقة و الشعب .. هو مما يميز شخصيته
و يلمح إلى شيء من طبيعتها العجيبة ... [11]
و تحول بعدها ,
ليحكي جهوده التي بذلها في سبيل إيقاظ ذلك الشعب الهزيل الميت , لكنه كلما قدم حلا
رفضوه , أو ارتأى رأيا أنكروه و سخروا منه .. !
فقد كان ينافح عن
شعبه , و يطالبه بالتحرر , ليس من الاستعمار و حسب , بل من أغلال أخرى وصفتها
الأستاذة - سعاد أبو شقرا- " بأنها أشد خطورة و آلم لنفس الشاعر , لأنها
أغلال معنوية بعيدة الأثر في حياة الأمم , ألا و هي أغلال الجهل و الفقر و
التقاليد البالية و المعتقدات الرجعية .. " [12]
و من ثم قال :
ثم
ألبستني من الحزن ثوبا === و بشوك الجبال توجت رأسي[13]
هنا يعلل بكل صراحة
سبب حزنه و عذابه , إنه من ذلك الشعب الذي لا يعي كثيرا , ذلك الذي ارتضى المهانة
على العزة , و الخوف على الإقدام ..!
و لفرط حساسيته .. فقد قرر الرحيل إلى أكناف
الغاب , فهو سيعيش مع الطبيعة ,لينسى ذلك البؤس , و ينسى ذلك الشعب المتخاذل , و
سينتظر أجله ليقضيه هناك تحت شجرة الصنوبر , .. فهو يلجأ إليها ليستشعر السلام
الروحي بعد المعاناة الشديدة البئيسة , نلحظ النغمة الجبرانية , التي تتغنى بالغاب
, كما نرى شطره ( و بشوك الجبال توجت رأسي )
كصورة مستحدثة .. تتداخل و الصورة المسيحية التي تعنى كثيراً بتيجان الشوك
لتدل على العذاب الشديد .. [14]
و من هنا .. عاد
ليصرخ في وجه شعبه , ليذكرهم بقوتهم لو علموا , عاد و نفسه مليئة بهموم كثيرة ,
لكنها مطبوعة على أمل عريض , فالشعب قوة
عظيمة , افتقدت للسائس الحكيم .. -هنا لخص سبب ضعف الأمة- .. ليس في الشعب , و
إنما في فقده للساسة العبقريين .. - و قد استمرت هذه الحقيقة حتى اليوم .. - ..
إلا أنه في خضم
نصيحته , يجابه بمن يغضب منه , و يؤلب عليه و يتهمه بالسحر, و يصمه بالكفر ,و
يطالب بإبعاده .. فما هو إلا روح شريرة نحسة .. !
فانتقل إلى الغاب , ليطمئن هناك .. ليهرب إلى
شجر الصنوبر و الزيتون .. ليحيا مع الطير و الربيع .. و ليمكث زمنا يتساءل عن سر
الحياة .. و هو مطمئن .. ليكتشف سرها و يعلم حقيقتها , و كأنه يشير إلى أن حقيقة
الحياة كامنة في قلب الغاب الهادئ الوديع . !!
إلا أن هذه الخاتمة
التي لجأ إليها الشاعر .. لا تتناسب و عمل النبي الذي يصبر طويلا لا يستسلم , بل
يقف بكل صمود , كما أن هروبه إلى خارج محل دعوته يعد انهزاما , و ما ينبغي لنبي أن
ينهزم .. ففي ذلك الهروب استسلام و انقطاع , مما يعزز فكرة جنونه أو شذوذ طريقته
.. و قد وصفتها الأستاذة -ريتا عوض - بأنها : ( نبوة سلبية ) .. [15] .
كما نلمس ظاهرة
بيّنة في شعر هذا الرجل و هي توافق الأوزان و الموسيقى مع العواطف و الانفعالات ,
ينوع بينها بشكل منتظم متناسق , يثير المستمع و يجذب القارئ , فنرى النغمة الهامسة
الحزينة في قصيدة ( الصباح الجديد ) , و الموسيقى
الصاخبة المتمردة في ( النبي
المجهول ) و ( إرادة الحياة ) و ( أنشودة الجبار ) .. و نغما وديعا و هامسا في ( صلوات
في هيكل الحب ) .. [16] . و في هذا التنوع قيمة فنية لا يمكن تجاهلها ..
لأن الشاعر حين يكتب عن أحزانه و كآبته , ينقلنا –عنوة أو عفوا - إلى الجو الذي
يعايشه لحظة بلحظة , صوراً , و أفكاراً , و هاجساً , بنغمة هامسة , أو ربما ثائرة
تتناسب و اللحظة النفسية التي يكابدها , أو تلك التي يسعد في أحضانها .. ! .
[5]
جان طنوس :أبو القاسم الشابي , ملامح
الموت و الحياة في شخصية الشابي و شعره – منشورات دار علاء الدين ط 1 :ص 132.
[8]
جان طنوس: أبو القاسم الشابي , ملامح الموت و الحياة في شخصية الشابي و شعره
.. ص 136 .
[9]
أبو القاسم محمد كرو : آثار الشابي و صداه
في الشرق – المكتب التجاري للطباعة و التوزيع و النشر الطبعة الأولى : ص 210 .
[14]
خليفة محمد التليسي : -الشابي و
جبران ,, دار الثقافة , بيروت لبنان ..
الطبعة الثانية 1967 .ص 56 .
[16]–
خليفة محمد التليسي - الشابي و جبران.. ص
103 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق