الأحد، 23 فبراير 2014

نماذج لقصائد الكآبة و الحزن عند الشاعر ابو قاسم الشابي و تحليلها :



 نماذج لقصائد الكآبة و الحزن و تحليلها :
نشيد الأسى :
 في قصيدة نشيد الأسى نرى أن عنوانها يكشف عن طبيعتها التي أرادها هذا الشاعر؛ فجعل للأسى نشيداً , و إن شئنا فلنقل جعل للأسى صوتا مرويا مسموعا,  و النشيد في كلام العرب هو رفع الصوت, و ربما التغني أيضا , أراد أن يتصالح مع الدنيا , و يعطي عهداً بالسلام و الوئام , ربما كان هروباً من حزنه , و استسلاماً لهزيمته , لكنه يتساءل بكل أسى , عن ليل نفسه , متى ينفلق الصباح عنه لأنه يحس بعواصف تترى تهب عليه ,و سمَّاها بالظلام , أراد أن يغني أغنية الحياة , نراه يكثر من الاستثناءات العجيبة , و الاستدراكات ليشدد على سوء حظه في هذه الدنيا و تكالب الأقدار عليه !
فيقول :
ما للرياح تهب في الدنيا و يدركها اللغوب
إلا رياحي , فهي جامحة تمردها عصيب
 تساءل بكل حرقة , عن ذلك التمايز العجيب في هذه الرياح , التي قدَرُهَا عند الآخرين -مهما بلغت صولتها- أن تتعب , فتقف و لو قليلا , أما الرياح التي هبت علي , فلها قدرة خارقة , تمتاز بالجموح و التمرد العصيب ,لا يمسها تعب أو لغوب. !
ثم راح يتساءل بكل مرارة أيضاً عن سبب تعاسته في هذه الدنيا , كان ينكر استحقاقه لهذا السيم المتواصل , يرى أن قلبه نقي أنقى من الموج الوضيء , و ألطف من أغاريد الطيور, و انتهى إلى أنه تجنب الأثم الأكبر؛ الذي هو إثم الحياة , فمالنفسه النقية ينالها عذابٌ أليم ..!؟
بعد تلك المقدمة التي عبَّر فيها عن موقف القدر منه , و عن الحياة و ما تحيكه ضده , انطلق إلى عالمه الآخر ,هارباً حالماً , حاملاً همومه ليطفئها ,و أحزانه ليبدلها بشيء آخر, فأضحى ينادي الغابة , لكنه نداء يحمل أسئلةً يحاول أن يقارن من خلالها بينه و بين الغابة ,! و كيف استطاعت تلك الغابة أن تصمد في وجه الخطوب , و أن تجابه الأخطار! حتى باتت ملجأ لكل حزين , و موئلا لكل مكتئب باكٍ .
أعاد بعد ذلك نداءه للشفق , و هو يعني به الصباح , و ربما قصد به التغيير في الحياة . أراد أن يبدأ مرحلة الجديدة في علاقات الكون .. فينادي بأعلى صوته :
يا كوكبَ الشفق الضحوك و أنت مبتهل الكئيب
لح في السماء , و غن أبناء الشقاوة و الخطوب
أنشودة تهب العزاء لكل مبتئس غريب
فالطير قد أغفت و أسكت صوتها الليل الهيوب
و ابسط جناجك في الوجود فإنه عذب خلوب
و انشر ضياءك ساطعا لينير أعماق القلوب
فعلى جوانبها من الأحزان ديجور رهيب
هكذا أراد من ندائه , تمنى رؤية  التغير الذي عبر عنه بـ(كوكب الشفق ) أو بـ( الصباح) ,فإنه يفرق الظلمة و يطرد الدياجير المدلهمة , هو لا يقصد الصباح بذاته و لا الظلام لذاته , لكنها صور الطبيعة التي تزخر بها قريحته , يقصد البحث عن الأمل و التجدد , و أمنية الخلاص من الواقع الكئيب .. !
 انطلق حالماً ,, متفكراً في الطبيعة و عالمها البديع الجميل ؛ ليبرد كبده بمائها القراح , و بعد ذلك الأمل , و تلك النداءات , عاد من جديد ليعقد مقارنة بينه و بين الطبيعة , كيف أنها تعود جميلة أنيقة نقية , و هو يبتلى بالنقص و الحزن و التعاسة !؟ .
و يختتم قصيدته بأنه لن يداخله سرور , حتى و إن تضاحكت الحياة بأسرها , ترى ما السبب في ذلك .. ؟ يجيب عنه .:
أصغي لأوجاع الكآبة و الكآبة لا تجيب
في مهجتي تتأوه البلوى و يعتلج النحيب
و يضج جبار الأسى و تجيش أمواج الكروب
إني أنا الروح الذي سيظل في الدنيا غريب
و يعيش مضطلعا بأحزان الشبيبة و المشيب[1]
 قد اتضح لنا الآن سبب مهم في حزنه , و هو تلك الروح الكبيرة التي يحملها , تلك النفس الأبية المسؤولة التي تجعله ينظر دوماً إلى مواطن الأحزان , يتمنى لو انقلبت الشرور خيراً , و الحزن فرحاً , لكنه إذ يرعي سمعه للكآبة , فهو الكئيب ,! و مما يزيد ذلك كآبة أنه يتمنى لو بادلته الكآبة اهتمامه , فتصيخ له , لكنها لا تصيخ .. !
  ثم إن أبا القاسم .. يظهر بمظهر الرجل الكبير , الذي يُعنى بأحزان مجتمعه , فهو يضطلع بأحزان الشبيبة و المشيب , و هنا مفارقة واقعية ,لأن أبا القاسم شاب في مقتبل عمره , لكنه في دواخل نفسه يرى أنه رجل حقيق بفداء العالم و حمل همومه و ربما رأى أنه مسؤول عن كثير مما يحل به  .. !
قصيدة : ( نشيد الجبار , أو هكذا غنى بْرُمِيثْيوس .. )
سأعيش رغم الداء و الأعداء === كالنسر فوق القمة الشماءِ
مع أنه كان في هذه القصيدة يصراع من أجل الحياة , إلا أنها تضجُّ بكثير من الأسى و تضطرم فيها الصراعات الحقيقية و الوهمية , تنوعٌ في المفردات , و تبادلٌ في المعاني و تجاذب للطبيعة , و استعارة لكثير من معانيها و غوص في أسرارها .!
لديه الكثير من الأعداء , و ربما كان أول أعدائه هي الدنيا ,  و سيحيا برغم المرض الذي يوهنه و يضع من قوته .. !
استعار لنفسه اسم الجبار , و في هذا دليل إصرار عجيب على الغلبة و الوقوف ضد طوفان الحياة الهائج .. !
و نرى أن أبا القاسم قد استعار شخصية ( بروميثيوس ) و هو إله في الأساطير اليونانية القديمة , دافع عن الإنسان , فعاقبته الآلهة الأخرى عقاباً شديداً , لكنه كان صلباً لم يتزحزح , و ظلَّ متحدياً برغم كل ما يواجهه ..!
و قد اختار أبو القاسم هذه الشخصية اليونانية القديمة ؛ لأنها ترمز إلى الصمود و التحدي و الثورة .. بالرغم من الألم الذي ينوء به , و كأنه يشير إلى حاله الشخصية التي ترزح تحت نير الاتهامات الكثيرة , و العداء الحاقد , و زيادة إلى ذلك , مرضه الذي يهد كيانه , يرى نفسه وحيدا يقف أمام تلك الأمواج العاتية من الناس , و ذلك المد الهائل من القدر الأليم ,  كان ( بروميثيوس ) وحيداً مقيداً متألماً , و كذلك كان أبو القاسم .. [2] .
إلا أن الأستاذة -ريتا عوض- تشير إلى أن شخصية (بروميثيوس) قد توقف ذكرها على العنوان للقصيدة , فلم يأت لها بيان في القصيدة كما أن إيرادها ضمن شعر عربي ضمن إطار الثقافة العربية يجعل منها فكرة قاصرة , غير مفهومة لكثير من القراء العرب .. لأنها ذات بعد رومانسي أوربي يوناني .. [3] .

و يرى هشام الريفي أن هذه القصيدة تحمل قرائن عديدة تحيل على مرجعية غير عربية , و أن أبا القاسم الشابي كشاعر و مغنٍ , بات شخصية غريبة عن التراث العربي , عريقة في السنّة الأدبية الغربية ,  و هذا تقليد رومانسي احترمه أبو القاسم برغم جهله بلغة غير اللغة العربية ! [4]
و تشكل هذه القصيدة مرحلةً جديدة في نظرة أبي القاسم الشابي إلى الحياة , إذ كان في سابق عهده يرى بؤسها و شدة بأسها , و أنها مظنة الفجيعة و محل النقيصة و موطن البلاء , فكان يرجو الموت و يأمله , لكنه هنا .. قد خلع ذاته العتيقة و لبس الإنسان الجديد , ابن الحياة الجديد , و اعتنق إرادة القوة التي بلغت مداها – كما يقول جان طنوس - في قصيدته الرائعة ( أنشودة الجبار ) ..
و يصفه بأنه " كان سجين الموت الروحي ,و العبودية العمياء , فأصبح الآن حرا يذوب في روح الكون الخلَّاقة , "[5] .
 إن التحدي الذي يدفع به الشابي أمام القدر , يعطيه قيمة أعلى , و يملأ نفسه سعادة غريبة ترفعها فوق صغائر الدنيا , كالنسر الذي يتعالى على الحشرات التي تدب على الأرض , فلم يعد القدر الآن حتمية قوية لا بد أن يخضع لها , لكنه يعتقد أنها نقطة انطلاق لإرادة القوة التي تبدل الظروف كما تشاء ..  [6]
إن القصيدة لا تزال في طور الكآبة , لكنها كآبة إيجابية , تتحول إلى أداة فاعلة , إلى محرك دافع للقوة محفز للعمل و التفاعل مع تلك الحياة , لم يعد ذلك الإنسان المنزوي المنغلق على ذاته , المحلق في خيالاته في أوساط الغابة , بل انبرى أمام مد الحياة , ليدفع به , لكنني أؤكد أنه لو انتصر لعاد إلى غابته , لأنه أحب الحياة الأولى , و لم تحركه تجاه المواجهة هذه سوى حياة الغاب بكل ما فيها من هدوء و سكينة ,,
أما إذا خمدت حياتي و انقضى === عمري و أخرست المنية نائي
فأنا السعيد بأنني متحول === عن عالم الآثام و البغضاءِ
لأذوب في فجر الجمال السرمدي == و أرتوي من منهل الأضواءِ .

 و هو الآن يدعو إلى مواجهة القدر , بكل ثبات و صمود , و سوف يقف أمامه شامخاً , و يرى أنه و إن هُزم في هذا الصراع , سيعد نفسه منتصراً , و أنه سينتهي إلى الحياة التي يريدها حقيقة .. لذا فهو قد أعاد التفكير في طريقة تعامله مع الحياة و القدر, فوجد أن غايته التي تتنتهي في الجمال السرمدي و الخلود الأبدي في أكناف الخيال البديع , له طرق عديدة , لكن أولاها و أعظمها هو جهاد الحياة و القدر , فمتى انتهى فسوف يُبّشَّرُ بحياة أخرى أجمل و أروع ! .
 و قد اختتم قصيدته , بإعلان التحدي مرة أخرى .. و وجه حديثه لأولئك الذين أرادوا هدمه و تمنوا انتهاءه ؛ بأنه لن يمضي إلا منتصراً عليهم , متغلباً على مكائدهم ..        و شبَّههم بالأطفال, و جعل نفسه أرفع منزلة حيث يطال السماء , و هم تحتها يحيكون مؤامراتهم . !
و قد قدم لنا صوراً بديعة, حين يقول :
فارموا على ظلي الحجارة و اختفوا === خوف الرياح الهوج و الأنواءِ
فإنهم في نظره لن يبلغوا إن استطاعوا أكثر من ظله , ليمكروا فيه و يعتدوا عليه , و يوصيهم بالهرب السريع , لئلا يصابوا بشيء من الرياح أو الأنواء .. و فيحذيره هذا معان كثيرة , فإما أنه يحذرهم لخوفهم الشديد منها في حياتهم الواقعية , فهو يعرِّضُ بهذا الأمر في إيمانهم بالشعوذة و الأساطير , أو أنه يضع نفسه كالريح الهوجاء التي تضربهم فعليهم الخوف منها , و المعنى الثالث الذي لاح لي , أنه يخوفهم من شيء طالما وقف تجاهه من الرياح الهوج و الأنواء التي هي كناية عن الدنيا , و ما تبعثه من مصائب ومكائد , فهم ليسوا بشيء بالنسبة إليه , و لن يستطيعوا مجابهة شيء استطاع مواجهته ,و الوقوف في وجهه .. فهو في هذه المرحلة قد بلغ شأوا عظيما ,و وقف موقفا خطيرا في اتجاه الريح التي طالما خشيها و ابتأس لوجودها .!
و يذيِّل قصيدته , ببيت يعطينا دلالة على تغيُّر نهجه و ظهور نظرة حادثة في حياته :
من جاش بالوحي المقدس قلبه === لم يحتفل بحجارة الفلتاء[7]
فماذا يكون ذلك الوحي المقدس .. ؟ يقول الأستاذ -جون طنوس- : "أنه ذلك الاكتشاف لمنابع القوة التي أنقذته من جاذبية الصغائر و رفعته إلى سماء القدرة و الجبروت , حيث جاذبية الخلق و التحدي " .. [8] .
  إن تحديه للقدر ,, لم يكن في صالحه .. لأنه كان خاسراً مسبقاً .. فمن ذا الذي يقف أمام القوة الجبارة التي تكتسح الأرض .. !
و يقول الدكتور محمد مندور معلقاً على هذه القصيدة ,و معقباً على ذلك الصوت الصدّاح الذي أطلقه أبو القاسم : "إن روح أبي القاسم كانت ترهص بكل ذكاء بالأيام المجيدة التي يحياها شعب تونس , إذ يجاهد الطغيان دون أن يعرف الضعف أو الاستكانة ".. [9]




قصيدة ( النبي المجهول )
 كانت كآبته و أحزانه تزيده في أواخر عمره قوة و إصراراً على مواجهة الحياة , و على كسر ذلك الحاجز المهيب , و بما أنه رجل مسؤول يحمل همَّ أمته , و يتأثر بحساسية بالغة بالسيطرة الأجنبية التي تقهره و تقهر شعبه ؛ فقد نذر نفسه داعية عزٍ و منادي صحوة ,  بحث عن موضع القوة في بلاده , فوجد أن الشعب بذاته هو القوة التي لن يقف أمامها شيء .. فأضحى مهيجاً للمشاعر , لكنه يصطدم بتلك القوة المحتملة , تقف مكتوفة الأيدي , فيصاب بخيبة أمل كبيرة , ! و يتحول عن حاله تلك ليهرب إلى الغاب و ينزوي في أحضانها, كانت تلك قصيدته التي سماها بـ ( النبي المجهول )  ..!
و قد استعار الشابي شخصية ( النبي ) ليتسمى بذلك .. و في هذه الاستعارة خروج كبير على الطريقة العربية , التي تفصل كثيراً بين مقام النبوة و تجعل منه قداسة كبيرة و بين الشاعر أو حتى المصلح , فثمة درجات لا يجوز الخلط بينها..! و لكن هذا الاستخدام قد أتى مستجيباً للنزعة الرومانطيقية التي ينزع إليها أبو القاسم الشابي .,.. [10]
كما أن استعارة ( النبي ) .. ذات دلالات ذكية , أهمها أن النبي في ناموس الكون لم يأت إلا و هو  صالح في ذاته , و صاحب رسالة سامية لا شك في نتائجها , كما أنه يملك الحلول السائغة الناجعة .. إلا أنه يلاقي الرفض و الطرد .. !
أيها الشعب ,, ! ليتني كنت حطابا === فأهوي على الجذوع بفأسي
 في مطلع قصيدته : آثر استجلاب صور الغابة , و أعمالها و مظاهرها , و الأخذ من مظاهر الطبيعة كالسيول و الرياح و الشتاء و العواصف و الأعاصير .. ليوظفها في قصيدته , و ربما كانت البداية بهذه الاستعارات منطلقة من غايته التي ضمنها القصيدة , فهو يريد أن يستثير المشاعر , لكنه يعلم مسبقا فشل ذلك , و ربما كان يعلم أن الشعب لن يصغي إليه و لن يسمع , لكنه يكثف تلك الصور , تبعا لجبلَّته التي تجنح إلى الطبيعة و تأوي إليها ,  و مما يدل على ذلك أنه ما إن انتهى من تلك المقدمة حتى سخر من الشعب , و راح يغلو في تصويره بالتخاذل و الضعف و الغباء .. :
ليت لي قوة الأعاصير ..! لكن === أنت حي , يقضي الحياة برمسِ
أنت لا تدرك الحقائق إن طافت ==== حواليك دون مسٍ و جبسِ
و قد أمعن في السخرية و الشتم لهذا الشعب , و هذا في الحقيقة يخالف ادعاءه بأنه صاحب رسالة نورانية طاهرة لم تتوسخ بطين هذا العالم , خصوصا أن إقذاعه هذا يقابله احترام كبير لأصحابه الذين وافقوا رأيه و سلكوا سبيله ,! و يرى- الأستاذ جان طنوس- أن هذا التناقض في تعامله مع أتباعه و مع العامة و السوقة و الشعب .. هو مما يميز شخصيته و يلمح إلى شيء من طبيعتها العجيبة ... [11]
و تحول بعدها , ليحكي جهوده التي بذلها في سبيل إيقاظ ذلك الشعب الهزيل الميت , لكنه كلما قدم حلا رفضوه , أو ارتأى رأيا أنكروه و سخروا منه .. !
فقد كان ينافح عن شعبه , و يطالبه بالتحرر , ليس من الاستعمار و حسب , بل من أغلال أخرى وصفتها الأستاذة - سعاد أبو شقرا- " بأنها أشد خطورة و آلم لنفس الشاعر , لأنها أغلال معنوية بعيدة الأثر في حياة الأمم , ألا و هي أغلال الجهل و الفقر و التقاليد البالية و المعتقدات الرجعية .. " [12]
و من ثم قال :
ثم ألبستني من الحزن ثوبا === و بشوك الجبال توجت رأسي[13]
هنا يعلل بكل صراحة سبب حزنه و عذابه , إنه من ذلك الشعب الذي لا يعي كثيرا , ذلك الذي ارتضى المهانة على العزة , و الخوف على الإقدام ..!
 و لفرط حساسيته .. فقد قرر الرحيل إلى أكناف الغاب , فهو سيعيش مع الطبيعة ,لينسى ذلك البؤس , و ينسى ذلك الشعب المتخاذل , و سينتظر أجله ليقضيه هناك تحت شجرة الصنوبر , .. فهو يلجأ إليها ليستشعر السلام الروحي بعد المعاناة الشديدة البئيسة , نلحظ النغمة الجبرانية , التي تتغنى بالغاب , كما نرى شطره ( و بشوك الجبال توجت رأسي )  كصورة مستحدثة .. تتداخل و الصورة المسيحية التي تعنى كثيراً بتيجان الشوك لتدل على العذاب الشديد .. [14]
و من هنا .. عاد ليصرخ في وجه شعبه , ليذكرهم بقوتهم لو علموا , عاد و نفسه مليئة بهموم كثيرة , لكنها مطبوعة على أمل عريض ,  فالشعب قوة عظيمة , افتقدت للسائس الحكيم .. -هنا لخص سبب ضعف الأمة- .. ليس في الشعب , و إنما في فقده للساسة العبقريين .. - و قد استمرت هذه الحقيقة حتى اليوم .. - ..
إلا أنه في خضم نصيحته , يجابه بمن يغضب منه , و يؤلب عليه و يتهمه بالسحر, و يصمه بالكفر ,و يطالب بإبعاده .. فما هو إلا روح شريرة نحسة .. !
 فانتقل إلى الغاب , ليطمئن هناك .. ليهرب إلى شجر الصنوبر و الزيتون .. ليحيا مع الطير و الربيع .. و ليمكث زمنا يتساءل عن سر الحياة .. و هو مطمئن .. ليكتشف سرها و يعلم حقيقتها , و كأنه يشير إلى أن حقيقة الحياة كامنة في قلب الغاب الهادئ الوديع . !! 
إلا أن هذه الخاتمة التي لجأ إليها الشاعر .. لا تتناسب و عمل النبي الذي يصبر طويلا لا يستسلم , بل يقف بكل صمود , كما أن هروبه إلى خارج محل دعوته يعد انهزاما , و ما ينبغي لنبي أن ينهزم .. ففي ذلك الهروب استسلام و انقطاع , مما يعزز فكرة جنونه أو شذوذ طريقته ..  و قد وصفتها الأستاذة  -ريتا عوض - بأنها : ( نبوة سلبية ) .. [15]  .
كما نلمس ظاهرة بيّنة في شعر هذا الرجل و هي توافق الأوزان و الموسيقى مع العواطف و الانفعالات , ينوع بينها بشكل منتظم متناسق , يثير المستمع و يجذب القارئ , فنرى النغمة الهامسة الحزينة في قصيدة ( الصباح الجديد ) , و الموسيقى الصاخبة المتمردة في ( النبي المجهول ) و ( إرادة الحياة ) و ( أنشودة الجبار ) .. و نغما وديعا و هامسا في ( صلوات في هيكل الحب ) ..  [16] .  و في هذا التنوع قيمة فنية لا يمكن تجاهلها .. لأن الشاعر حين يكتب عن أحزانه و كآبته , ينقلنا –عنوة أو عفوا - إلى الجو الذي يعايشه لحظة بلحظة , صوراً , و أفكاراً , و هاجساً , بنغمة هامسة , أو ربما ثائرة تتناسب و اللحظة النفسية التي يكابدها , أو تلك التي يسعد في أحضانها  .. ! .



[1] الديوان : ص : 41 .
[2] ريتا عوض : أبو القاسم الشابي المؤسسة العربية للدراسات و النشر الطبعة الأولى : ص 49-50 .
[3] ريتا عوض : أبو القاسم الشابي - .. ص 50 .
[4] هشام الريفي في : دراسات في الشعر – الشابي نموذجا -  بيت الحكمة :ص 280 .
[5] جان طنوس :أبو القاسم الشابي , ملامح الموت و الحياة في شخصية الشابي و شعره – منشورات دار علاء الدين ط 1 :ص 132.
[6] جان طنوس :أبو القاسم الشابي , ملامح الموت و الحياة في شخصية الشابي و شعره ..  ص 133 .
[7] الديوان : ص : 29 .
[8] جان طنوس: أبو القاسم الشابي , ملامح الموت و الحياة في شخصية الشابي و شعره ..  ص 136 .
[9] أبو القاسم محمد كرو : آثار الشابي و صداه في الشرق – المكتب التجاري للطباعة و التوزيع و النشر الطبعة الأولى : ص 210 .
[10] ريتا عوض : أبو القاسم الشابي  . ص 58 .
 [11] جان طنوس : أبو القاسم الشابي , ملامح الموت و الحياة في شخصية الشابي و شعره ..  ص 43 .
 [12]أبو القاسم محمد كرو : آثار الشابي و صداه في الشرق..ص 194 .
[13] الديوان : ص : 117 .
[14] خليفة محمد التليسي : -الشابي و جبران  ,, دار الثقافة , بيروت لبنان .. الطبعة الثانية 1967 .ص 56 .
[15] – ريتا عوض - أبو القاسم الشابي.. ص 59 .
[16]– خليفة محمد التليسي -  الشابي و جبران.. ص 103 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق