الثلاثاء، 18 فبراير 2014

التربية على المواطنة

التربية على المواطنة بين الخطاب المدرسي والواقع المجتمعي

أظن أن مسالة بروز ثقافة التربية على المواطنة في الخطاب التربوي المعاصر ،تحكم فيها على الأقل سياقان:
سياق دولي: مع التطور الفائق لوسائل وتكنولوجيات الاتصال والإعلام الحديثة(فضائيات،انترنيت...)،وتطوير وتحديث أشكال الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية الدولية(العولمة،الشركات المتعددة الجنسيات والخارقة للحدود،اتفاقيات الغات والتبادل الحر...)،وسيادة منطق الليبيرالية الراسمالية المتوحشة في العالم(احتكارات،استلاب استهلاكي،هيمنة القيم المادية والمالية،سلعنة الإنسان والعلاقات والقيم والتمثلات المجتمعية...)،و احتدام الصراع الشرس بين الدول القوية من أجل الهيمنة السياسية والاقتصادية على ثروات وخيرات وشعوب الأرض ( حروب ، استعمار جديد...)مع كل ذلك ،أصبحت الكيانات الوطنية(الدولة ،الأمة،الوطن،القومية...)مهددة في وجودها وسيادتها الوطنية،وأصبح الفرد/ الإنسان مهددا نفسه بانحلال واندثار الروابط الثقافية والقيمية والنفسية التي تربطه بمجموعته الوطنية(الوطن).
سياق وطني: بالإضافة إلى الاختراقات والتهديدات الدولية السلبية السالفة الذكر على كيان الوطن والمواطن،أصبحت بلادنا في العقود الأخيرة تعرف بعض الظواهر السلبية والمشينة التي تؤشر على ضعف تشبع بعض المواطنين(أفرادا وجماعات ومسؤولين) بقيم المواطنة الحق؛كما أننا بدأنا نعرف مؤخرا على المستوى السياسي والثقافي المعاصر تفتحا وطنيا ودوليا متزايديا على قيم التحديث والدمقرطة وحقوق الانسان،من أجل بناء مجتمع جديد تحكمه نواظم الحداثة ودولة الحق والقانون والمؤسسات والمواطنة،وبالتالي تجاوز الاختلالات السلبية والتقليدية التي عرفها وتعرفها مجتمعاتنا.
من خلال معطيات وطبيعة السياقين الدولي والوطني ،تأتي أهمية إدراج التربية على المواطنة في المدرسة ،كاختيار وطني تربوي رسمي، نظرا لخطورة وأهمية المدرسة كمؤسسة للتنشئة الاجتماعية ، وذلك من أجل تحصين الوطن والمواطن/ة ضد كل أشكال الاختلالات والأخطار القائمة والمحتملة،وطنيا ودوليا،وتمتين الروابط الثقافية والاجتماعية والمؤسساتية والوجدانية والقيمية بين الفرد والجماعة، وبين المواطن والوطن.
فماهي المواطنة؟وكيف تجلت التربية على المواطنة في الخطاب التربوي المدرسي؟وأية علاقة بين التربية على المواطنة في المدرسة والواقع المجتمعي السائد؟
1- مفهوم المواطنة

دون الدخول في التدقيقات الخاصة بالمرجعية التاريخية والجغرافية والمعرفية لظهور المفهوم،فلتحديد المواطنة يمكن مقاربتها على الأقل من خلال ثلاث أبعاد أساسية:
-

 

البعد الفلسفي والقيمي: مادامت المواطنة هي إنتاج ثقافي إنساني (أي ليس إنتاجا طبيعيا)،فهي تنطلق من مرجعية فلسفية وقيمية تمتح دلالاتها من مفاهيم الحرية، والعدل ،والحق،والخير، الهوية،المصير والوجود المشترك،الطبعة الاجتماعية للإنسان
- البعد السياسي والقانوني

: حيث تُحدد المواطنة كمجموعة من القواعد والمعايير التنظيمية والسلوكية والعلائقية والقانونية داخل المجتمع؛ التمتع بحقوق المواطنة الكاملة، كالحق في المشاركة والتدبير واتخاذ القرارات وتحمل المسؤوليات،القيام بواجبات المواطنة، الحق في حرية التعبير، الحق في المساواة وتكافؤ الفرص...
- البعد الاجتماعي والثقافي

: وهو كون المواطنة تصبح كمحدد لمنظومة الثمثلات و السلوكيات والعلاقات والقيم الاجتماعية، بحيث تصبح المواطنة كمرجعية معيارية وقيمية إجتماعية،و كثقافة وناظم مجتمعي.
وفي كلمة واحدة يمكن اعتبار المواطنة كمجموعة من القيم والنواظم لتدبير الفضاء العمومي المشترك .ويمكن تحديد أهم تجليات المواطنة في أربعة نواظم على الأقل:
- الانتماء

: أي الشعور بالانتماء إلى مجموعة بشرية ما و في مكان ما(الوطن)،مما يجعل المواطن يندمج ويتمثل ويتبنى خصوصيات وقيم هذه المجموعة التي ينتمي...
- الحقوق

: التمتع بحقوق المواطنة الخاصة والعامة،كالحق في الأمن وفي السلامة،والصحة والتعليم والعمل و الصحة والخدمات الأساسية العمومية،الحق في التنقل وحرية التعبير والانتماء والمشاركة السياسين،والحق في الحياة الكريمة...
- الواجبات

: كاحترام النظام العام،عدم خيانة الوطن،الحفاظ على الممتلكات العمومية،الدفاع عن الوطن،التكافل والوحدة الوطنيين،المساهمة في بناء وازدهار الوطن...
- المشاركة في الفضاء العام

: المشاركة اتخاذ القرارات السياسية العامة(الانتخاب والترشح)، تدبير المؤسسات العمومية،المشاركة في كل مايهم تدبير ومصير الوطن...
التربية على المواطنة،هي تلك التنشئة الاجتماعية التي تحاول تربية الفرد/المواطن على تمثل وتبني كل تلك القيم والنواظم السياسية والقانونية والمعرفية لمفهوم المواطنة،لتنعكس في سلوكاته وعلاقاته المجتمعية داخل الفضاء العام المشترك(الوطن)...
إذن،كيف تتبلور المواطنة والتربية عليها في الخطاب التربوي المدرسي؟
2- التربية على المواطنة في الخطاب المدرسي(نموذج المغرب)

انطلاقا من القيم التي تم التنصيص عليها كمرتكزات أساسية في الميثاق الوطني للتربية والتكوين ،نجد التربية على المواطنة،حيث من الغايات المسطرة للتربية على قيم المواطنة،وكما وردت في الجزء الأول من الكتاب الأبيض:
- تكريس حب الوطن وتعزيز الرغبة في خدمته.
- تنمية الوعي بالواجبات والحقوق.
- التربية على المواطنة والديمقراطية.
- تنمية القدرة على المشاركة الإيجابية في الشأن المحلي الوطني.(الكتاب الأبيض،الجزء الأول).
ولمزيد من التدقيق للتعرف على التربية على المواطنة في المنهاج المدرسي،يمكن الاستئناس بالوثيقتين )


USAIDالتاليتين،وهما مأخوذتان من ورشة تربوية أقيمت بشراكة مع وزارة التربية الوطنية و(
* الوثيقة الأولى:

العناصر المنهجية لكفايات المواطنة:
يجب أن تغطي كفايات المواطنة كافة المجالات التي تمارس فيها المواطنة كالأسرة، وفضاء المدرسة، والحياة بصفة عامة.
يجب أن تشمل أنشطة ذات طابع مدرسي وأخرى ذات طابع تربوي كاحترام القواعد وتطوير القدرة على الحكم الشخصي.
يجب أن تتسم بتعدد التخصصات والمعارف وتقاسمها بحيث تنمي لدى المتعلم قدرات على التحويل والتكيف.
يجب أن تكتسب من خلال وضعيات تتيح ممارسة الفعل المواطن في الحياة.
ا

لأبعاد المفاهيمية للمواطنة:
البعد السوسيو ثقافي : التواصل والتفتح على الآخر واحترام الاختلاف الثقافي
البعد الاجتماعي : التفاعل مع فريق، المساهمة في حياة الجماعة والأعمال المشتركة
البعد الديموقراطي : المشاركة في التعبير عن الرأي، واحترام الاختلاف، وممارسة الفكر النقدي.


أمثلة لمرجعية الكفايات :

معرفة الحقوق والواجبات، احترام الآخر، اعتبار الرأي المخالف، تقبل الاختلاف، احترام ضوابط داخل القسم والمدرسة، معرفة مؤسسات محلية وإقليمية وجهوية ووطنية، تطبيق مبادئ ديموقراطية في الوسط المدرسي، معرفة الاتفاقيات والمواثيق الدولية، التضامن مع أشخاص في وضعيات صعبة، محاربة مختلف أشكال العنف، المساهمة في تدبير النزاعات داخل القسم وفي المدرسة، المساهمة في حماية البيئة، المساهمة في مشاريع القسم أو المدرسة، الالتزام بمعايير الحوار الديمقراطي داخل الجماعة، تطبيق مسارات لاتخاذ قرارات متزنة.

الوثيقة الثانية:
الكفايات المرجعية في المناهج الدراسية:
- معرفة أحداث ومفاهيم وعلاقات تساعد على تعلم قيم المواطنة، وتمكن من تعرف المؤسسات المحلية والجهوية والوطنية
- تكوين وتنمية رصيد ثقافي إيجابي يكرس قيم المواطنة الفاعلة
- معرفة التنظيمات المحلية والإقليمية والاجتماعية
- معرفة أهم حقوق الطفل وحقوق الإنسان
- إدراك العلاقة بين فهم حقوق الطفل والإنسان، وتطبيقها، وتحسين نوعية الحياة

اكتساب معارف

- التمكن من منهجية البحث
- اكتساب كيفية التعامل مع المرفق العمومي والمحافظة عليه
- اكتساب آليات التفكير التي تساعد على التمييز بين قيم المواطنة وحقوق الإنسان وحقوق الطفل وما ينافيها
- تملك القدرة على التفكير المنظم تصورا وتخطيطا وإنجازا، وتوظيف ذلك في خدمة الذات والجماعة والوطن
- التمكن من أشكال التواصل مع المحيط، وتوظيفها في التفعيل الإيجابي لمفاهيم المواطنة وحقوق الإنسان

اكتساب منهجية
- التشبع بروح القوانين، واحترامها، والحرص على تطبيقها في الحياة اليومية
- بلورة قيم المواطنة ومبادئ حقوق الإنسان وحقوق الطفل في مواقف وسلوكات داخل المحيط المدرسي وخارجه
- اتخاذ مواقف وتصرفات وسلوكات تتماشى مع قيم المواطنة وقيم حقوق الطفل والإنسان
- احترام المؤسسات المحلية والجهوية والوطنية، والعمل على تقويتها بالمشاركة الفعلية والإيجابية.
التشبع بقيم واتخاذ مواقف .

كما تجدر الإشارة إلى أنه هناك طموح تربوي رسمي لتمديد آفاق التربية على المواطنة بربط المدرسة بالسلوك المدني ،بحيث يتجلى مفهوم السلوك المدني أساسا في:

- احترام الفرد لمبادئ ومقومات وثوابت مجتمعه ووطنه وهويته وأرضه وبيئته ؛
- إدراك الفرد لوجوده كعضو داخل جماعة (الجماعة بمفهومها الواسع الحديث التي تبدأ بالأسرة وتنتهي بالمجتمع الإنساني) ؛
- استحضار الوازع الأخلاقي ؛
- الالتزام بالواجبات واحترام الحقوق ؛
- اعتماد مبادئ العدالة والديموقراطية والإنتاجية والتضامن اجتماعيا وسياسيا وتربويا ؛
- ممارسة الحرية في إطار المسؤولية ؛
- احترام الأفراد والجماعة لمبادئ وقيم حقوق الإنسان ؛
- المشاركة في الحياة العامة، والاهتمام بالشأن العام.( الندوة الوطنية حول المدرسة والسلوك المدني
المجلس الأعلى للتعليم)


4 -
التربية على المواطنة والواقع المجتمعي السائد
إن الاقتصار على تركيز مفهوم المواطنة فقط في المؤسسة التربوية(المدرسة) رغم إيجابية وصحة هذا الإختيارالمجتمعي الإستراتيجي،ينم عن نقص وقصور كبيرين في تكريس قيم وثقافة المواطنة مجتمعيا؛حيث لا يمكن تربية المدرسة على المواطنة واستثناء باقي المنظومات والمؤسسات المجتمعية الأخرى والفاعلين العموميين الأساسيين فيها؛فهل تصح تربية الطفل/مواطن المستقبل على قيم المواطنة في المدرسة،ونترك باقي المؤسسات المجتمعية الأخرى خارج قيم وثقافة المواطنة؟!ابتداء من استمرار اللامساواة واللاعدل المجتمعين داخل الأسرة نفسها التي ينتمي إليها هذا الطفل/ة نفسه(التفاوت الطبقي،عدم الاستفادة من الخدمات الأساسية...)،استشراء قيم الأنانية والمصلحية الضيقة،الفساد السياسي والإداري والإجتماعي(نهب وتبديد المال العام،الرشوة،الكذب،الغش،الإجرام...)،لا تكافؤ الفرص(مدارس النخبة، احتكارالوظائف والمهن السامية،الزبونية...)،القبلية،لاديمقراطية بعض المؤسسات والخدمات الرسمية ، التزوير،اللاعدل،العنف العمومي غير المبرر(تعنيف المتظاهرين سلميا من أطر تربوية ومعطلين...)نربي الطفل على المواطنة في المدرسة،وعندما يخرج،أو يتخرج منها،سيجد واقعا مجتمعيا تحكمه معايير وضوابط وقيم أخرى لا مواطنة غالبا!
وعليه ،فإن التربية على المواطنة يجب أن تبدأ من "الأعلى"، ونقصد بذلك،المؤسسات القانونية والدستورية التي تؤطر وتدبر الوطن ككل،ويجب كذلك تربية" الكبار" والمسؤولين والفاعلين العموميين على المواطنة ليكونوا القدوة والمثال للصغار والكبار على السواء؛فالتربية على المواطنة ليست مجرد تربية مخصصة للأطفال و"صغار"المواطنين،إنها ثقافة وقيم معني بها الجميع،ويجب أن يستحضرها ويمارسها ويتربى عليها الجميع،ليكون الوطن للجميع في السراء والضراء،وفي الرفاهية والكرامة.
المواطنة هي ثقافة وقيم وسلوك يجب ان تتبلور في كل مؤسساتنا السياسية والقانونية،وفي كل منظوماتنا الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والعلائقية والسلوكية،ليشعر الجميع بالفعل بأنه مواطن حقيقي،وليكون وطنيا حقيقيا،حيث قد تصبح المواطنة عند البعض،أحيانا، مجرد انتماء لرقعة جغرافية ليس إلا، دون أن يكون وطنيا حقيقيا يحب وطنه ويكن له الولاء والإخلاص والتفاني في خدمته،والمحافظة على مصلحته وثرواته المادية والرمزية، و الغيرة على بناء حاضره ومستقبله.فالمواطنة هي حقوق وواجبات، ولا مواطنة بدون روح وطنية حقيقية./.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق