الأحد، 23 فبراير 2014

اسباب الكاية عند ابو قاسم الشابي



أسباب الكآبة عند الشابي :
الذاتية :
عاش الشابي حياته بكل طاقاتها الوجدانية , و تقلب مع أحوالها المضطربة , سواء في نشأته , و ترحاله , و وفاة أبيه , و بعدها تكفله بإعالة أسرته , و من ثم مرضه المزمن الذي جعل منه نبعا لأفكاره و ملهما لشعره ؛ فيحكى أنه يوما انتابته الضائقة الصدرية من ذات القلب و استمرت ساعتين يقلّب فيهما وجهه و لا ينبس إلا بقطراتٍ من العرق ..!   و لما هجعت النوبة , بدأ يسوي ثيابه و رقبة قميصه .. ثم تكلم منشرحاً صوته انشراح من حط وزره و نزع الحمل الجهيد , و بادر من حوله للاستجابة حين قال :  أعطني ورقاً , و القلم من جيب فرملتي ( فأعطوه ما طلب ) فأخذ يكتب حالاً , .. قصيدةَ :
يا إله الوجود , هذي جراحٌ === في فؤادي تشكو إليك الدواهي [1] .
 و من هنا نرى أن الشابي قد تمكن من تسخير ( مرضه ) و آلامه الحسية الجسدية في شعره , و لا شك أن لهذا الداء أثراً في خلق تصور جديد للحياة جعل منها أقل قيمة ,     و أدنى أهمية , و سراباً يخدع الناس و يجلب لمؤمليها البؤس , و بذلك يقف أمام هذه الحياة موقف الخصم للخصم ,فهو يدعي منازلتها ,والوقوف ضدها في تحدٍ و إصرار ,!
ومما يزيد ذلك اضطراب حياته الاجتماعية و زواجه من امرأة -لا يميل إليها – و ذلك بعد إلحاح شديد من والده , مع أن زين الدين العابدين السنوسي يرى أنه كان زواجاً سعيداً موفقاً , و أن زوجته كانت تبذل له كل ما وهبها الله , و تشفق عليه , فإن آخرين يرون أنه كان زواجاً فاشلاً , و ذلك بعد النظر إلى سلوكه العاطفي في شعره , مما يدل على أنه كان غيرَ سعيدٍ , و يميلون إلى أنه كان يحب فتاة أخرى , عشقها منذ الطفولة , لكنها ماتت باكرا , مما أثر في نفسه أثراً أليماً تردد في أشعار الفترة الأولى من حياته .
كما أنه فجع بوفاة أبيه , بعد مرض ألمَّ به , مما عرضه للوهن الشديد في صحته ,و حمَّله مسؤوليات كثيرة , و قد تناثر أثر هذا الوقع في شعر أبي القاسم , في قصيدة ( ياموت) التي رثى بها والده :
يا موتُ قد مزقت صدري === و قصمت بالأرزاء ظهري
و فجعتني في من أحب === و من إليه أبثُّ سري
و رزأتني في عمدتي === و مشورتي في كل أمري[2]
و لما يزلْ ينوء بهذه المسؤلية المستجدة التي حزت فؤاده , و ألقت على كاهله المزيد من التكاليف , فهو إنسان حساس جداً , لا يعذر نفسه في التقصير , وهذا بادٍ في تحميل نفسه ما لاتطيق من المسؤوليات التي تبدأ من عائلته و لاتنتهي و حسب عند مجتمعه و أمته .!
و نراه في قصيدته (قيود الأحلام )  يقول :
لكنني لا أستطيع فإن لي === أمًا يصد حنانُها أوهامي
و صغار إخوان يرون سلامهم === في الكائنات معلقا بسلامي
فقدوا الأب الحاني فكنت لضعفهم === كهفاً يصد غوائل الأيامِ[3]
لكن الشاعر استطاع تجاوز تلك المرحلة حيث تحسنت حالته المادية و شيء من صحته كما أشار في بعض قصائده بعد ذلك ..[4]

الأسباب الخارجية :
من أهم منابع شعر الشابي هو ( ضعف الأمة ) , الموضوع الذي أشغله كثيرا و أتعبه و انعكس على حالته الصحية التي تزداد سوءاً كلما استجد حادثٌ خارجي , خير مثال على هذا قصيدته : ( إرادة الحياة ) :
إذا الشعب يوماً أراد الحياة === فلابد أن يستجيب القدرْ
و لا بد لليل أن ينجلي === و لا بد للقيد أن ينكسرْ[5]
هذه القصيدة صرخةٌ في سماء الأمة , و تنبيهٌ لها و دعوة إلى الثورة , و هي من أشهر القصائد في العصر الحديث , مليئةٌ بالغصص و الآلام التي تعتصر فؤادَ هذا الشاعر ,
و من قصائده التي يستصرخ فيها أمته  , ( إلى الطاغية ) :
يقولون "صوت المستذلين خافت === و سمع طغاة الأرض ( أطرش ) أصخمُ
و في صيحة الشعب المسخَّرِ زعزعٌ === تخرُّ لها شم العروش , و تهدمُ
لكل الويل يا صرح المظالم من غدٍ === إذا نهض المستضعفون و صمموا[6]
فهي تضج بالحسرة , و يغمرها إيقاع شديد , تتفجر من أعماقه لتعلو في جو السماء و يسمعها الشعب الذي من بينه حاقدون و معادون ألداء لهذا الشاعر .!
فالعداوات الشخصية و الحسد الذي يواجهه أبو القاسم يعد عاملاً مهما في مسيرته الشعرية , و نسج أهم قصائده ,,: ( نشيد الجبار – أو هكذا غنى بروميثيوس ) :
سأعيش رغم الداء و الأعداء === كالنسر فوق القمة الشماءِ
أرنو إلى الشمس المضيئة هازئاُ === بالسحب و الأمطار و الأنواءِ
و أقول للجمع الذين تجشموا == هدمي و ودوا لو يخر بنائي
و غدوا يشبون اللهيب بكل ما === وجدوا , ليشووا فوقه أشلائي
و مضوا يمدون الخوان ليأكلوا === لحمي , و يرتشفوا عليه دمائي[7]
الأبيات قوية و صارخة , و تشبيهاته تعبر عن قلقه الشديد من هذه العداوات العنيفة التي حدت بهم إلى أن يتمنوا أكل لحمه بعد شوائه و من ثم ارتشاف دمه , تصوير مقزز شديد الوحشية , و لا شك أن هذا قمة في العداوة التي نشبت بينه و بين آخرين .!
كما أن المجتمع و تقاليده يعد عدوة كبرة في وجه الرومانسيين , و هم أولئك الذين يقفون موقفا حازما ضد تلك التركيبة الاجتماعية بما فيها من تراتبية و طبقية . مما يضطر إلى الصدام أو الانكفاء على الذات .



[1]- ديوان أبي القاسم الشابي ص 14 .
[2] الديوان : ص : 106 .
[3] الديوان : ص : 171 .
[4] ديوان أبي القاسم الشابي و رسائله , ص :12-13 .
[5] الديوان : ص : 90 .
[6] الديوان : ص : 160 .
[7] الديوان : ص : 29 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق