السبت، 22 فبراير 2014

بحث في رسم القرآن الكريم



بحث في رسم القرآن الكريم
مقدمة :-
الحمد لله ، وصلى الله و سلم على سيدنا محمد ومن والاه , وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بالحسنى إلى يوم الدين ، أما بعد :-
إن أول ما يتبادر إليه ذهن الباحث في علوم القرآن الكريم شيئان : ألا وهما جانب النطق له و جانب الرسم ، فيبحث في آداب التلاوة و أحكامها ، ويطالع أنواع القراءات ، ويبحث أيضاً في رسم القرآن و طريقة كتابته ، على أن هنالك تلازماً بين الجانبين ، إذ إن من عرف التلاوة سهل عليه الرسم ، والعكس بالعكس .
إلا أن ما أردنا هنا البحث و التفصيل فيه هو علم رسم القرآن الكريم ، الذي تعددت فيه أقوال و اختلفت آراء ، نستقصي ما استطعنا جوانبه ، مع ملاحظة الإيجاز في جميعه ، و الإشارة في كل ذلك إلى مظان هذا الفن و مصادره ، والذي أطلق عليه العلماء : "علم مرسوم الخط " ، أو " رسم المصحف الشريف ".
* * *
معناه لغة و اصطلاحاً ، و ذكر من كتب فيه من العلماء ، وكتبهم :-
الرسم في اللغة : الأثر أي : أثر الكتابة في اللفظ ، وهو تصوير الكلمة بحروف هجائها بتقدير الابتداء بها و الوقوف عليها.
وفي اصطلاح علماء الرسم : الوضع الذي ارتضاه سيدنا عثمان رضي الله عنه في كتابة كلمات القرآن و حروفه.
فالأصل في المكتوب موافقته للمنطوق ، لكن ذلك أهمل في المصاحف العثمانية لأغراض تأتي.
العلماء الذين أفردوا هذا النوع بالتأليف :-
عني العلماء ببيان تلك الكلمات التي جاء خطها على غير مقياس لفظها، فكان ممن أفردها منهم بالتأليف :
1
ـ الإمام أبو عمرو الداني ، في كتابه "المقنع".
2
ـ العلامة أبو عباس المراكشي ، في كتابه "عنوان الدليل في رسوم خط التنزيل".
3
ـ العلامة محمد بن أحمد الشهير بالمتولي ، في أرجوزته "اللؤلؤ المنظوم في ذكر جملة من المرسوم".
4
ـ العلامة محمد خلف الحسيني الذي شرح منظومته وذيل الشرح بكتاب أسماه :
"
مرشد الحيران إلى معرفة ما يجب اتباعه في رسم القرآن".
* * *
قواعد رسم المصحف العثماني :-
للمصحف العثماني في رسمه قواعد حصرها علماء الفن في ستة ، هي :-
الحذف ، والزيادة ، والهمز ، والبدل ، والفصل والوصل ، وما فيه قراءتان
1
ـ قاعدة الحذف : وذلك كحذف الألف في "يـأيها" ، و الياء في "باغٍ" ، والواو في "فأوا".
2
ـ قاعدة الزيادة : وذلك كزيادة الألف في "تفتؤا"، و الياء في "بأييد" ، والواو في "أولو".
3
ـ قاعدة الهمز : وذلك كأن تكتب حال سكونها بحرف حركة ما قبلها "ائذن ، اؤتمن".
4
ـ قاعدة البدل : وذلك ككتابة الألف واواً للتفخيم في "الصلوة" ، وكتابة النون ألفاً في نون.التوكيد المخففة "لنسفعاً" ، و هاء التأنيث تاء مفتوحة في نحو "رحمت".
5
ـ قاعدة الوصل والفصل : وذلك كوصل "أن" بـِ "لا" ، و "عن" ، و"كل" بـِ "ما".
6
ـ قاعدة ما فيه قراءتان : فإنه يكتب برسم إحداهما ، نحو "يخـدعون ، غيـبت".
* * *
مزايا الرسم العثماني و فوائده :-
1
ـالأولى : الدلالة على القراءات المتنوعة في الكلمة الواحدة ما أمكن.
وذلك نحو "إن هذان لساحران" رسمت بدون نقط أو إعراب ، فدلت على ذلك.
2
ـالثانية : إفادة المعاني المختلفة بطريقة ظاهرة ، وذلك كقطع "أم" في "أم من يكون عليهم وكيلاً"، ووصلها في "أمّن يمشي"، وذلك ليفيد معنى الانقطاع في الأولى دون الثانية.
3
ـالثالثة : الدلالة على معنى خفي ، كزيادة الياء في "بأييد"، إيماء لتعظيم قوة الله.
4
ـالرابعة : الدلالة على أصل الحركة مثل "سأوريكم" ، أو أصل الحرف مثل "الصلوة".
5
ـالخامسة : إفادة بعض اللغات الفصيحة ، كقوله "يوم يأتِ" بحذف الياء على لغة هذيل.
6
ـالسادسة : حمل الناس على تلقي القرآن من صدور الثقات ، ولا يتكلوا على الرسم.
و في ذلك مزيتان :-
إحداهما : التوثق من اللفظ و الأداء حيث لا يتيقن من الرسم أياً كان شكله.
والثانية : اتصال السند برسول الله صلى الله عليه و سلم ، وهذه خاصية للأمة المحمدية.
* * *
هل رسم المصحف توقيفي ؟ أقوال العلماء في التزام الرسم العثماني :-
اختلف العلماء في الرسم العثماني للمصحف.
هل هو توقيفي بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم ، أم اصطلاحي باتفاق بين الكتبة و بين سيدنا عثمان رضي الله عنه ، وذهبوا في ذلك مذاهب ثلاثة :-
1
ـالمذهب الأول : أنه توقيفي لا تجوز مخالفته، وذلك مذهب الجمهور.
و مجمل دليلهم: إقرار النبي صلى الله عليه و سلم الكتبة على كتابتهم ، ثم إجماع أكثر من اثني عشر ألفاً من الصحابة ، ثم إجماع الأئمة من التابعين و المجتهدين عليه ، وأدلة أخرى من العقل و النقل.
ذكر جملة من أقوالهم في التزام الرسم العثماني :
عن مالك : سئل أرأيت من استُكتب مصحفاً أترى أن يكتبه على ما استحدثه الناس من الهجاء اليوم ؟ فقال: لا أرى ذلك ، ولكن يكتب على الكتبة الأولى.
عن أحمد : قال : تحرم مخالفة خط عثمان في واو أو ياء أو غير ذلك.
2
ـالمذهب الثاني : أنه اصطلاحي فتجوز مخالفته، وعليه ابن خلدون في مقدمته ، والقاضي أبو بكر، ودليلهم : أن الله لم يفرض على الأمة شيئاً في كتابته ، ولم يرد في السنة والإجماع ما يوجبه ، ولقد نوقش هذا المذهب بأدلة تضعفه و تقلل من منطقيته.
3
ـ المذهب الثالث : تجب كتابة المصحف للعامة على الاصطلاحات الشائعة عندهم ، و يجب في ذات الوقت المحافظة على الرسم العثماني بين الآثار الموروثة عن السلف.
وهذا الرأي :يحتاط للقرآن من ناحية إبعاد الناس عن اللبس ، ومن ناحية إبقاء الرسم المأثور ليقرأ به العارفون به ، والاحتياط مطلب ديني خاصة في جانب حماية التنزيل.
والراجح : ما عليه الجمهور ، وأن رسم القرآن توقيفي كله ، ومنه ما كان بإملاء الرسول صلى الله عليه وسلم كتابةَ بعض الكلمات ، والقسم الآخر كتب كما تقرؤه قريش بلسانها.
* * *
المصاحف و دور التحسين والتجويد ـ الإعجام ، الشكل ـ حكمهما :-
من الأشياء المستحدثة في المصاحف النقط ، وهو قسمان :1ـ إعراب ، 2ـ إعجام.
1
ـ فنقط الإعراب:ـ الشكل ـ هو العلامات الدالة على ما يعرض للحرف من حركة أو سكون أو شد أو مد ، واختلف في أول من وضعه فقيل الخليل و قيل غيره.
و الصحيح ـ الذي عليه أبو عمرو الداني ـ: أنه أبو الأسود الدؤلي ، بأمر زياد بن أبي زياد ، والي البصرة ، فاختار رجلاً من عبد القيس و أمره بالشكل بلون يغاير لون المصحف.
فجعل للفتحة نقطةً فوق الحرف ، وللضمة أمامه،وللكسرة تحته ، وللتنوين نقطتين هكذا ، حتى آخر المصحف ، وعنه أخذ النقط حتى ظهر الخليل في العهد العباسي فأدخل عليه ما نحن عليه من التحسين اليوم.
2
ـ ونقط الإعجام : النقط : هو العلامات التي تميز الحروف من بعضها كي لا يلتبس معجم بمهمل ، و الحروف المعجمة خمسة عشر حرفاً.
واختلف في أول من وضع نقط الإعجام على أقوال أصحها :
أنه :1ـ يحيى بن معمر ، 2ـ ونصر بن عاصم ، وذلك بأمر الحجاج بن يوسف الثقفي.
فوضعاه و جعلاه بلون مداد المصحف ، ليتميز عن نقط أبي الأسود.
و منه يتبين أن نقط الإعراب متقدم على نقط الإعجام.
حكم نقط المصحف وشكله:-
كان علماء الصدر الأول يرون كراهته مبالغة في الحفاظ على الأداء و الرسم.
عن ابن مسعود : "جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء".
وعن ابن سيرين : "أنه كره النقط و الفواتح والخواتم".
وقال مالك : "لا بأس بالنقط في المصاحف التي يتعلم فيها الغلمان أما الأمهات فلا".
لكنّ ما يبين تغير العلماء في حكمه قول النووي :"ويستحب نقط المصحف وشكله فإنه صيانة من اللحن فيه ، و أما كراهة الشعبي والنخعي ، فإنما كرهاه في ذلك الزمان خوفاً من التغيير فيه ، وقد أمن اليوم فإنه من المستحدثات الحسنة".
ومن هذا: يتبين لنا استحبابه ، بل وجوبه حين خوف اللبس على من يقرأ بدونه.
الحروف السبعة في المصاحف العثمانية :-
الذي عليه الجمهور من العلماء ، أن المصاحف العثمانية جاءت مشتملة على ما استقر من الأحرف السبعة في العرضة الأخيرة لم تترك منها حرفاً واحداً.
و الذي يقصدونه بذلك : أنها اشتملت على حروف من لغات العرب في قسم منها ، و شملت أيضاً حرف قريش في كثير من أقسامها ، وخاصة فيما اختلف الصحابة في كتابته.
و تبقى هناك الإجابة عن كيفية اشتمال هذه المصاحف على الأحرف السبعة أو بعضها ؟
و هذا ما سنأتي على تفصيله مع ذكر الفرق بين الأحرف السبعة و القراءات السبع ، وذكر أقوال العلماء و اختلافهم فيما اشتملت عليه المصاحف من هذه الحروف ، وذلك في فصول قادمة إن شاء الله تعالى.
شبهات حول كتابة القرآن و رسمه والرد عليها :-
من ذلك قول بعضهم : روي عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ "والمقيمين الصلوة"، و يقول : هو من لحن الكتاب ، والجواب : أنه لا يريد باللحن الخطأ ، إنما يريد اللغة و الوجه ، في القراءة ، على حد قوله تعالى" ولتعرفنهم في لحن القول" ، ثم إنه نفسه كان يقرؤها كذلك ولو أراد باللحن الخطأ ما رضيه لنفسه.
و هناك شبهات أخرى غيرها سنأتي على الجواب عنها بعد ذكرها مفصلة و تفنيدها واحدةً تلوَ أخرى ، في أبحاث ستأتي إن شاء الله تعالى.
والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
بقلم : بلال سيف
المصادر والمراجع :-
1.
مناهل العرفان في علوم القرآن - د.محمد عبد العظيم الزرقاني - دار المعرفة بيروت – لبنان الطبعة الثانية2001، ج1، ص328ـ363.
2.
الإتقان في علوم القرآن ، للإمام جلال الدين السيوطي. دار الجيل ، بيروت ـ لبنان،الطبعة الأولى1998، المجلد الثاني ، ص487ـ513.
3.
البرهان في علوم القرآن ، للإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي. بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، طبعة عيسى البابي الحلبي ، ج1.
4.
في رحاب القرآن الكريم ، د.محمد سالم محيسن. دار الجيل ، بيروت ـ لبنان،طبعة عام1989،ج 1، ص133ـ204.
5.
رسم المصحف و ضبطه بين التوقيف و الاصطلاح ، د.شعبان محمد اسماعيل. دار الثقافة ، الدوحة ـ قطر،الطبعة الأولى1992 .
6.
رسم المصحف و الإعجاز العددي ، د.أشرف عبد الرزاق قطنة. دار منار بدمشق ـ مؤسسة علوم القرآن بيروت ، الطبعة الأولى1992.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق