السبت، 22 فبراير 2014

فلسفة كانط kant philosophe



 كانط 

مقدمـة
        بعد أن وضع "كانط" كتابيه "نقد العقل الخالص Critique of Pure Reason"، و"نقد العقل العملى Critique of Proctical Reason". أصدر فى عام 1790 كتابه النقدى الثالث "نقد الحكم Critique Of Judgment".
        والجدير بالذكر أن كتاب "نقد الحكم" لم تظهر أية إشارة إلى تصميم "كانط" على إصداره، فى ثنايا كتابيه النقديين الأولين. ولم يكن هناك ما يوحى بضرورة اكتمال هذا النسق الفلسفى بنقد الحكم.
        "وإن كانت اهتمامات "كانط" الجمالية قد ظهرت فى كتابته المبكرة عن الجميل والجليل On The Beautiful and The Sublime، الذى تأثر فيه بواسطـة التصور العام لدى "بيرك Burke" وقد ناقش "كانط" المسائل الجمالية فـى مناسبات متباينة فى أعماله. كما وضعت ملاحظات فى هذه الأعمال فى مخطوطة لم تنشر، ولكن استفاد منها تلاميذ "كانط" فى علم الجمال. وتُظهر هذه الأعمال أن "كانط" قد أتى على ذكر العديد من المؤلفين فى هذه المحاضرات، والذين لم يذكرهم فى أعماله المنشورة، وكان ذلك عبر اطلاعه على أغلب الكتاب الفرنسيين والإنجليز، والألمان فى علم الجمال".(1)
        وقد كان نشر "كانط" لبحثه عن الجميل والجليل: "ملاحظات حول الشعور بالجليل والجميل" عام 1764. ورغم أنه لم يكن قد أشار فى كتابيه النقديين الأولين إلى "نقد الحكم" إلا أنه كان قد شرع فى التفكير فيه منذ عام 1771، إذ كتب إلى هرتز Herz فى 7 يونيو سنة 1771 بأنه يفكر فى وضع كتاب عن حدود الحساسية، والعقل.(2)
        وفى الوقت الذى كان "كانط" ينشر فيه كتابه  "نقد العقل الخالص" كان يستخـدم مصطاح Aesthetics فى معنى مختلف، فكان المعنى العام وشروحه فى الحواشى لا يتبع المصطلح كما صاغه "بو مجارتن" لأنه فى ذلك الوقت لم يكن يعتقد فى احتمال قيام نظرية للفنون.(3)
        وقد أشار "كانط" إلى السبب الذى جعله يصدر "نقد الحكم" على أنه محاولـة تأليف بين الفهم الصورى Understanding وبين العقل Reason من خلال الحكمJudgment. وذلك لملء الفجوة القائمة بين المجالين. وقد كان القسم الأكبر "فى نقد الحكم" يتعلق بقيم الجمال بينما القسم الآخر يتعلق بالغائية. وقد جاء ذلك بناءً على تقسيم للملكات إلى ثلاث ملكات للذهن Mind حيث أضيفت ملكة الحكم Fuctly of Judgment، الجمالى والغائى، إلى العقل الخالص، والعقل العملى. وبذلك صار "علم الجمال" كنظرية فلسفية للجمال والفنون، يقف على قدم المساواة مع نظرية الصدق (الميتافيزيقا والابستمولوجيا)، ونظرية الخيرية goodness (علم الأخلاق).(4)
        وبنقد الحكم تمت الصياغة الكاملة لعلم الجمال عند "كانط"، والذى يمثل أحد المنعطفات الكبرى فى التطوّر العام للفكر الجمالى. فلقد طرحت هذه الفلسفة مجموعة من المسائل الجذرية فى علم الجمال، أهمها ماهيّة الجمـال وطبيعته.. وقد اعتبر "هيجل" أن "كانط" قد أعطى نقطة الإنطلاق من أجل فهم حقيقى لما هو جميل فى الفن.(5)
        ولقد قامت أفكار "كانط" وفلسفته استنادًا على أن قدراتنا العليا للتفكير لديها ثلاث أشكال "الفهم الصورى والذى يمثل القدرة على الحصول على المعرفة بالعالم، والحكم Judgment  والذى هو بمثابة القدرة على وضع الجزئى تحت الكلى (أو الخاص، فى إطار العام)، والعقل Reason الذى يمثل القدرة على تحديد الخاص عبر العام (للقيام باستدلالات من المبادئ). الفهم يؤسس القوانين القبلية للطبيعة، والعقل يؤسس القوانين القبلية للحرية، وهذا ما تم التعبيـر عنه فى النقديين الأول والثانى. وعلى ذلك فإن الحكم يؤسس المبادئ القبلية الخاصة به. والآن فإن الحكم ليس قدرة معرفية مستقلة، وهو لا يمدّنا بالتصوّرات مثل الفهم الصورى، ولا الأفكار مثل العقل. ولذا فهو التصور Concept أو القاعدة rule التى تأتى من حيث المنشأ من ملكة الحكم. إنه تصوّر الأشياء فى الطبيعة إلى الحد الذى تكوّن فيه الطبيعة قدراتنا على الحكم.(6)
        وإذا كان "كانط" فى "نقد العقل الخالص" قد التزم بمهمة فحص التصورات وتنقيتها، وإذ رأى أن العقل النظرى (الخالص) يبلغ المعرفة فى عملية تنطوى على خطوات ثلاث: جمع المخيلة للإحساسات مع حدوس الإدراك تحت صورتى الزمان والمكان، وتركيب الحدوس مع الأحكام الصورية، وتنظيم أحكام التجربة ودفعها لتكون نظامًا كونيًا. ورأى فى "نقد العقـل العملى" أن مهمته فحص المسألة الأخلاقية التى جرى طرحها بشكل عام فى نقده الأول. فإنه فى "نقد الحكم" يبدو وكأنه استكمل نظامه الفلسفى بالتوفيق بين حال الطبيعة وحال الأخلاق.(7)
        والتمييز بين الملكات الثلاث: الفهم الصورى، والعقل والحكم يرتبط لدى كانط بتمييز آخر. ذلك أن كل قدرات الذهن الإنسانى يمكن اختزالها أوردّها فى النهاية إلى ثلاث قدرات:
1- ملكة المعرفة Cognitive Faculty.
2- ملكة التشوّق (الرغبة) Faculty of Desire.
3- الشعور باللذة وانعدام اللذّة (das Gefi hlder lust und Unlust). الأولى ترتبط بالمعرفة Knowledge. معرفة شئ ما. والثانية ترتبط بإدخال الموضوع أو الشئ إلى الوجود. والثالثة بالشعور باللذّة أو انعدامها فى وجـود موضوع ما. بعض اللذّة بالطبع تعتمد على إشباع الرغبة وعندما يحدث ذلك فإن (3) تندرج تحت (2). ولكن هذه فى الحقيقة ليس كل اللذّة. بل إن بعضًا منها يستقل عن الرغبة، وهكذا يحتاج إلى معالجة نقدية Critical Treatment. والآن فإن قدرتنا على تحصيل المعرفة عبر التصوّرات تجد أسسها القبلية فى الفهم الخالص Pure Understanding وقدرتنا على تهيئة أنفسنا للحصول على غايات الرغبة تجد أسسها القبلية فى العقل الخالص Pure Reason. ونحن نتوقع أن يجد الشعور باللذّة، أو انعدامها أسسه القبلية فى ملكة الحكم، وهذا ما يبدو من وجهة نظر "كانط"(8)
            لقد أراد "كانط" أن يملأ الفجوة بين النقدين "نقد العقل الخالص" و"نقد العقـل العملى". بنقد الحكم. فإذا كان الذهن يشمل قدرات ثلاث: هى المعرفة، والرغبة أو الإرادة، والشعور باللذّة. الأولى نجد أسسها فى الفهم الصورى Understanding، والثانية فى العقل Reason على أساس أنه هو المسيطر على الإرادة، والتى يرتبط بها فعل الخير أو الشر أى الفعل الأخلاق (العقل العملى). والثالثة نجد أسسها القبلية فى ملكة الحكم.
        والجدير بالذكر أن الحكم يكون دائمًا على علاقة بذات الحكم Judging Subject، والشعور باللذة أو انعدامها. وهى ليست مثل ملكات المعرفة أو اشتهاء الطعام والشراب Appetitire Faclty. إنها محض حساسية للتذوق الخاص بالذات. والمبادئ القبلية للشعور باللذّة لا تكون موجودة إلا فى الحكم فحسب(9) .
        لقد رأى الكانطيون الجدد أن "كانط" وهو يؤسس لنقده الثالث لا يرتبط بالفكر الجمالى المعاصر له، وبالأدب والفن إلا برابطة بعيدة. فقد بنى علم الجمـال على أفكار مجردة وعزل تحليله لها العلم عن الحياة. غير أن الحقيقـة تكمن فى أن "كانط" فى نظريته الجمالية كان وثيق الصلة بأدب ألمانيا فى عصره، كما أثر فى معاصريه واللاحقين له من المفكرين والنقاد، وكان له الأثر الكبير فى التطور من فن التنويريين إلى الفن الرومانتيكى، فواقعية القرن التاسع عشر النقدية. كما أثر فى "فخته"، و"شيلبخ" و"هيجل"(10)
حكم الذوق وتحليل الجميل
        يقول "ميشال بودرو Michael Phodto":
        لقد بدأ "كانط" نقد الحكم الجمالى Critique of Aesthelic Judgment بتحليل الحكم الخالص للذوق Pure Judgment of Taste. لم يكن اهتمامه به ينصب على نوع من الحكم الذى نحن عادة نقوم فيه بمقارنة الأعمال الفنية، أو الموضوعات الجميلة فى الطبيعة، ولكن انصبّ اهتمامه عليه كوصف مبسّط لأنواع محددّة من الحكم فى نقائها In Puinty. ولكن الحكم الخالص للذوق، لم يكن بالنسبة "لكانط" إيضاحًا ملائمًا للبناء المثالى، لأنه لاحظه كمقابل لعدد محدود من القدرات الأساسية لعقولنا. وفى تدريب هذه الملكة نحصل على الإشباع الذى يتضح من تلك الموضوعات التى ترتبط مع أغراضنا واهتمامنا"(11)
        وهكذا أسس "كانط" نقده الثالث - رغم بعض الإشارات فى الصفحات السابقة بأنه كان يضع فى ذهنه الأدب الألمانى، وكذلك إشارته فى مخطوطته غير المنشورة - كما قال "كريستلر" - إلى مصادره - على الاهتمام بأنواع معينة من الحكم فى نقائها، ولم يضرب أمثلة، أو يقوم بالمقارنة بين الفنون والأعمال الفنية، وقد يكون ذلك لأنه جاء _ أى النقد الثالث _ لملء الفجوة بين النقدين السابقين.
        و"كانط" على عكس الفلاسفة القدماء، وفلاسفة العصور الوسطى قد قدم فى نقده تمييزًا جذريًا بين حكم الجمال A Judgment of Beauty وحكم الخير. ويشير التمييز بشكل نهائى إلى الاعتقاد بأن حكم الخير حكم موضوعى، وقائم على المعرفة أو الإدراك، وهو يعبر -  بناءً على ذلك - عن معرفة بموضوعاتنا، بينما رأى أن الحكم الجمالى حكمًا ذاتيًا Subjective، واستاطيقى صرف. وبناءً على ذلك فهو يعبر مشاعر الذات.(12)
        ولقد كان اهتمام "كانط" بفصل علم الجمال عن علم الأخلاق، وعن المنطق. وقد ركز على المبادئ القبلية، وافتراض انتقال الانطباع الجمالى، والانسجـام الغائى بين ملكات الخيال، والفهم الصورى، والعقل Reason. كما رأى أن الجمال لذة فنزهة عن الغرض بشكل مباشر فى الصور والعلاقات. وفلسفة الفن ترى أن عمل الفن يجب أن يوقظ فكرة الجمال فى الأشياء، وأن منشأه شرط ذاتى للعمل النموذجى فى الفن.(13)
ويرى "كانط" أن الحكم يختلف عن الحكم العقلى، والأخلاقى، واوب ما يميّزه يتعلق بمصدره وصفته، وهو - أى الحكم الجمالى - صادر عن الذوق، وان الذوق صادر عن رضا أو سرور لا تأتى من ورائه منفعة.
        إن ما يمنحنا الصواب فى الحكم الجمالى، هو التجربة، وليس التصور الذهنى. ولذا فإن تغيّر الخبرة يؤدى إلى تغير فى المغزى الجمالى، وهذا مما يجعل من الصعب ترجمة الشعر. وكما رأى "كانط" فإن "الحكم الجمالى حرّ من التصورات Free from Concepts، وأن الجمال ذاته ليس تصوّرًا. وبذلك فإن حكم الذوق لا يقوم على تصورات Not Based on Consopts".(14)
        حكم الذوق إذن ليس حكم معرفة، وبالتالى فهو ليس حكمًا منطقيًا، بل هـو حكم جمالى. والجمالى يعنى ما يكون أساسه ذاتيًا Subjective كما أنه لا يقوم على تصوّرات بل هو حرّ من هذه التصوّرات.
        لقد حدّدت مسلمات "كانط" المسبقة، ليس فقط ابتعاد الجمال عن نظرية المعرفة، والطابع التأملى السلبى لهذا العلم، وأنما ذاتيته الخالصة أيضًا: وانتهى "كانط" بسبب اعتباره ملكة الحكم التأملية ملكة متميّزة لها مبادئ خاصة بها، إلى أن اللذّة الجمالية مرتبطة بالذات لا بالموضوع (إذْ لـو كانت اللذّة مرتبطة بالموضوع وليس بالذات لبرزت آنذاك ضرورة معرفة هذا الموضوع _ وهذا أمر يعود فى نظر "كانط" إلى مجال العقل النظرى)(15)
        إن فلسفة "كانط" الجمالية تقوم على أساس من التناقض، فالحكم الجمالى يقوم على الخبرة الذاتية، وفى نفس الوقت يتطلب الموافقة العامة. إن الذى يقوم بالحكم يشعر باللذّة فى موضوع ما، "وهذه اللذّة لا تقوم على أى تصورية Conceptuglisation للموضوع، أو على تحقيق لعلة، أو غرض، أو عرف. فإن من يعبرون عن لذتهم فى صورة حكم: يتحدثون كما لو كان الجميـل صفة للموضوع، وهكذا يمثلون لذتهم كقانون موضوعى، ولكن كيف يكـون هذا كذلك؟ اللذة مباشرة، ولا تقوم على العقل، وغير قابلة للتحليل، فما الذى يجيز هذه المطابقة بالموافقة العامة."(16)
        أن اللذّة مباشرة، وذاتية، ولا تنهض على أى أساس عقلى، ولكن عندما أحكم على شئ ما بأنه "جميل"، فإن ذلك يتطلب الموافقة العامة على ذلك، أى أن يكون الشئ جميًلا بالنسبة لى وللآخرين، حتى يصبح قانونًا.
        وتكمن أهمية الجانب الذاتى فى كون أن الإنسان لا يستطيع أن يحكم على جمال موضوع لم يسمعه، أو لم يره. إذا كانت الأحكام العلمية Scientivic Judgments، مثل المبادئ العلمية يمكن أن تدرك من شخص آخر. فيمكننى أن أتخـذك كمرجع لحقائق الفيزياء، أو لفائدة القطارات، ولكننـى لا أستطيع أن أجعلـك مرجعًا لجدارة "ليوناردو دافنشى" أو جماليات "موتسارت Mozart" إذا لم أر أى عمل للأول، ولم أسمع أى موسيقى تخص الثانى." (17)
        لقد رأى "كانط" أن حكم الذوق يختلف عن الذوق بمعانيه الحسية الأخـرى. إذ يشتمل على عنصر ضرورى مشترك بين الأفراد. فإذا كان لابد لكى أحكم على عمل فنى من ممارسة الذات لدورها، أى أن تسمعه أو تراه، فإن هذا لا ينفى وجود المشترك بين الناس فى هذا الذوق. "فلو كان الذوق شيئـًا فرديًا تمامًا لاكتفى الفنان بممارسة فنه لنفسه فقط، مادام أن أحدًا لن يفهمه ولن يتفق معه فى الحكم على عمله. أما أن الفنان يتوقع مشاركة الآخريـن له فى رأيه، فهذا معناه أن فى التجربة الجمالية شيئًا يزيد عن مجرد الذوق الفردى. وبالمثل لو كانت الفردية هى الطابع المميز للفن لما كان للنقد الفنى معنى، ولكانت كل مقاييس هذا النقد ومعاييره باطلة."(18)
        ولكن إذا كانت التجربة تحمل شيئًا يزيد عن مجرد الذوق الفردى، فإن هذا لا يعنى حل المشكلة، مشكلة التعارض الكامن فى صميم الحكم الجمالى الذى هو بمثابة صورة من صور الحكم. إن المشكلة تكمن فى أننى عندما أصف "شيئًا ما بأنه جميل فإن هذا لا يعنى أنه يسرّنى Please Me، فأنا أتكلم عنه، ولا أتحدث عن نفسى. إذا تم الاعتراض على ذلك - على حد تعبير "كانط" - فإننى أحاول أن أجد الأسباب لرأيى، أنا لا أفسّر مشاعرى، بـل أقدّم الأسس التى تقوم عليها بالإشارة إلى السمات البارزة فى موضوعها، وأى بحث عن الأسباب له صفة العمومية."(19)
        فالتجربة الجمالية ليست تجربة فردية، والإعجاب أو استحسان موضوع ما ليس - على حد تعبير "كانط" - بمثابة تجربة ذاتية مصرفة.
ولكن "هـل يكفى لتجاوز الفردية أن نتتبع أذواق الناس الفعلية لنستخلص منها الحكم الصحيح على كل فن؟ ربما رأى البعض أن فى هذا كفاية، غير أن "كانط" يؤكد على أن الحكم الجمالى يتصف بنوع من الضرورة التـى تجعله أكثـر من مجرد تلخيص لأذواق الناس الفعلية. فنحن حين نحكم على عمل أو شئ بأنه جميل، لا نعنى فقط أن مجموع الناس يرونه جميًلا، وإنما نعنى أن كل من يتأمل هذا الموضوع فى نفس الظروف التى نتأمله فيها لابد أن يراه جميًلا."(20) 
        إذا كان "الذوق هو ملكة الحكم بالرضا أو بعدم الرضا على شئ ما، أو علـى شكل تقديمه، والشئ الذى يرضى هو، بالتالى الجميل"(21) وأن الحكم الجمالى يتصف بنوع من الضرورة التى تجعله يتصف بالعمومية. ولكن إذا كان هذا الحكم لا ينهض على تصوّرات، بل يقوم على الشعور باللذّة - فـإن هذه اللذّة - فى رأى "كانط" - تفترض كقانون عام وضرورى. إذ أن الحكم يتضمن (ما ينبغى أن يكون)، أى أن "الآخرين ينبغى أن يشعروا كما أشعر، ولا يشعرون بالعكس سواء كانوا هم أو أنا على خطأ. إن هذا يقودنا إلى التماس الأسباب لأحكامنا. والمصطلحان عام، وضرورى، يقودنا إلى تحديـد خواص ما هو قبلى. إنه من الواضح أن الافتراض بأن الآخرين يجب أن يشعروا كما أشعر أنا، لم يشتق من التجربة أو الخبرة، إنه على العكس من ذلك يفترض مقدمًا (يتضمن) أن اللذّة الجمالية ليست تحليلية، أى أنه يجب أن تكون بمثابة تركيب قبلى Synthetic A Priori(22)
        أن جعل الحكم الجمالى يتصف بالضرورة والكلّية يمثل مشكلة فى "الفلسفـة الكانطية". فهو أوًلا لا يقوم على أساس صورى. وفى نفس الوقت لا يمكن أن تؤكده التجربة بشكل قاطع. "وضرورية حكم الذوق هنا لديها القليـل من ضرورية القوانين القبلية للفهم الصورى. إن مشكلة نقد الحكم هنا، هى مشكلة الفلسفة الترانسندنتالية Trancendental Philosophy وهى كيف يكون تركيب الأحكام القبلية ممكنًا."(23)
        إننا ندرك فى الموضوع الجمالى شعورًا ذاتيًا يبعثه فينا وجود هذا الموضوع أمامنا، ولا ندرك صفات الموضوع ذاته. "ومبعث الانسجام الذى تشعر به قوانا وملكاتنا الإدراكية عندما تمارسها فى حضور موضوعات معينة. مع ذلك، فإن للحكم الجمالى رغم صفة الذاتية هذه، نوعًا من الموضوعية"(24) . ولكن كيف يكون ذلك؟
        أن هذا الحكم يبدأ بالفرد دائمًا، ويتعلق بموضوع محدد ولكن هذا الموضوع ذاته يفرض على ذهنى إحساسًا غير شخصى، وبالتالى فإنه يفرض مثل هذا الإحساس على أى شخص آخر فى موقفى. ومن هنا كان المرء حين يصدر حكمًا جماليًا، يطالب الآخرين ضمنيًا بأن يصدروا على الشئ نفسه حكمًا مماثًلا. ولكنه إذا سئل عن السبب فى هذا الاتفاق، عجز عن تحديده بدقة. وقد كان ذلك هو الذى دفع "كانط" إلى الاهتمام بالجوانب الشكلية للموضـوع الجمالى، فرأى جمال الصورة Form هى المظهر الأساسى للجمال فى كل موضوع.(25)
        وعلى هذا الأساس فإن "كانط" فى دراسته للأعمال الفنية رأى أن حكم الذوق يجب أن "يعنى بتقويم العناصر الشكلية (أو الصورية) Formal Elements فحسـب فى الموضوعات الجمالية، بينما يجب أن تستثنى العوامل الدلالية والانفعالية."(26)
        ورغم أننى فى حكمى على شئ ما بأنه جميل، فإننى أكون شاعرًا بما يشعر به كل من يكون فى نفس الموقف، وإننى أرى فى هذا الحكم تكمن الضرورة والكلية. ولكن هذا القول لا يخضع لأى نوع من البرهان "فحكم الـذوق _ كما أكد على ذلك "كانط" حكم ذاتى _ أما تلك المجادلات والبراهين فليس فى مقدورها تأسيس حقيقته. لأن القول بأن الموضـوع المعطى "جميل" أمر لا يمكن البرهنة عليه إمبريقيا، خاصة أنه ليس فى الإمكان البرهنة عن طريق حصر جميع الأفراد التى تحكم عليها بالجمال. كما أنه لا يمكن البرهنة عليها بأنها قبلية بإظهار أن الموضوع يمتثل لقواعد محددة أو قوانين عامة للتذوق."(27)
يقول "كانط":
        "الغائية الموضوعية يمكن أن تدرك باستناد التنوع إلى هدف محدد، ويكـون ذلك عبر التصوّر فحسب. لذا فمن الجلىّ أن الجميل والذى حصل فى جوهره على الصورة الغائية الخالصة عند الحكم عليه، أى الغائية دون غاية Purposiveness Without Purpose، يكون مستقًلا تمامًا عن تصوّر الخير، لأن الخير يستلزم غائية موضوعية، أى استناد الموضوع إلى هدف محدد."(28)
        فالفرق إذن بين الجميل والخير، أن الجميل حاصل فى جوهره على الغائية الخالصة، أى بدون غاية، بينما يستلزم الخير غائية موضوعية، وبالتالى قد تكون "هذه الغائية الموضوعية مثل المنفعة Utility، أو باطنية مثل كمال الموضوع. والإشباع فى الموضوع والذى يعدّ على أساسه جميًلا لا يمكن أن يقوم على تمثيل لنفعيته."(29)
        وإذا كان الجميل حاصل على غايته فى ذاته ولا حاجة له لغائية موضوعيـة، فإنّ حكم الذوق يعدً حكمًا جماليًا، أى أنه يرتكز على أسس ذاتية Subjective grounds. ولا يمكن تصوّر أساسها الحتمى، ومن ثم لا يمكن أن يكون تصوّرًا لغرض محدد Definite Purpose. لذلك ففى الجمال، ينظر إليه كغائية صورية شكلية As A Formal Subjetive Purposivenss، حيث لا يوجد أى تفكير فى كمال الموضوع بإدّعاء الغائية الصوريّة أو الموضوعية أيضًا.(30)
        ويؤكد "كانط" بأن الحكم الجمالى فريد فى نوعه، ولا يعطى معرفة على الإطلاق، ولا حتى المعرفة الملتبسة للموضوع، وهذا ما بوسع الحكم المنطقـى أن يمدّنا به. وعلى النقيض من ذلك، فإنه (أى الحكم الجمالى) يعنى التمثيل، الذى يعطى الهدف بواسطته للموضوع، ولا يقدّم لملاحظاتنا أى سمة عن الهدف. بل فقط الشكل الغائى لحتمية القوى المتمثلة التى تشغل نفسها بذلك. الحكم يدعى بدقة، جماليًا لأن أسسه الحتمية ليست التصور، بل الشعور، فى انسجام مع ما تقوم به القوى العقلية، ولهذا الحد يمكن أن يشعر به فى الإحساس. ومن ناحية أخرى إذا أردنا أن نقول أن التصوّرات الغامضة والحكم الذاتى تقوم عليها الأحكام الجمالية، فإنه يكون بوسعنا أن نفهم الحكم بفطنة، أو بشعور يتمثل هدفه بواسطة تصوّرات (يناقض بعضها الآخر)(31) بينما يقيم الفلاسفة أحكامهم على أسس واضحة، ومبادئ مطابقة للعقل.
1- اللحظة الأولى - لحظة الكيف Moment of Quality:
        إذا كان "كانط" قد بدأ نقده للحكم الجمالى بتعريفه لحكم الذوق السالف الذكر - أنه حكم لا يقوم على تصور، وإنما يقوم على أساس الشعور باللذّة. وهذه اللحظة الأولى متعلقة بالكيف (Moment of Quality). وفيها لا يكون "حكم الذوق حكمًا معرفيًا ولا منطقيًا Logical، بل هو حكم جمالى، وهذا يعنـى أن ما يحدد أساسه لا يمكن أن يكون غير الذات".(32) ونحن فى قولنـا بأن "شيئًا ما جميل لا نلزّم أنفسنا بقول أى شئ عنه. بجانب علاقته بنا. فالحكم فى رأى "كانط" لا يتضمن الموضوع، ولا يصفه. ولكن بالرغم مـن ذلك فهذا لا يعنى أنه محض تسجيل لرد فعل خاص عنه.. والرابطة بين الموضوع والإشباع الإنسانى Human Satisfaction ليست علاقة طارئة"(33)
        والخلاصة، أن "حكم الذوق الذى يصدر عندما نقول بأن شيئًا ما جميل، هو بمصطلحات "كانط"، حكم الشعور بالإشباع، فى الفعل أو الدور المنسجم لملكاتنا عندما نتأمل شيئًا كما لو كان حاضرًا أمام إحساسنا"(34)
            ومن الجلىّ أن الحكم الذى نصدره على الجمال يقترن بنوع من الشعور بالسرور أو الرضا أو الارتياح، ولكن "الرضا الذى يحققه الشئ الجميل يختلف عن الرضا الذى يحققه الشئ الملائم، أو الشئ الحسن، أو الشئ النافع. فالملائم هو ذلك الشئ الذى يسبب لنا لذة نستشعرها عن طريق الحواس، وهو لهذا يعدّ ذاتيًّا صرفًا. وأما الحسن فهو الشئ الذى نقدّره أو نستحسنه لماله من قيمة موضوعية. وأما النافع فهو الذى لا ينطوى على قيمة فى ذاته، بل تكون قيمته آتية من الغاية التى يساعد على تحقيقها"(35)


يقول "كانط":
        "يتضمن كل من الملائم Agreable والخيّر Good الإشارة إلى ملكة الرغبة، وهكذا يكونان ملازمين: الأول لما هو سار كحالة بواسطة الإثارة، والآخر بواسطة السرور (الرضا) العملى الخالص Pure Practical Delight. مثل هذا السار يتحدّد ليس فقط بواسطة التمثيل للموضوع، بل أيضًا بواسطة التمثيل للرابطة Bond التى تربط بين الذات والوجود الواقعى للموضوع، الذى يسرّ. ومن جهة أخرى فإن حكم الذوق هو ببساطة حكم تأملى Contemplative أى أنه حكم محايد Indifferent (غير مكترث) كوجود موضوعى، وهو فحسب يقرر كيف أن وصفه يتوقف على الشعور باللذّة أو الكـدر. ولكن هذا التأمل فى ذاته لا يتجه إلى تصوّرات، لأن حكم الذوق ليس حكمًا معرفيًا (ليس حكمًا نظريًا ولا عمليًا). فهو بذلك لا نهض على تصوّرات، ولا يتجه بشكل قصدى نحوها."(36)
        المتعة أو اللذة الجمالية "لا تهتم بحقيقة موضوعها، بخلاف اللذّة الحسّية التى تتطلب التملك، وبخلاف الرضا الخلقى الذى يتطلب تحقيق موضوعه"(37)والجدير بالذكر _ أن اللحظة الأولى _ والمتعلقة بالكيف موجهة فى نقدها للتجريبيين الذين يؤكدون على أولوية الحسّ فى التجربة الجمالية، أما للحظة الثانية فهو موجهة ضد العقليين.
        "ملكة الذوق، عند التجريبيين، هى الملكة التى تعنى بالجمال. أما جذورها فتكمن اللذّة والألم، وهى تحكم مباشرة بواسطة الحسّ دونما تحليل عقلى. ودونما عودة إلى عناصر صورية، ودونما استناد إلى أية معايير أخرى".(38)
        ولقد رأى "ديفيد هيوم David Hume" أن الجمال _ بشكل خاص _ "ليـس صفة كامنة فى موضوع ما، بل هو مجرد عاطفة أو انطباع فى النفس، ولا يمكن تعريفه. وبالرغم من ذلك، فإن أنماط الجمال، كحقيقة مشتركة، هى علّة اللذّة ولذلك فإن هناك طريقة عامة لتمييز الجمال بواسطة التذوق والإحساس".(39)
        لقد كان تركيز الحسّيين فى اللذّة والألم على إدراكها بالحواس، ولكن "كانط" كان يرسم خطا حادًا فاصًلا بين الإحساس والشعور. فهو يعرف الإحساس كانطباع موضوعى فى الحسّ، أما الشعور فهو الشئ الذاتى الذى يبقى فى الداخل، ولا يمثل أى موضوع حسّى. يقول "كانط": "إن اللون الأخضـر للعشب ينتمى إلى الإحساسات الموضوعية كإدراك حسّى للموضوع، أما سرورنا بذلك اللون فإنه ينتمى إلى إحساس ذاتى لا يقابله موضوع حسّى، هـو ينتمى للشعور.. والاهتمام بالتالى هو المتعة الناتجة من فكرة وجود شئ ما، غير أن فيها ما هو أكثر من مجرد متعة، إنه شعور عام بالرضا والارتياح".(40)
        وإذا كان "كانط" فى فلسفته النظرية (نقد العقل الخالص)، وفى فلسفته العمليـة (نقد العقل العملى) قد حرص على تمييز أفكاره عن الأفكار التجريبية أو الحسّية السابقة (جون لوك - هيوم - بيرك) فإنه أيضًا فى علم الجمال أو نقد الحكم - بشكل خاص - كان حريصًا على تمييز أفكاره عن أفكار التجريبيين أيضًا.
        وإذا كان "كانط" قد رأى أن الجميل غاية فى ذاته، أو غائية بدون غاية، فإن "هيوم" يرى أن ملاءمة الشئ لتحقيق غاية مقبولة، أى أن الهدف الخارجى للموضوعات، هو ما يؤثر فى الذهن، "فالمنزل الفارغ، ولكن جيد التصميم، والأرض غير المأهولة ولكن الخصبة، والرياضى السجين، كل هذا يمكن الحكم عليه بأنه جميل، لأن كل موضوع، من جميع نواحيه، كان ملائمًا لتحقيق غاية مقبولة."(41)
        فهنا نجد "هيوم" _ الذى سبق "كانط" _ قد جعل للجمال غاية أو هدفًا، كذلـك نجده _ اتساقًا مع فلسفته التجريبية يرى أن الجمال هو "انتظام الأجـزاء وتناسقها، إما بفعل طبيعتها الأصلية أو بفعل التعوّد أو بفعل الرغبة، وبشكل يعطى لذّة ورضا نفسيًا.. واللذّة والألم هى ماهية الجمال"(42)
        وفى إطار وضع فاصل بين أفكاره، وبين أفكار الحسّيين أو (التجريبيين) نجد "كانط" يعقد مقارنة بين الملائم والجميل والخير.
يقول كانط:
        "الملائم والجميل والخير، هكذا تشير إلى ثلاث علاقات متباينة من لتمثيل بالنسبة للشعور باللذّة أو الكدر، كشعور بالنسبة لما يميز موضوعات أو أنماط من التمثيل. وإن التعبيرات المناظرة لها أيضًا، والتى تشير إلى اشباعاتنا منها متباينة. الملائم هو ما يرضى Gratifies الشخص، والجميل هو ما يسرّه، والخير The Good هوما يوقّره (أو يحترمه) Approved (esteemed)، أى الذى هو فى موضع تقدير موضوعى Objective Worth. الملاءمة عامل هام بالنسبة للحيوان غير العاقل Irretional، والجميل هام جدًا، وذا مغزى بالنسبة للموجودات الإنسانية فحسب، أى الموجودات الحيوانية العاقلة (ليس لهم فقط كعاقلين، بل كحيوانات عاقلة فحسب) بينما الخيـر، خير لكل موجود عاقل بشكل عام. من كل هذه الأنماط الثلاثة لما هو "سار"، فإن تذوق الجميل هو الذى يقال أنه الوحيد المنزّه عن الغرض دون سواه، و"رضا حر" Free Delight، لأنه لا وجود لأى اكتراث معه، سواء للإحسـاس أو للعقل Reeason فى انتزاع الاستحسان Approval، وهكـذا فإنه يمكننا القول بأن "السار" فى الحالات المذكورة يتعلق بالنزوع إلى الاستحسان والاحترام Favour and Respect. بالنسبة للاستحسان هو مرغوب دون قيود (حرّ من كل ارتباط)، ولكن موضوع النزوع (الميل) وقانون العقل المسيطر على رغباتنا لا يترك لنا الحرية لأن نغير أى شئ فى موضوع اللذّة. وكل اهتماماتنا أو ميولنا تفترض مسبقًا وجود أساس يحدد الاستحسان أو التقدير ويجرد الحكمّ على الموضوع من حريته"(43)
        وإذا كان الجميل عام وكلىّ، فإن الملائم شخصى، بينما يرتبط الخير بالتقديـر الموضوعى. كما أن الجميل لا يقبل أى برهان لأنه غير مرتبط بأى تصوّرات، بل إن الجميل هو موضوع رضا كلى، فإذا قلنا بأن شيئًا ما "جميـل" فمعنى ذلك أننى أعزو إلى الآخرين نفس الرضا. فالحكم هنا لا يكون حكمًا فرديًا أو شخصيًا، بل إننى أحكم أيضًا للغير، ويكون الجمال كما لـو كان خاصية فى الموضوع، غير أنها ليست خاصية حسّية. والرضا الكلى لا يكون إلا فى حكم الذوق، لأنه خاصية لصيقة به. وإذا كان الذوق بالنسبة للجميل هو "ذوق تأمل" فإن الذوق بالنسبة للملائم هو "ذوق حواس" ذلك أن الأول _ الجميل _ يتصل بأحكام كلية، بينما الثانى يرتبط بأحكام فردية أو شخصية.
        وإذا كان "الجميل" يختلف عن "الملائم" بأنه كلىّ والملائم شخصى، فإنه أيضًا يختلف عن الخير. "فالجميل هو يسرّ مباشرة The Beautiful Pleased Immediatly، (ويكون هذا فى حدس تأملى فحسب، وليس فى تصور Concept مثـل الأخلاق. إنه - أى الجميل يسرّ بصرف النظر عن أى اهتمـام (الخير الأخلاقى، حقيقة، يجب أن يرتبط باهتمام) .. حرية التخيل Freedom of The Imagination (وكذلك حرية وحساسية ملكتنا) تكون مائلة فى حكمنا على الجميل كانسجام مع الاتساق مع قانون النطق الصورى (الفهم)، (فى الحكم الأخلاقى، حرية الإرادة يفكّر فيها كانسجام للإمكانية الخارجية ذاتها وفقًا للقواينن العامة للعقل وفى الجميل يكون المبدأ الذاتى للحكم أو التقدير مبدأً عامًا، وملزمًا لكل إنسان مع أنه لا يمكن إدراكه كتصوّر عام، (المبدأ الذاتى للأخلاق يقدّم أيضـًا كمبدأ عام، أى بالنسبة لكل ذات، وبالنسبة لكل فعل لنفس الذات، وأيضـًا كمدرك بواسطة تصوّر عام (Universal Concept) ومـن ثمّ فإن الحكم الأخلاقى يقوم على مبادئ معرفة ومن الممكن قيام قواعده عليها فى عموميتها."(44)
        إن حكم الذوق إذن، هو ما يرتبط بالجميل، وفيه نحكم على الموضوع، أو على أسلوب ما من أساليب التمثيل عن طريق الشعور باللذّة أو الكدر، وذلك دون أن يكون هناك أى غرض، أو منفعة، وما يسمى "جميلا" هو ما يمكن أن يكون موضوعًا لهذا الحكم.
        إن الجميل هو ما يسر مباشرة، وبصرف النظر عما يكمن وراءه، أى دون النظر إلى أى اهتمام، بينما الخير لا يسرّ إلا بغايته أو الهدف من ورائه، كذلك فإن الجميل هو موضوع حدس تأملى فى حين أن الخير موضوع تصوّر، ويخضع للعقل الذى يعبر عن الإرادة. فى الجميل تتمثل حرية التخيل وحرية حساسية ملكاتنا، بينما فى الخير تتمثل حرية افرادة التى تخضع لقوانين العقل.
        "فى الحكم الجمالى _ كما يؤكد "كانط" _ إننا نلتمس الموافقة فحسب، لا وجود لقواعد قانونية للتذوق، ولكن يجب أن نفكر فى لذتنا كصانعة للقانون بواسطة موضوعها فحسب.(45)
        وإذا كان اهتمام الحسّيين ينصب على الجوانب الحسّية فى العمل الفنى، فإن "كانط" يرى أنه "إذا بدا نقاء الألوان والإيقاعات، أو تباينها وتناقضها كصنو للجمال، فإن هذا يجب ألا يفهم على نحو خاطئ، وبأنه يعنى تضمينه لماهية الجمال، إن هذا ليس إلا أشبه بإضافة متجانسة فى الشكل Form لأنه سار فى ذاته، وإن هذا يجعل إدراك الشكل أكثر وضوحًاً"(46)
        وإذا كانت اللحظة الأولى قد انصبت على حكم الذوق، والتفرقة بين الجميل والملائم والخير، وكونها موجهة ضد الحسيين، فإنها أيضًا تشير إلى الحيادية فى الإدراك، وتقدير الجميل. وإن هذه الفكرة، و"التى تشكل أحد أعمدة موقف "كانط"، ليست فكرة جديدة تمامًا، رغم أن أحدًا لم يسبق "كانط" إلى معالجتها بمثل هذا الاتساق. أو تلك الدقة والمهارة الجدلية. فلقد تناولها مندلسون Mendellesson قبل كانط".(47)
        أن القول بأن الحكم الجمالى منزّه عن الغرض هو فى نفس الوقت الـذى يؤكد فيه على الحيادية، ويفصل بين ما هو ملائم أو خير، وبين ما هو جميل. إن الشعور المكترث أو الشعور بالمصلحة هو ذلك الشعور الموجه إلى الرغبة، أما الشعور الجمالى فلا يثير فينا أية رغبة، لأن اللذّة الجمالية لا تثير فينا الرغبة فى امتلاك الشئ الذى نشعر تجاهه بلذّة. "والذوق هو ملكة تقدير أى شـئ، أو نمط الامتثال باللذّة أو الكدر، بعيدًا عن أى غرض. وموضوع هذه اللذّة هو ما يقال له "الجميل""(48)
        لقد رأى "مندلسون" أننا نتأمل الجمال فى الطبيعة والفن بلذة ورضا ودونما رغبة. ذلك أن الرغبة والمنفعة هما ما يضعهما الحسّيون والتجريبيون أساسًا للتجربة الجمالية. ولكن "كانط" فى صياغته للذّة التى تتملكنا فى التجربة الجمالية يميز بين اللذّة  الناتجة عما هو جميل، وتلك الناتجة عما هو خير. إن رؤية "كانط" فى الجمالية التأملية الخالية من كل غرض أو رغبة هى التى ستتحـوّل جوهرًا لفلسفة الفن عن "شوبنهاور". كما أكد "صمويل الكسندر" بأنه حين يلبّى الجميل دافعًا تأمليًا فهو إنما يشير بذلك إلى طبيعته الحيادية.(49)
        ولكـن "كانط" بحياديته هذه يعزل حكم الذوق عن كل حاجات الإنسان العملية. لقد أدى هذا إلى أن رأى "كانط" أن الزخارف والنقوش هى الصـورة الحقيقية لما هو جميل. لقد أحال "كانط" التجربة الجمالية إلى "جزيرة خالية لا يسكنها غير شعور منعزل. كان جلّ اهتمامه منصبًّا، كما يبدو على تأسيس هوية للحكم الجمالى تقوم على شعور ذاتى مجرد؛ شعور لا يرتبط بالإحساسات _ كما هو الحال مع التجريبيين، ولا يتقاطع مع هموم الحياة الاجتماعية والأخلاقية"(50)
        إن الاهتمام فى حكم الذوق قد انصبّ على العناصر الشكلية فقط فى الموضوعـات الجمالية مع تجنب الدلالات والتعبير الانفعالى. إن هذا يؤكد أن الحيادية التى أكدها "كانط" هى تحرر من المنفعة، ومن كل مضمون. ولقد كان تأثير "كانط" كبيرًا على لاحقي كبيرًا، فقد كان "شيلى" و"كيتس"  و"ماثيو أرنولـد" و"جويو" معنيين جميعًا بحيادية العملية الفنية والتقدير الفنى. وقد رأى "كيتس" أن الشاعر هو أكثر الكائنات نأيًا من الشعر، فهو بلا هويّة تخصّه، هو دائمـًا متوحد بأشياء أخرى، وإذا كان للشمس وللقمر وللبحر وللرجال وللنساء رغبات تخصّهم وخواص تميزهم، أما الشاعر فليس عنده من ذلك شيئًا وليس له هوية.(51)
(2) اللحظة الثانية: لحظة الكم Moment of Quantity
يقول "كانط":
        "تعريف الجميل قابل للاستنتاج من التعريف السابق له كموضوع رضا بصرف النظر عن أى اهتمام. وهو إذ يكون شاعرًا بأن رضاه (سروره) بموضوع ما يعتمد على اهتماماته. فإنه من الضرورى أن ينظر إلى الموضــوع على أنه يتضمن أساس الرضا لجميع الناس. لذا، بما أن الرضا لا يقـوم على أى ميل أو نزوع للذات (أو أى اهتمام آخر متعمدّ) بل إن الذات تشعر بنفسها بأنها حرّة تمامًا بالنسبة لأى ميل ينسجم مع الموضوع، والـذات توجد كسبب للرضا، ليس كحالة فردية خاصة. وحينئذ فإننا يمكن أن ننظر إلى الرضا على أنه موجود لدى كل شخص، كما يجب أن يعتقد بأن لديه السبب للمطالبة بالرضا لكل إنسان. وتبعًا لذلك فإنه سوف يكون الحديث عن الجمال كما لو كان (خاصيّة) للموضوع، والحكم منطقيًا (يشكّل معرفة بالموضوع بواسطة تصوراتنا له) بالرغم من أنه جمالى فحسب Although It Is Only Aesthetic، ويتضمن مجرد امتثال الموضوع فى الذات، لأنه لا يزال يحمل هذا التشابه مع الحكم المنطقى، ذلك الذى يفترض أنه قانون لكل الناس."(52)
        فى اللحظة الثانية Second Moment ينتقل "كانط" فى الحكم على الجميل، إلى جانب الكم Quantity. فيرى أننا حين نقوم بتعريف الجميل فى هـذا الإطار، فإننا نراه كموضوع للشعور بالرضا، هذا الرضا فرديًا أو ذاتيًا، مع أنه يتضمن شعور الذات، إلا أن الذات تشعر بنفسها حرّة تمامًا ولا تخضع لتأثير الموضوع كموضوع. والذات إذ تشعر بالرضا، فإنها ترى هذا الرضا كما لو كان رضا جميع الناس. وهذا قد يؤدى إلى رؤية الجمال كما لو كان (خاصية) للموضوع أو صفة له، وأن الحكم يبدو كما لو كان منطقيًا مع أن الشعور بالرضا لا يأتى نتيجة لخاصية فى الموضوع، أى ليس موضوعيًا منفصًلا عن الذات، بل هو شعور الذات، وأن الحكم الجمالى هنا حكم ذوق نتيجة للشعور باللذة أو الرضا أو الارتياح، وليس نتيجة لتصوّرات.
        إنه الحكم الذى فيه "نتصور الجميل، دون الاستعانة بأى مفهوم عقلى، باعتباره موضوعًا لرضا كلىّ أو ارتياح عام."(53)
        ويرى "كانط" بأن هذه الكليّة لا يمكن أن تنبثق من التصوّرات Can Not Spring From Concepts، لأنه لا يمكن الانتقال من التصوّرات إلى الشعور باللذّة أو انعدامها (هذه التصوّرات موجودة فى حالة القوانين العملية Practical Laws، والتى تحمل اهتمامًا بها، وهذا الاهتمام لا يتصل بحكم الذوق الخالص).. والنتيجة أن حكم الذوق يتضمن القول بأن الناس جميعًا يتفقون بشكل طبيعى على كليته وعموميته.(54)
        وفى هذه الكلية أو العمومية يظهر الفارق بين الملائم والجميل، ففى حين أن لكل إنسان (ما يلائم) ذوقه الخاص من موضوعات، إذ يمكن القول بأنه "اللون البنفسجى مريح وجذاب عند هذا الشخص، وميت ومنطقى عند شخص آخر. وهذا يحب آلات النفخ وذلك يجب الآلات الوترية. ومن الحماقة والجنون أن يحاول المرء فى هذا المجال مدّعيًا خطأ حكم الغير، المختلف عـن حكمه هو وكأنه مضاد له من حيث المنطق. ولهذا فإن المبدأ الذى يقول: "لكل إنسان ذوقه" _ هو مبدأ صالح لما هو ملائم"(55). بينما فى "الجميل" لا يمكن القول بذلك، فالجميل لابد أن يكون جميًلا بالنسبة للجميع، أى أنـه موضوع رضا لجميع الناس _ كما يرى "كانط". إن أى شخص عندمـا يحكم حكمًا جماليًا، فإنه لا يحكم من منطلق ذاتى صرف، أى لا يحكم لنفسه فحسب، بل إنه يرى أن الجميل "جميل" بالنسبة للآخرين أيضًا، ويرى الجمال _ كما سبق وأوضحنا _ كما لو كان خاصية للموضوع الجمالى.
        "فالحكم الجمالى حكم منزّه عن الغرض، وبالتالى فهو يتصف بالكليّة، وذلـك عكس الملائم الذى يتلوّن  تبعًا للأمزجة، والمصلحة. "ولكن الكلية الـتى يتّسم بها الحكم الجمالى تختلف اختلافًا أصيًلا عن "الكليًة" التى يتسم بها الحكم المنطقى: فإننا لا نعرف الكلّى فى المنطق إلا عن طريق المفهوم أو التصوّر العقلى، فى حين أن الكلى فى عالم الجمال يظل عينيًا أو موضوعًا محسوسًا مع كونه فى الوقت نفسه عامًا أو مشتركًا بين الناس. ومهما فعلنا، فإننا لا نستطيع أن ننتقل من المعنى أو التصوّر، أعنى المدرك العقلى، إلى اللذّة الجمالية، أعنى إلى حالة من حالات الحساسية".(56) وذلك لأن الحكـم الجمالـى حكم ذوق، لا يعتمد على أى تصور، وليست له غاية، بل هو _ كما أسلفنا _ منزّه عن الغرض.
        ومن الجدير بالذكر أن (اللحظة الثانية) عند "كانط" ترتبط بنظرية تعد "الفـن لعبًا" فى ملكات المعرفة. ويرى "كانط" أن لا شئ يمكن أن ينقل للجميـع إلا المعرفة، والتصوّر باعتباره مرتبطًا بالمعرفة. ولكن بما أنه يعتبر أن أساس الحكم الجمالى ذاتى فحسب، أى دون (تصوّر)، فإنه يصل إلى نتيجة هامة تتعلق بمجمل فلسفته الجمالية، وهى أنه لا يمكن أن يكون هذا الأساس إلا حالة روحية من لعب حر يقوم به الخيال والعقل لأنه بإمكانهما أن يتوافقا (وهذا ضرورى للمعرفة بوجه عام)(57)
        ويرى "كانط" أن اللذّة التى يولدها فينا الموضوع الملائم. إنما تنبع مباشـرة عن إدراكنا لهذا الموضوع، كما أن الحكم الذى نصدره على الطبيعة الملائمة لهذا الموضوع إنما يجئ فى أعقاب اللذّة ويصدر عنها، وهذا هـو السبب فى أن مثل هذا الحكم - لابد أن يظل فرديًا وغير قابل للتوصيل إلى الآخرين، مثله فى ذلك كمثل اللذة التى صدر عنها، ألا وهى لذة الحـواس"(58). و"للذّة الجمالية يجب أن تميّز عن اللذّة الحسّيّة الخالصة للطعام والشراب. أنها يمكن أن تحصل فحسب عبر الأحاسيس التى تسمح بالتأمل (والتى تكون عبر الرؤية والسمع)."(59) والحكم الجمالى يتضمن (ما ينبغى)، أى أن الآخرين ينبغى أن يشعروا كما أشعر، وهذا يقودنا إلى القول بالكلية، والضرورة(60) - كما سبق أن أوضحنا.
        المخيلة، والعقل كقوّتين تعملان معًا بطريقة حرّة بعيدة عن أى تصوّر، والحكم الجمالى يكون نتيجة لعمل هاتين القوتين معًا. وهو يسبق اللذّة، ولذا فهو لا ينصب على الموضوع بل على الشعور باللذّة. وفى الحكم الجمالى يتم التوافق بين المخيلة، والعقل؛ أى بين ملكة الإدراك الحسّى وبين ملكة المعرفة العقلية.
        وفى اللحظة الثانية نجد "كانط"، موجهًا نقده للعقليين ذلك لأنه إذا كان الجميل هو موضوع رضا كلّى، ومنزّه عن الغرضـ ولا يقوم على أى تصوّرات عقلية بالنسبة "لكانط" فإنه قد حدّد بواسطة "ليبنتز" بأن الجمال هو كمال المعرفة الحسية Beauty is the Prsfection Of Sensille Knowlege"(61) . وأن اللذّة هى الشعور بالكمال أو الامتياز سواء فى أنفسنا، أو فـى الأشياء … وأن "الكمال هو التسامى"(62) وقد رأى "بو مجارتن"(63) أن الجمال هو نوع من المعرفة الدنيا الغامضة والمبهجة. وأن الأفكار التى يمكـن إدراكها على نحو كامل، ليست أفكار الحسّ، وبالتالى ليست من الشعر فى شئ وهكذا فالأفكار الخلاقة وحدها أفكار شعرية أما الأفكار الكاملة والمتميزة فهى ليست كذلك. 
        ومع أن الجميل، لدى "كانط" يعدّ قريبًا من تصوّر الخير لأنه يشترك معه فى كون الرضا الناتج عنهما كلى، إلا أن الفارق بينهما يكمن فى أن الخير يقوم _ فى كليته _ على التصوّر، بينما حكم الذوق ليس كذلك.
        وإذا كان "كانط" قد رأى أن اللذّة فى الخبرة الجمالية هى أمر يتلو الحكم الجمالى. وأن تلك اللذّة ليست إلا الرضا الناتج عن إدراك تجانس الملكات الفكرية فى التناول الجمالى لصورة ما، إنها تعدّ لذة خاوية فارغة وصورية ، ولا علاقة لها بالموضوع (الذى يفترض أنه أصلها)، ولا علاقة لها بالمضمون الفعلى للجمال فى الفن والطبيعة _ على حد قول "نوكس"(64)
        لقد كان "كانط" قلقًا بشأن تمييز موقفه عن موقف "الفلاسفة المشهورين" _ الذين كان "الكمال Perfection" يمثل حجر الزاوية فى علم الجمال لديهم _ "ليبنتز" و"بو مجارتن" على الرغم من الأسس التى أصرّ "كانط" على التمييز بناًء عليها لم تكن دائمًا على صواب، وأن المسافة بين موقفه، وبين العقليين السابقين له كانت أكبر أو أقل مما كان يفترض.(65)
        وإذا كان هناك فى بعض الأحيان تواز بين وجهتى نظر "كانط" و"لينتز"، فإنه أيضًا توجد بعض الاختلافات .. فقد عرف "كانط" الكمال كهدف داخلى غائى، بينما رأى "ليبنتز" أن المتعة أو اللذّة هى الكمال Joy or Pleasure Is Perception.(66)
        لقد كان "كانط" شأنه شأن أغلب الفلاسفة مهتمًا باتّساق نسقه الفلسفى، وجعـل "نقد الحكم" بمثابة عمل لسدّ الفجوة بين النقدين الأولين. ولذا جاء بناؤه ميتافيزيقيًا قوامه المقولات القبلية المطلقة، وبعيدًا عن كل موقف اجتماعى أو واقعى. وقد كان معنيًا بوضع مقولات جمالية لها قوة مقولاته فى فلسفته النظرية، والعملية.
اللحظة الثالثة: العلاقة The Relation
        يقول "كانط" فى نقد الحكم _ فى اللحظة الثالثة Third Moment:
        "دعنا نعرّف ما تعنيه الغاية End  فى المصطلحات الترانسندنتالية Transcendental Terms (أعنى بدون أى افتراض مسبق لأى شئ امبريقى Empirical، مثل الشعور باللذّة (المتعة). الغاية هى موضوع تصوّر بقدر إمكانية اعتبار هذا التصوّر سببًا للموضوع (الشئ). وسببية التصوّر بالنسبة لموضوعه نهائية  (Forma Finalis) Finality. وعندما  تكون معرفة الموضـوع غير مجرّدة، بل إن الموضوع نفسه (صورته ووجوده الواقعـى) يبدو كمؤثر، فإننا نفكر فى الإمكانية فحسب عبر تصوّره، هنا يمكننا تخيل الغاية. ويصبح تمثيل المؤثر هو المحدّد الأساسى الذى يقوم عليه السبب، ويقودنا إليه…"(67)
        فالغاية لابد أن تكون موضوعًا لتصور ما، وهذا التصور هو سبب أو علـة الموضوع، كما أن هذه السببية نهائية. وحتى لا يكون التصوّر مفروضًا على الموضوع فإن "كانط" _ يرى أن الجمال هو الصورة الغائية لموضوعه، أى أنه مدرك فى هذا الموضوع دون تصوّر لغاية من الغايات.
        وقد رأى "كانط" أن حكم الذوق، يكون خالصًا Pure بقدر ما يحدد الأساس الذى لا يشوبه أى رضا (سرور) امبريقى. ولكن مثل هذا الشئ الدخيـل يوجد حيث الإعجاب أو الانفعال يكون حاصًلا على نصيب من الحكم الذى به يوصف موضوع ما بأنه جميل"(68) 
        ومن الجدير بالذكر، أن "الغائية دون غاية" ليست إلا نتيجة للحظتين السابقتين فى تحليل "كانط" (الأولى والثانية). فإذا كان "كانط" يحكم على الجميـل دون غرض _ كما فى اللحظة الأولى _ فإن هذا يؤدى إلى أن الحكم ليس حكمًا ذاتيًا. وفى اللحظة الثانية يؤكد على أن الحكم ليس حكمًا معرفيًا Cognitive، أى أنه لا يتعلق بأى تصوّر. وهكذا لا تكون فى هذا الحكم غاية موضوعية. وبهذا يكون "الموضوع غائيًا حين يوفر اللذّة، أى حين يقود ملكات المعرفة إلى لعب منسجم، إلى حالة التصوّر ذاته، وإلى إشغال قوى المعرفة دون أى غاية (69)
        و"كانط" يحاول أن يقيم الحكم الجمالى على مبادئ قبلية ضرورية بعيدًا عن الجاذبية أو الانفعال، ودون اللجوء إلى مفهوم الكمال. ولكن لما كانت اللذّة إنما تفترض توجيه الميل نحو غاية ما، فإن حكم الذوق لابد بالضرورة من أن يكون حكم غائية.(70)
        وإذا كان فى حكم الذوق، تكون العلاقة بين الموضوع الجمالى والذات التى تتأمل الموضوع تقوم على ما يسمى (الغائية بدون غاية)، فإنه تبعًا لذلك تكون اللذّة لذة خالصة لا علاقة لها بالحسّ. "فاللذّة فى الحكم الجمالى تستند إلى  التأمل الخالص، ولا تتضمن أى اهتمام بالموضوع"(71)
        أن ما يفسد حكم الذوق، ويجعله حكمًا غير منزه عن الغرض أو غير نزيه هو الاهتمام، ويكون الذوق ساذجًا حين يكون فى حاجة إلى الإعجابات والانفعالات ليحدث السرور أو الرضا، وحين يكون ذلك من معاييره. وحكم مبدؤه هو غائية الصورة (الشكل) هو حكم ذوق خالص A pure Judgment of Taste.(72)
        وقد قسّم "كانط" الأحكام الجمالية إلى أحكام تجريبية وأحكام خالصة. تؤكد الأولى وجود اللذّة أو عدمها، بينما تقدم الثانية جمالية الموضوع أو شكل عرضـه. الأحكام الأولى هى أحكام الحسّ (أحكام جمالية مادية) بينما الأحكام الثانية وحدها هى الأحكام الذوقية الصحيحة.(73)
        وإذا كان الحكم الجمالى لا ينهض على أى تصوّر من التصوّرات فإن هـذا يؤدى إلى رفض (تصوّر الكمال) الذى أقام عليه "ليبنتز" حكمه الجمالى. ورفض "كانط" لذلك التصور (الكمال) جاء على أساس أنه مجرد تصوّر عقلى خالص، وليس بوسعه اعطاءنا أى لذّة.
        ولقد أدى تأكيد "كانط" على نقاء اللذّة الجمالية إلى إقامة تمييزه بين الجمال الحر Free Beauty. والجمال التابع Dependent Beauty.
        يقول "كانط" فى "نقد الحكم":
        "يوجد نوعان من الجمال؛ الجمال الحر Free Beauty (Pulchritudo Vagd والجمـال التابع Dependent Beauty (Pluchritudo adheasegs). الأول يفترض أنه لا وجود لتصوّر ما يجب أن يكون عليه الموضوع. والثانى يفترض وجود مثل هذا التصوّر واكتمال الموضوع بالنسبة لذلك. الأول (يسمى بالوجود فى ذاته) بالجمال الموجود فى ذاته بالنسبة لهذا الشئ أو ذاك. أما الثانى. فتابع للتصوّر (الجمال المشروط Conditioned Beauty) ينسب إلى الموضوعات التى تندرج تحت تصور غاية خاصة.."(74) "وعند الحكم على الجمال الحر (وفقًا للصورة الخالصة) فإن حكم الذوق يكون حكمًا خالصًا، ولا وجود لافتراض أى تصوّر للغاية… ولكن الجمال الإنسانى. جمال الحصان. أو المبنى، يفترض تصورًا لغاية التى تحدد ما يكونه الشئ، وتبعًا لذلك كما له Its Perfection، إنه يعدّ لذلك جماًلا تابعًا"(75)
        ولقد كان تمييز "كانط" نوعى الجمال (الحر، والتابع) وقد يطلق على التابـع لفظ المشروط Conditioned، أو المشايع Adherent وقد وضع "كانط" _ دون لبس _ فى نطاق الجمال الحر، ذلك النمط الذى لا صلة له بالخيرية Goodness.. وقد اهتم الفن فى العصر الحديث بالجمال الحر، وأسقط من حسابه الجمال التابع.(76)
        وإذا كان الجمال الحر "يدرك دون الحاجة إلى فكرة تصوّرية، فإن الجمـال التابع يتطلب التصوّر القبلى للموضوع. فعندما أدرك صورة أو مبنى ليس بوسعى الحصول على أى انطباع بالجمال إلا إذا وضعت هذا الموضــوع تحت تصوّر يشير _ فى هذه الحالة _ إلى المحتوى المعبر عنه _ إن الحكم فى هذا الجمال التابع أقلّ تجردًا أو نقاًء منه فى حالة الجمال الحر. ويمكن أن يكون خالصًا فحسب بالنسبة للشخص الذى ليس لديه أى تصوّر عن معنى أو وظيفة ما يراه. الأمثلة الخالصة للجمال هى تلك الحرة فحسب. وعند تأمل هذه الأمثلة تكون ملكاتنا قادرة على التحرر كليّة من أعباء الفكر العلمى والعملى، والدخول فى اللعب الحر Free Play الذى يعدّ الأساس الذى تقوم عليه اللذّة الجمالية، والأمثلة على هذا الجمال الحر تنتشر فى الطبيعة، وليس فى الفن"(77)
        لقد جاء التمييز بين الجمال الحر والجمال التابع نتيجة لرغبة "كانط" فى تمييز الأحكام الخالصة للذوق الجمالى Pure Judgment of Aesthetic Taste من الأحكام التى _ بالرغم من ارتباطها بأحكام الذوق، أو تشابهما معهـا فى بعض الجوانب، إلا أنها فى ذاتها غير خالصة Impure. "فإذا حكمنا على الكنيسة _ على سبيل المثال _ بأنها جميلة. فإن هذا يتطلب أن تكون لدينا فكرة عما يجب أن تكون عليه الكنيسة. وهذا ليس من الحكم الخالص، وذلك لاعتماده على تصوّر يحدّ من الدور الحر للتخيل The Free Play Of Imaginatin. وتأملنا للكنيسة محصور فى نطاق معين بالتأمل فى طبيعة وظيفة الكنائس. من ناحية أخرى يوجد الجمال الحر حيث لا يكون هناك ما يسمى بأفكار أو تصوّرات معيارية Normative، فزهرة النّوار، طيـور الفردوس، أنواع المحار المتباينة، الرسوم غير الرمزية، كالتصميم فى اللوحات، والموسيقى التى لا تتخللها كلمات والتى قدمها "كانط" كأمثلة (بالرغـم من أن عالم النبات قد تكون لديه فكرة عما يجب أن يكون عليه نـوع ما من الزهور)، إلا أنه لا يضع هذه الفكرة فى اعتباره عندما يحكم على جمالها"(78)
        و"كانط" بمحاولته فصل الجمال الحر عن الجمال التابع، وجعل الأول هو أساس حكم الذوق الخالص، لأنه لا يعتمد على أى تصوّر مسبق لما يجب أن يكون عليه ما هو جميل، وذلك على العكس من الجمال التابع الذى يعتمد على تصوّر يحدّ من قدراتنا التخيلية الحرّة. مجمال الكنيسة أو أى مبنى، أو جمال الإنسان أو الحصان يكون متّسقًا مع التصور الذى يجب أن يكون عليه الشئ. فكون الكنيسة تمثل مكانًا للعبادة هذا مما يحدّ من انطلاق خيالنا، لأن المصلحة، الوظيفة النفعية للعمل هى المحدّد الأول لوجوده، وإذا لم تتوافر فى الكنيسة هذه الصفات أو تلك التى ترتبط بوظيفتها، فإنها تكف عن أن تكون كنيسة، سواء كانت من الناحية الجمالية أقل، أو أكثر.
        وتعيدنا التفرقة بين نوعى الجمال (الحر، والتابع) إلى آراء "هاتشسون"، و"كايمز" فقد رأى "هاتشسون" أن الجمال هو إما أصيل أو مقارن، مطلق أو نسبى.. والجمال المطلق هو ذلك الجمال الذى ندركه فى الأشياء دونما حاجة لمقارنته بشئ آخر، بل يغدو هو نفسه نموذجًا يحاكى، كذلك الذى تجده فى أعمال الطبيعة، وفى الصور المشغولة والأشكال.. أما الجمال المقارن أو النسبى فهو ذلك الذى ندركه فى الموضوعات، ويكون بصفة عامة تقليدًا أو محاكاة. أما "كايمز" فقد كان أقرب إلى "كانط" إذ رأى أن الجمال إما "جمال ذاتى أصيل" يقوم فى موضوع بذاته مستقًلا عن أى شئ آخر، أو "جمال نسبى" لأنه يستند إلى علاقته بأشياء أخرى.. الجمال الذاتى هو موضوع للرائع فقط، كأن تدرك جمال سنديانه أو جمال نهر يجرى، وهذا أمر لا يحتاج إلى أكثر من فعل النظر. أما إدراك الجمال النسبى فأمر يحتاج، بالإضافة إلى عناصره الخاصة، إلى الفهم والتفكير، إذ ليس بمقدورنا أن ندرك جمال آلة ما مثًلا، إلا إذا أدركنا وجه استعمالها، أو الغاية منها.(79)
        إن تأكيد "كانط" على أن "الجمال الحر" هو الذى يمثل الجمال الخالص، وهو الذى ينصب عليه حكم الذوق الخالص. قد أدّى "بكانط" إلى عزل الجمال عن كل من الأخلاق والحياة الاجتماعية للإنسان، كما جعله يهتم أكثر وأكثر بالنواحى الشكلية فى الموضوع الجمالى.
        إن الوحدة التى ندركها فى الجمال الحر للطبيعة _ على حد تعبير "كانط" _ تأتى إلينا نقية خالصة مجرّدة من كل اهتمام أو ميل: إنها الوحدة التى تشير إلى عدم وجود هدف، أو غاية محددة ولكنها تشير لنا بأن منشأها Its Origin يكمن فى ذواتنا كوجود غائى.. الوحدة الجمالية _ كما يراها "كانـط" _ تظهر للعيان غائية بلا غاية. والتجربة الجمالية هى التى تقودنا إلى رؤية كل موضوع كغاية فى ذاته، وتقودنا أيضًا إلى الإحساس بعدم غائية الطبيعة.(80)
        لقد كان مطلب "كانط" هو التأكيد على استقلالية الجمال، ولذا نجده يجعل الجمال الحر _ كما سبق وأشرنا _ هو الوحيد الذى يمكن أن يقوم فيه حكـم الذوق المحض. لقد رأى "كانط" أن جمال الكنيسة أو المبنى، .. إلخ إنمـا يكون أكثر لذّة ونقاًء، إذا لم يكن هذا البناء  (كنيسة .. أو شئ آخر)، أى إذا انتفى الغرض المقام من أجله. وهو بذلك يؤكد على عدم وجود تصوّر مسبق للجميل. وقد دفعه ذلك إلى القول بنوع من الجمال المجرد، أو جمال موضوعات لا تعنى شيئًا ولا تمثل شيئًا (كالأزهار، والطيور، والأرابيسك، والتخطيطات الزخرفية … إلخ) أى أن الحكم الجمالى لديه ينصب على الشكل (أو الصـورة) فى حالة النقاء التام. بل إن عالم البنات إذا فكر فى الزهور من الناحية العملية أو العلمية يكفّ رأيه أن يكون رأيّا جماليًا. وقد كان استدعاء "كانط" لما يسمى بالجمال التابع محاولة لوضع بعض الموضوعات مثل (الإنسان، والحصان .. النحت .. العمارة ..) تحت هذا التصوّر حتى ينقذ رؤيته النظرية من التناقض.
        "لا توجد قاعدة موضوعية يحدّد بها الذوق ما هو جميل استنادًا إلى تصوّر، لأن كل حكم صادر عن هذا المصدر هو حكم جمالى، أى أن مبدأه المحدّد هو شعور الذات، لا تصوّر الموضوع، ومن العبث البحث عن مبدأ للذوق يوضح بواسطة تصوّرات معينة المعيار الكلّى للجميل، لأن ما نبحث نحن حينئذ أمر مستحيل ومتناقض فى ذاته".(81)
        لقد أقام "كانط" نظريته على أساس عدم إخضاع الفن للسياسة أو الأخلاق أو المنفعة. وكان فى بنائه الفلسفى الصارم إنما يحاول الرد، أو دحض، النظريات التى كانت سائدة فى عصره والتى ربطت بين الفن والمصالح الاجتماعية، جاعلة الفن بمثابة أداة فى يد السلطة أو المجتمع. وهذا هو ما دفع "كانط" إلى وضع نظريته بعيدًا عن المنفعة، وفى تضاد مع الأفكار السائـدة آنذاك والتى جعلت العقل أداة فى يد البورجوازية التى تحوّلت أهدافها الثورية إلى قوانين ولوائح رجعية تهدف للسيطرة ولذا كان "كانط" فى رفضه للتصور المسبق للفن أو الجمال، إنما يرفض _ بشكل أو بآخر _ المنطق السائد آنذاك، ويجعل الجمال يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالذات. لقد جعل "كانـط" الجمال الحر، حرًّا، من سطوة كل خارجية، وترك الجمال التابع ليكون مجاًلا لمثل هذه التصوّرات ولكن "كانط" بفصله الحاد بين الجمال الحر والتابع، كان يقيم ذلك على أسس شكلية خالصة، وبذلك انتفت لديه وحدة الشكــل والمضمون، والتى تعدّ الأساس الذى ينهض عليه تقويم _ ما يدعوه _ الجمال التابع، مثل المبنى، أو النحت، أو الإنسان .. إلخ. إذ أن مثل هذا الجمال يكون ممتعًا عندما تنسجم وظيفته مع تصوّره، أى حين يتم التوافق والانسجام بين شكله ومضمونه.
        لقد رأى "كانط" أن الجمال يكمن فى الصورة لا فى التصوّر. فالجمال هو نمط الغائية الداخلية للموضوع، على أن تدرك بعيدًا أى غاية.(82)
        وهكذا نخلص فى هذه "اللحظة" بأن الجمال مستقل عن الكمال، وعن الانفعال والجوانب العاطفية، ويعد الذوق غير سليم إذا احتاج إلى الانفعالات، والإثارة. فالذى يحتاج إلى الإغراء لكى يرى الموضوع "جميًلا" يكون ذا ذوق ضعيف، غير مدرّب أو ذوق بدائى. وحكم الذوق لا يحتاج إلى قاعدة، لأن أساسه الشعور، وليس المعرفة الصورية. "فالكامل عقلى، بينما الجميل ليس عقليًا، بل شعوريًا. فنحن أما ننجذب إلى إلى الشئ أو ننفر منه. والكامل هو المطابق للتصوّر. أما الجميل فهو مضاد للتصوّر: إن الجميل يقوم فى شئ غامض، ليس فى الكامل"(83) . وإذا كانت "التناقضات هى نهاية المنطق، إلا أنها بمثابة البداية الحقيقية للفن"(84) .


اللحظة الرابعة: الشكل Modality
        إذا كان الحكم من حيث الموضوعية والذاتية يمكن أن يقع تحت حالات ثلاث: إما أن يكون تقريرًا لحقيقة عن طريق التجربة، أو برهنة نظرية على قضية علمية يسلم بها ضرورة، أو مجرد احتمال منطقى، إلا الجمال فإن خاصته تقرير ما يدرك _ ضرورة _ إدراكًا ذاتيًا ابتداء، ولكنه موضوعى من ناحية التصوّر، بافتراض عموم الشعور به لدى ذوى الأذواق. فالجميل هو ما يعترف له بهذه الصفة، لأنه مصدر شعور ذاتى بالرضا به دون حاجة إلى أفكار وأقيسة يتطلبها الحكم الموضوعى(85)
        والضرورة الذاتية المنسوبة إلى الحكم الجمالى مشروطة، ذلك أن الحكم الجمالى حكم يتطلب أو يقتضى موافقة جميع الناس. وهذه الضرورة إنما تعود إلى ما يسمى بالحسّ المشترك Common Sense
الجميل، مطالب بواسطة حكم الذوق، أن يكون حاصًلا على إشارة ضرورية للإشباع الجمالى. ليس معنى ذلك أننا عندما نشعر بشئ يمكننا أن نضمن أن كل الناس يشعرون به، بل بالأحرى، أنهم يجب أن يحصلوا على نفس الاشباع الذى لدينا.(86)
        وإذا كان الحكم الجمالى حكمًا غير موضوعى أو معرفى، فإن ضرورته ليست مشتقة من تصوّرات، وليست قطعية. وكذلك، بصرف النظر، عـن أن الخبرة يمكن أن تؤسس بيّنة مقبولة بالنسبة لهذا الغرض، فإن الأحكام الإمبريقية Empirical Judgment لا تقدم أى أساس لتصور عن ضرورية هذه الأحكام(87)
        ويقول "كانط" أيضًا فى نقد الحكم:
        "فى كل الأحكام التى نصف فيها أى شئ بأنه جميل، فإنه ليس لأى إنسان أن يقدّم بطريقة أخرى رأيًا مباينًا، ونحن فى اتخاذنا لهذا الموقف لا نقيم حكمنا على تصورات، بل إننا نقيمه على أساس من الشعور فحسب. ووفقًا لذلك فإننا لا نقدم هذا الشعور الجوهرى كشعور خاص، بل كإحساس عام Public Sense. وحاليًا من أجل هذا الهدف، لا يمكن للتجربة أن تصنع هـذا الإحساس العام، لأنه (أى الإحساس العام) يناشد الأحكام التى تتضمن ما ينبغـى Ought. وتأكيدنا ليس لأن كل فرد سوف يلتقى مصادفة بأحكامنا، بل بالأحرى، أن كل فرد يجب أن يوافق عليها. ومن هنا فإننى أجعل من حكم الذوق مثاًلا على الحكم الذى يمثل الحسّ المشترك Common Sense، وننسب إليه النموذج المحتذى قانونًا، والحسّ المشترك محض معيار مثالى Ideal Norm. والحكم كتمثل ينسجم معه، بالإضافة إلى أن الرضا (السرور) بالموضوع المُعبّر عنه فى الحكم يتحول إلى قاعدة لكل الناس".(88)
        إن الضرورة والكلية هما أساس الحكم الجمالى - فى هذه اللحظة - وهـذه الضرورة تنبع من عدم إمكانية الخروج على الرأى لأى إنسان بطريقة أو بأخرى. فإذا وصف شئ - بناءً على هذا - بأنه جميل، فلابد أن يوافق عليه الجميع وذلك لأنهم يكونون قد حصلوا على نفس الإشباع الجمالى Aesthetic Satisfaction. وهذه الضرورة لا تقوم على تصوّرات بل هى قائمة على الشعور، وهذا الشعور ليس شعورًا خاصًا، بل هو فى الأساس إحساس عام. أى أن الحكم الجمالى ينهض على أساس من الحسّ المشترك. وهذا يعتمد على أن الإنسان يملك مبدأ ذاتيًا يحدد بواسطة الشعور فحسب، ولا يخضع لأى فكرة مجردة أو أى تصوّر. وهذا يفترض أيضًا توافقًا عامًا من القوى المدركة لدى الناس.
        وبناء على ذلك فإن "كانط" يرى أن الضرورة الذاتية التى تعزى إلى حكم الذوق مشروطة The Subjective Necessity Atributed to A Judgment of Taste Is Conditioned. فحكم الذوق يتطلب موافقة من كل إنسان. والشخص الذى يصف شيئًا بأنه جميل يؤكد أن كل إنسان يجب أن تكون إجابته عن سؤاله عنه بالاستحسان ويصفه بأنه جميل. والـ "يجب Ought" فـى الحكم الجمالى، بالرغم من اتفاقها مع كل ما يتطلبه العبور نحو الحكم، تظل مع ذلك مشروطة. إننا نلتمس موافقة كل الناس، لأننا نتشجع (نتقوّى) بالأساس المشترك للجميع.(89)
        الضرورة الذاتية ليست قطعية مطلقة، بل هى ضرورة مشروطة، وشرطها يفترض وجود الحسّ المشترك. أى وجود إحساس عام بين المدركين للموضوع الجمالى، مما يجعل فى الإمكان تبادل الانطباعات الجمالية Aesthetic Impressions فيما بينهم. والحسّ المشترك ليس "حسّا خارجيًا غريبـًا عنا، وإنما هو الأثر الذى يتركه اللعب الحر لملكاتنا الفكرية"(90). هذا الحـسّ المشترك معيار مثالى - فى رأى "كانط" - ينسجم معه الحكم، كما أن الارتياح أو السرور بالموضوع المعبر عنه فى الحكم يصبح قاعدة لكل الناس.
        إن تعبير "اللعب الحر للملكات" لدى "كانط" إنما يمكن توضيحه عبر المقارنة بين الحكم الجمالى والحكم الامبريقى. فإذا كان "أى حكم امبريقى كما يظهر بوضوح فى نقد العقل الخالص Critique Of Pure Reason يتضمن الجمع بين الحدوس Intutions  (فعل التخيل) والتصورات Conceptions (فعل الفهم الصورى Understanding)، ولكن فى هذه الأحكام لا وجود للحرية Freedom بالمرّة، بل الامتثال للقانون وللتصوّرات المحددة. فقط، عندما يثير الخيال التصوّرات، وعندما يضع الفهم - وهو فى معزل عن التصوّرات - التخيل فى لعب حر. يكون الامتثال متّصًلا بنفسه، ليس كتفكير، بل كشعور داخلى، كحالة قصدية للذهن".(91)
        الحسّ المشترك هو الذى يقدم الانسجام للحكم الجمالى، والحرية تكمن فى أن الفهم - بعيدًا عن التصوّرات - يضع التخيل فى لعب حر. وهنا يكون الامتثال متصًلا بنفسه كشعور داخلى. والحسّ المشترك هو الذى يجعل الحكم الجمالى ممكنًا. لأنه يصبغ عليه الشرعية، شرعية اشتراك الجميع فى نفس الشعور باللذّة أو الكدر.
        تندرج كلية الشعور تحت حكم الذوق، بمعنى أننا نتوقع أن أحكام الآخرين سوف تكون متفقة معنا، وتؤكد لنا أن أحكامنا الذوقية خالصة بواسطة المشاعر التى لا تتصل إلا باللذة الجمالية، وليس بواسطة الاهتمام العقلى أو القيمة الأخلاقية، وذلك لأن المشاعر لها قدرة كلية على التوصيل كنتيجة لطبيعة ذاتية فى بنية الذهن الإنسانى تبدع ميًلا أو اهتمامًا لما هو جميل.(92)
        وقد رأى "إرنست كاسيرر Ernest Cassirer" أن "كانط" قد ميّز بين الأحكام الجمالية والمنطقية، إذ أنه _ أى "كانط" _ يقرر أننا فى "أحكامنا الجمالية لا نهتم بالشئ فى ذاته، وإنما نهتم بالتأمل الخالص له. والكلية الجمالية تعنى أن محمول الجمال غير مقصور على فرد بعينه؛ وإنما يمتد إلى كل ميدان الناس المنوط بهم الحكم. ولو كان العمل الفنى نزوة فنان فرد، وانطلاقه غضبه لما كان له هذه القدرة التوصيلية العامة".(93)
        لقد وضع "كانط" مبدأ الحسّ المشترك" كأساس لكليّة "حكم الذوق"، وذلك عبر توقعنا اتفاق الآخرين معنا فى نفس الحكم. وأن للفن قدرة توصيلية مـا. ولكن هذا "الحس المشترك" ليس إلا مبدءا عقليًا خالصًا، أو معيارًا مثاليًا خالصًا فى رأى "كانط" - على حد تعبير "نوكس". "فالضوء الذى ينير جمال الطبيعة والفن ليس مخبوءا فى ظلمة العقل الداخلية. هو أكثر من انسجام عفوى بين القوى الذهنية. الفن هو نفسه سبب لاشتراك أصيل بين الناس، وتأثيره الحقيقى إنما يكمن فى مدى تبديله فى خبرتنا وتوسيعه وتعميقه لوعى الناس"(94) وهكذا يكون مبدأ الحسّ المشترك، وفقًا للتصوّر "الكانطى" من الصعب تقبّله.
        إن اللذّة تعود مباشرة إلى حدس الشكل. فانتظام أجزاء الشئ يعدّ ضروريـًا لإدراكه "لأنه يوجدها فى كل منسجم يؤدى إلى تكوين فكرة مجردة عامة عنه"(95). ولقد رأى "كانط" أنه من السهل "أن تظهر المشاكل فى هذه المصطلحات _ يقصد مصطلحات حكم الذوق وما يرتبط بها، فللوهلة الأولى يبدو أن جمال موضوع ما يعتمد فحسب على خواصه الشكلية Its Formal Proprties، وبصفة خاصة لملاءمة هذه الخواص الشكلية لتقديم نوع محدد من الألفة بين التخيل والفهم الصورى، وليس أكثر مما يحتاجه اليقين بأن بنية الخيال الإنسانى وفهمه الصورى ليست خاصية فردية، بل هى حقيقة كلية. وهذا غير قابل للجدل _ كما أكد "كانط" ذلك."(96)
        إن القواعد الدقيقة لا تتلاءم مع طبيعة الجمال الخالص، وإن كانت هـذه القواعد ضرورية فى الجمال التابع. وهكذا فإن الفهم يكون _ فى الجمال الحر _ فى خدمة المخيلة وليس العكس. ذلك أن الجميل هو ما يعدّ موضوعًا لسرور (لرضا) ضرورى دون الاستناد إلى أى  تصوّر عقلى أو عملى.
        إن حكم الذوق _ لدى "كانط". يحدد موضوع الجميل بناء على اللذّة التى يسبغها هذا الموضوع، والتى تجد الموافقة لدى الآخرين، مما يجعل الحكم يبدو كحكم موضوعى. وإن كان هذا الحكم لا يستند إلى أى برهان، ولا يقوم على أى مبدأ وضعى سوى الشعور باللذة أو الكدر، ولا يقوم على أى تصوّر لهدف أو غاية. بل إنه _ مبدأ الذوق _ مبدأ ذاتى له ملكته الخاصة التى تقوم على المخيلة التى تنسجم مع الفهم _ هذه الملكة هى ملكة الحكم Faculty Of Judgment. هذا الذوق ليس إلا نوعًا من الحسّ المشترك الذى يوجد لدى جميع الناس، والذى يعد معيارًا نموذجيًا.
        ولقد كان تأثير "كانط" على لاحقيه كبيرًا، وقد فسّرت أفكاره على أنحاء شتى فنجد من أتباعه من استخلصوا من أفكاره نظرية (الفن للفن)، مؤكدين على لا هدفية الفن، ووصلوا إلى عدم ربط الفن بالحياة الاجتماعية. وانفصل الفن عن الواقع، وأصبح مجرد لعب حر.
        يقول "هنرى لوفافر"
        "فى سلسلة كبار النظريين الجماليين، بعد "ديدرو"، يجئ "كانط"، غير أن وجهة علم الجمال من "ديدرو" إلى "كانط" كانت قد تغيرّت جذريًا. فإن المقابلة بين الواقع وبين الأثر الذى يمثله أصبحت مقابلة (إن لم نقل تقابًلا) بين المضمون Content وبين الشكل Form. وفى رأى "كانط" أن الشكل يتغلب، فهو الذى يحدّد الأثر الفنى ويعينه. وللأثر الفنى وحدة، وطبيعة نهائية داخلية، وهى تؤلف كلا واحدًا. وهذه الخاصية تميّزها عن كل شئ آخر. وتستثير الانفعال الجمالى. وهذه الخاصية مستقلة ولا شك، عن المضمون، عن المحسوس، هكذا يقول "كانط". وأكثر من هذه أيضًا نرى أن هذه الخاصيّة تبدو فى حالتها الصافية الخالصة، حين يتلاشى المضمون ويزول، كما يحدث فى الفن الزخرفى الصرف، والنقوش (الأرابيسك) والنواتئ الغصنية والنقش المخروطى. وبهذه التعريفات قدم علم الجمال الشكلى أو الدراسة الشكلية - يعنى علم الجمال عند البورجوازيين".(97)
        لقد رأى "كانط" أن "الجميل" هو ما نعتبره موضوعًا لسرور أو رضا ضرورى. وكلى دون الاستناد إلى تصوّرات. وكان تركيزه على العناصر الداخليـة للعمل الفنى سببًا فى استناد الشكليين إلى آرائه، وكذلك مدرسة الفن للفن - ذلك أنه رأى أن الجمال، رضا منزه عن الغرض، وغائية بلا غاية.
تحليل الجليل
        يعود التمييز بين الجميل والجليل إلى لونجينوس Longinus (213 _ 273) وذلك من خلال كتابه عن الجليل. وقد عرّف صاحب الكتاب الجليل بأنه "صورة عظمة النفس" ذلك أن الطبيعة لم تجعل منا، نحن أبناءها، كائنات خسيسة، وإنما أشاعت الحياة فى الكون على نحو يجعلنا ننشد الأفعال الجليلة، ونشتاق إلى ما هو عظيم. ونحن إذا أحطنا بداءة الحياة، لوجدنا أن الكون حافل بما هو جميل ورائع وأنيق. ولهذا تدعونا الطبيعة إلى الإعجاب، لابصفاء جدول صغير، بل بالنيل، والدانوب والراين، وما وراء كل المحيطات.(98)
        وقد اكتسب "الجليل The Sublime" أهمية كبرى بوصفه مقولة استاطيقيــة فى القرن الثامن عشر. فقد قال "جون دنيس John Dennis" فى حديثه عن رحلته عبر جبال الألْب أن الصخور والمنحدرات الهاوية قد بعثـت فيه رعبًا بهيجًا، وسرورًا مخيفًا، حتى أننى كنت ارتعد فى نفس الوقت الذى كنت أشعر فيه بلذّة لا حدّ لها.(99)
        وقد رأى "ادموند بيرك Edmond Burke" أن الجميل والجليل نوعان من الحكم الجمالى.. وهما فكرتان بطبيعتين مختلفتين، ففكرة الجليل تقوم على الألم، بينما تقوم فكرة الجميل على اللذّة، ومهما تغيّرا بعد ذلك حسب علتيهما، فإن عليتهما تدفعان باستمرار نحو تأكيد الفارق بينهما، فارق يجب ألا يغفل دوره فى إثارة العواطف.(100)
        وقد رأى "بيرك" أن الجليل يتميز بالصفات التالية: عدم الشكل، القوة، ضخامـة الحجم".(101) وقد استند "بيرك" إلى تبرير الفارق بين الجميل والجليل على أسس حسّية، فيقول: "الموضوعات الجليلة ذات أبعاد كبرى بينما الموضوعـات الجميلة صغيرة نسبيًا: الجمال يجب أن يكون ناعمًا مشعًّا، بينمـا العظيم ضخم، مشدود؛ الجمال يتمسك بالخطوط المستقيمة وإن شذّ قليًلا فبخجل لا يكاد يرى وربما رغب العظيم فى الخطوط المستقيمة ولكنه إن انحرف أو شذّ عنها فانحرافه شديد وبيّن؛  الجمال يجب ألا يكون غامضًا بينمـا العظيم ملزم أن يكون داكنًا معتمًا، الجمال يجب أن يكون خفيفًا ولذيذًا، أما العظيم فصلب بل وثقيل".(102)
        وقد رأى "بيرك" أنه "عندما يقترب الخطر أو الألم أكثر مما ينبغى، لا يمكن أن يبعثا فينا أية بهجة، بل يكونان مخيفين فحسب؛ أما عندما تفصلهما عنا مسافات معينة، ومع إدخال بعض التعديلات، فمن الممكن أن يكونا بهيجين، بل يكونان كذلك بالفعل كما تشهد تجربتنا اليومية"(103)
        وإذا كانت نظرة "بيرك" قد اتسمت بطابع حسّى، أو فسيولوجى وسيكولوجى، فإن نظرة "كانط" كانت ذات طابع ميتافيزيقى. "فالشعور بالجليل كما فسّره "كانط" لا يرتبط بالفهم الصورى Understanding كما هو الأمر بالنسبـة للجميل، بل يرتبط بالعقل Reason،.. والجليل هو الشعور الذى يثيره تأملنا للموضوعات الطبيعية."(104)
        لقد كتب "كانط":
        "الجميل والجليل متّفقان فى أنهما يسرّان بنفسيهما، وعلاوة على ذلك فإنهما متفقان فى أنهما لا يفترضان مقدمًا حكم الحواس، ولا التحديد المنطقى Logical Determinant، بل حكم التأمل. وتبعًا لذلك، فإن السرور (الرضا) لا يعتمد على الإحساس كما هو الحال فى الملائم Agreable، ولا على تصوّر محدّد، مثل السرور المتصل بالخير The Good، وبالرغم من ذلك فإنه يشير إلى تصوّرات غير محددة Indeterminate. وتبعا لذلك فإن السرور مرتبط بالملكة التى يصدر عنها، ولذا فإن ملكة الخيال تعبر عن حدس منسجم مع ملكة التصوّرات، والتى تتصل بالفهم الصورى، أو العقل Reason، بمعنى أن الأول يكون مساعدًا للأخير. ولذا فإن الأحكام فى الحالتين أحكام فردية، ولكنها تقدم نفسها على أنها أحكام صادقة صدقًا كليًا بالنسبة لكل ذات، مع حقيقة أنها تدّعى تعلقها تعلقًا مباشرًا بالشعور باللذّة، وليست متعلقة بأى معرفة بالموضوع.(105)
        الجميل والجليل يستندان إلى أسس ذاتية، وذلك لكونهما يقعان تحت الحكم الجمالى. يستندان إلى أصول الحسّ عبر الفهم التأملى فى الجميل، وإلى التعارض مع الحسّ فى الجليل. وهم يختلفان عن الملائم الذى يعتمد على الإحساس، كما أن الأحكام فى الجميل والجليل فردية ولكنها تقدم نفسها على أنها صادقة صدقًا كليًّا بالنسبة لكل ذات. وهنا يختلف رأى "كانط" مع رأى "بيرك" الذى كان يتسم بطابع حسّى.
        وإذا كان "كانط" قد بدأ بتحديد  ما يتفق فيه الجليل مع الجميل، فإنه بعد ذلك قدّم الفروق الجوهرية بينهما.
        فقد رأى "كانط" أنه توجد فروق أساسية بين الجميل والجليل. فالجميل فى الطبيعة يتعلق بشكل الموضوع The Form Of The Object الذى يحدّده، بينما نجد الجليل كامنًا فى موضوع يخلو من الشكل بمقدار ما يمثل اللا محدد فيه، أو بواسطته وتنضاف إليه فكرة شمولية كليّة. وتبعًا لذلك يبدو الجميل باعتباره تمثيًلا لتصوّر غير محدد للفهم الصورى، والجليل كتمثيل لتصور غير محدد للعقل Reason. وهكذا فإن الرضا الخاص بالحالة الأولى (الجميل) مرتبط بامتثال الكيف Quality، بينما فى الحالة الثانية (الجليل) فإن الرضا يكون مرتبطًا بالكم Quantity. على ذلك فإن الرضا الأول يختلف اختلافًا بيّنًا عن الثانى فى النوع. فالجميل يجتذب شعورًا بتفتح الحياة، وهو هكذا قابل للتوحّد بالجاذبية والخيال اللعوب Playful Imaginution. ومن جهة أخرى فإن الشعور بالجليل بمثابة لذّة تنبثق بشكل غير مباشر، وتنتج عن شعور حيــوى قوى متلوّة مباشرة بانطلاق أكبر لهذه القوى، ولذا فإنه _ أى الجليل _ كانفعـال يبدو أنه ليس لعبًا بل هو بمثابة فعل جاد يقوم به التخيّل… ولما كان العقل غير منجذب للموضوع، بل إنه يرفضه، فإن الرضا الناتج عن الجليل لا يشتمل على لذّة إيجابية Positive Pleasure بقدر ما يشتمل على الإعجـاب والاحترام، بمعنى أنه يمكن أن يقال عنه أنه لذّة سلبية Anegative Pleasure.(106)
        الجمال يتعلق بشكل الموضوع، ويفترض أن هذا الموضوع محدد، بينما الجلال لا يتوافر إلا فى موضوعات عديمة الشكل، وغير محددة. فالجميل تمثيل غير محدد للفهم الصورى، بينما الجليل تمثيل غير محدد للعقـل، واللذّة التى تنجم عن الجميل لذّة إيجابية، بينما اللذة الناجمة عن الجليل يمكن أن تسمى لذّة سلبية.
        "وهناك فارق أكثر أهمية بين الجليل والجميل، ألا وهو أن الجمال الطبيعى ينطوى على غائية صورية، تجعل الموضوع منذ البداية ميسّر لملكة الحكم الموجودة لدينا، فتحيله بالتالى إلى موضوع متعة جمالية فى ذاته، فى حين أن ما يولّد لدينا الإحساس بالجلال قد يكون بمقتضى صورته سببًا فى قيام تعارض بين ملكة الحكم عندنا، وما لدينا من مقدرة على التصور، وبالتالى فإنه قد يكون مصدر عسف أو إكراه بالنسبة إلى مخيلتنا"(107)
        وإذا كان "كانط" قد تابع ما كان سائدًا فى القرن الثامن عشر عند جمعه بين مقولتى الجميل والجليل معًا، واعتبرهما كمركب فى ارتباطه بالشكل الجمال للطبيعة، وحدد الصلة الجوهرية بين أحكام الجمال وأحكام الجلال على أساس أن "الجميل والجليل معًا يشكلان منبعًا للذّة، وفى كلتا الحالتين فإن هذه اللذّة ليست محض مادة للإحساس، ولا تعتمد على تصور معيـن، كتلك اللذّة التى ندركها فيما يشكل خيرًا أخلاقيًا، أو فيما هو مفيد، بل وفقًا لقابلية الموضوع الجميل أو الجليل لأنه يحوز إعجابنا، ويربط بين خيالنا وعقلنا(108)، فإنه _ أى كانط _ رغم ربطه بين الجميل والجليل، إلا أنه حد عدة فوارق بينهما.
        "فأوًلا، يرتبط الجميل فى صورة ما؛ يجب أن تكمن فى نوع من التحديد، بينما يرتبط الجليل بفكرة لموضوع غير محدد Unlimited أو بـ "لا حدود Boundless، وبـ لا شكل Formless، أو "لا صورة".
ثانيًا: يقترن الجميل بالشعور بعزة وسمو، وقد يكون موضوع فتنة وبهجة لنا، بينمـا لا يوجد فى الجليل ما يفتننا، ومع أنه قد يكون سارًا، إلا أن اللذّة التى نحصلها فى هذه الحالة تكون غير مباشرة، وتنبع من تواتر التنافر والجاذبية، كما أن الخيال قد يكون محدودًا.
ثالثًا: إن الجليل فى الطبيعة يبدو من حيث المظهر بعيدًا عن الموضوعات الجمالية. وكأنه بلا غائية، ويحدّ من قوانا التخيلية والعقلية. فى حين أن الجميل يطلق قوانا التخيلية والذهنية.
رابعًا: وأخيرًا. يرتبط الجمال الطبيعى بأفكار القانون (وهذا القانون هو القانون الغائى وليس القانون الطبيعى) بينما ليس للجليل مثل هذا الارتباط. كما تعدّ مقولة "الجليل" من الناحية الفلسفية أقل أهمية من مقولة الجميل لأنها لا تقدم أى إشارة إلى أى غائية فى الطبيعة"(109)
        وإذا كان الجميل يسرّ بمجرد الحكم عليه وبمعزل عن أى منفعة، فإن الجليـل هو ما يسرّ مباشرة مع تعارضه مع اهتمامات الحسً. و"تستند قصدية الجميل إلى الانسجام بين المخيّلة والفهم فى إدراك صورة الشئ. أما أثر الجليل فيقوم على الحدّ من دور المخيّلة _ المتعارض مع العقل _ وبعث شعور بعظمة الذات الكامنة خلف الظواهر، وسموّها على قوة الطبيعة وحجمها. الجمال يولد شعورًا بالطمأنينة والانسجام، قائم فى شكل الموضوع، فـى التكيف القصدى للموضوع حسب الذات. أما الجليل فهو يقوم فى انفصال الشكل عن المضمون".(110)
        وإذا كان الجليل لا شكل له، أو بلا حدود، فإن اللذّة الناتجة عنه نتيجة علاقة الذات بالموضوع، أما بالنسبة للجميل فيكون التأمل منصبًّا على الشكل، الذى يجب أن يكون محددًا.
        وإذا كان "كانط" قد قدم تفرقته بين الجميل والجليل، فإن هذا لم يكن إلا مقدمة للتعريف المباشر للجليل. إذ رأى أن "الجليل هو الاسم الذى يطلق على ما هو عظيم بشكل مطلق Sublime Is The Name gives To What Absolutely Great. ولكن أن يكون عظيمًا وأن يكون مقدارًا، هذان تصوّران مختلفان. وبنفس الطريقة، فإن تقريرنا بأن شيئًا ما عظيم، يختلف عن شئ آخر نقول عنه أنه عظيم بشكل مطلق. فالأخير هو ما يتجاوز كل مقارنة مع ما هو عظيم. فما معنى القول بأن شيئًا ما عظيم أو صغير، أو متوسط الحجم! إن هذا لا يشير إلى تصوّر خالص فى الفهم، وليس حدسًا للحواس، وهو ليس تصوّرا للعقل. لأن هذا القول لا يتضمن أى مبدأ للمعرفة. فلابد أنه تصور لملكة الحكم أو مستمد منها، ولابد أن يدخل كأساس للحكم كغائية ذاتية للامتثال على صلة بملكة الحكم".(111)
        ورأى "كانط" أيضًا أن "الجليل هو الذى يكون كل شئ إذا قورن به صغيرًا"(112)
        والذى يكون "مجرد إمكان تعقله كاشفًا عن وجود ملكة للذهن تتجاوز كل مقياس للحواس".(113)
        "والجليل لا يوجد فى أى شئ فى الطبيعة، بل يوجد دائمًا فى ذهننا بالقدر الذى نكون فيه واعين بأننا أسمى من الطبيعة. وكل ما يثير فينا هذا الشعور، مثل قوة الطبيعة مما يستثير قوانا هو جليل"(114)
        وهذا هو ما يفسر بعث فكرة الجلال من موضوعات لا شكل لها، ولا تتضمن القصد الجلى، فنحن نستطيع وصف أشياء كثيرة بالجمال، بينما نخطئ إذا مـا وصفنا أى شئ فى الطبيعة بأنه جميل. وهذا ينطوى على أن فكرة الجلال قائمة فى العقل، "ولا يستطيع أى شكل حسّى أن يتضمن الجلال بالمعنى الحقيقى للكلمة".(115)
        الجليل لا يتضمن لذّة إيجابية، بل يمكن القول بأنها لذة سالبة، ونستطيع _ كما يرى "آكسين S. Axinm" أن نضرب مثًلا بقصيدة "تنسون": "ومضة قنظرة الضوء The Charge Of The Light Bridge، فهناك اللحظة التى يكون فيها القارئ شاعرًا فيها باللذّة فى إجلال الجنود، ويودّ لو أن الاحترام العسكرى المطلق يستمر بسبب اللذّة فى تأمله. وفى نفس الوقت يشعر بأنها غير إنسانية، وغير عقلية أن يحصل على هذا التبجيل، وأن تلك الحالة العقلية لا تسمح بأن تعتبر. فاللحظة التى يشعر فيها الإنسان بكل من اللذة ولاحترام، ولا عقلانية الحالة، هى اللحظة الجمالية(116)
        إذا كان العقل فى تأمله للجميل ينساب فى تأمل هادئ مريح، وتشعر الذات باللذّة، فإنه "فى حضور الموضوع الذى يبعث شعور الجلال، يخلع العقل ذلك الهدوء، ويندفع فى اتجاه حركة محدّدة. الجليل يسرّنا فعًلا، وذلك يعنى أن فى تلك الحركة العقلية نوعًا من القصدية الذاتية. ويمكن أن تردّ هذه القصديـة، وعبر المخيلة إما إلى العقل النظرى أو إلى العقل العملى. فى الحالة الأولى هو جلال رياضى (يتعلق بالجسم) وفى الثانية هو جلال ديناميكى يتعلق بالقوة."(117)
        ولقد كان تحليل "كانط" للجليل غير مرض للكلاسيكيين، ولا للرومانتيكييـن الأوائل. فلم يرض الكلاسيكيون لأن كانط أعطى الجليل أهمية كبيـرة. ولم يرض الرومانتيكيين لأن "كانط" فصل الجليل وجعله خارج حدود الجميل. ولقد دافع "هيردر" عن وحدة الجليل والجميل، وانتقد نظريات كانط.(118)
        لقد رأى "بيرك" أن انفعالات حب البقاء تتمحور حول الألم والخوف، فهى مؤلمة حين تصيبنا أسبابها مباشرة، وهى ممتعة حين تتملكنا فكرة الألم والخوف من دون أن نكون فعليا فى مثل هذا الحال.. وكل ما يستثير هذا السرور يسميه "بيرك" جليًلا. إن انفعالات حبّ البقاء هى الأقوى بين جميع انفعالات الإنسان وميوله.. والجليل لدى "بيرك" هو ما يبعث الدهشة، دهشة غامرة، ملتمعة، ومتألقة، وهى الدهشة التى تنتابنا فى مواجهة ما هو عظيم وجليل فى الطبيعة _ الدهشة هى تأثير الجليل فى أعلى درجاته. وإذ ينسب "بيرك" الجميل والجليل إلى أصول غريزية، فيربطها بالغرائز الجنسية والاجتماعيـة، ويشترك مع "دارون" فى تقدير الدور التشكيلى والزخرفى الذى يلعبه الجمال فى حياة الحيوان، كذلك يربط الجليل بغريزة حب البقاء.(119)
        ولكن "كانط" يختلف كثيرًا مع "بيرك"، فقد حال بين الجليل والغريزة، والحسّ، ورأى أن الخوف الحقيقى سوف يجعل الحكم على الجليل غير ممكن، ورفض أن تكون غريزة البقاء أو أى غريزة هى أساس الحكم على الجليل. "فالشعور بالجلال يجب أن ينشأ عن إدراك عجز الحسّ أمام ضخامة الطبيعة وهولها"(120) .والجليل "الكانطى" هو ذلك الذى نتصوره بفعل ملكة ذهنية خاصة تتجاوز كل مقياس يمكن أن تقدّمه الحواس.
        والشعور بالجليل، هو شعور بالضيق (الكدر) Displeasure ناجم عن عدم كفاية الخيال فى التقدير الجمالى للعظمة، للحصول على تقدير بواسطة العقل. وفى نفس الوقت توجد فى هذا لذة تنبثق من الاتفاق بين الأفكار العقلية وبين الحكم على عدم كفاية أقوى ملكة حسّية، بالقدر الذى يكون فيه السعى إلى هذه الأفكار قانونًا بالنسبة إلينا.(121)
        وهكذا يكون التباين واضحًا بين آراء  "ادموندبيرك" وبين آراء "كانط" حول الجليل.
        لقد كان "كانط" إذ وضع الجليل كمقولة استاطيقية أساسية، إنما يؤكد مع "بيرك" وغيره _ مهما كانت الخلافات بينهم _ أن الجمال، كما ألفناه واعتدناه، بوصفه مقولة للقيم إنما يعد ذا نطاق ضيق. فلم يعد الحكم الجمالى، أو القول بالقيمة الاستاطيقية، يتركز فقط على ما هو جميل _ بالمعنى المألوف، والسابق على القرن الثامن عشر بل اتّسع نطاق القيمة الاستاطيقية لكى يصبح مستوعبًا فى إطاره كل ما هو جليل، والذى مهد فيما بعد إلى استيعاب القبح ضمن القيمة الاستاطيقية.
الأحكام الجمالية الخالصة
استباط الحكم الجمالى
        بعد أن قام "كانط" بتحليل الجميل، والجليل، ووضع الأسس التى ننعت بها شيئًا ما بهذه الصفة أو تلك، شرع _ "كانط" _ فى محاولة  تفسير حكم الذوق وإمكانية إقامته على أساس من الضرورة والكلية.
        فإذا كان حكم الذوق لا يقوم على أساس أى تصوّر لشئ ما، وأنه ليس مثل الحكم المعرفى أو الحكم النظرى Theortical Judgment اللذين يقومـان على تصور للطبيعة بصفة عامة تتعلق بالفهم الصورى، كما أنه ليس مثل الحكم العملى الخالص Pure Practical Judgment الذى يقوم على أساس من فكرة الحرية بوصفها فكرة قبلية للعقل. بل هو _ أى حكم الذوق _ يقوم على أساس من الكليّة تتعلق بحكم شخصى.(122)
        وقد رأى "كانط" أن حكم الذوق الخالص ينصّب على الجميل وحده، ولا يمكن أن ينصّب على الجليل. وهذا الحكم له قيمة كلية، وهى "كلية لا تقوم على أساس من تجميع لآراء الآخرين، وخبراتهم، بل تقوم على أساس استقلال الذات وهى تحكم على الشعور باللذة، وذلك اعتمادًا على ذوقها الخاص، وأيضًا دون أن تكون مشتقة من تصوّرات. ويتبع ذلك أن مثل هذا الحكم _ أى تصور حكم الذوق حقيقة _ يتصف بخاصيتين.
الأولى: هى الكلية القبلية، لا الكلية المنطقية التى تأتى وفقًا للتصوّرات، بل هى فحسب كلية الحكم الفردى Singular Judgment.
الثانية: هى الضرورة (والتى يجب أن تنهض على أساس من المبادئ القبلية) والتى لا تقوم على براهين قبليه A Priori Prots."(123)
        وإذا تساءلنا:
        كيف يكون حكم الذوق كليًا وضروريًا؟ وهو فى نفس الوقت يقوم على أساس شعور الذات باللذّة أو الكدر؟.
        يرد "كانط" _ محددًا خواص حكم الذوق _ "بأنه أولا يحدد موضوعـه بالنسبة للرضا (كشئ جميل) بادّعاء موافقة كل إنسان، كما لو كان الحكم موضوعيًا".(124) فقولى بأن "هذه الزهرة جميلة، يعنى أنها تسّر جميع الناس .. بمعنى أن جمالها خاصية فى الزهرة نفسها".(125) ويرى "كانط" أن هذا أيضًا يفسّر تصميم الشاعر الناشئ بأن قصيدته جميلة رغم حكم الجمهور عليها بأنها ليست كذلك .. وقد يجد أسبابًا لمسايرة الجمهور فى ادّعائه .. وربما يحدث حين يصقل ذوقه أن يغير رأيه. ذلك أن الذوق يؤكد على الاستقلال فى الحكم. وإذا أقام إنسان ما أحكامه على أساس مبادئ الآخرين، فإنه بذلك يكون قد فقد استقلاله.(126)
ثانيًا: أن البراهين لا تحدد حكم الذوق(127). فعندما أرى بناءً جميًلا، أو أستمع إلى قصيدة رائعة. فإننى لا أعير اهتمامًا لآراء الناس. هذا يعنى أن موافقة الآخرين أو مخالفتهم لا تشكل برهانًا بالنسبة لى على أن هذا الشئ جميل، أو غيـر ذلك. "فحكم الذوق  يفترق عن الحكم المنطقى فـى حقيقة أن الأخير يقوم على أساس افتراض تصوّر الموضوع، بينما لا يقوم حكم الذوق على أساس افتراض أى تصور بالمرّة، وكليّته وضرورته لا تنهض على براهين"(128)
        وأحكام الذوق أيضًا _ هى "أحكام تركيبية Sythetic لأنها تتجاوز التصور، وحدس الموضوع، وتضيف محموًلا لذلك الحدس لا يقع فى نطاق المعرفة، بل هو الشعور باللذّة والكدر Displeasure"(129)
        وهكذا نجد "كانط" _ وفقًا لنظريته العقلية الخالصة يحدد خواص حكم الذوق، مؤكدًا على كليّته وضرورية وانفصاله عن كل تصوّر، أو برهان، مفرقًا بينه، وبين غيره من الأحكام المنطقية أو العملية.
جدول الحكم الجمالى
        إذا كان لكل من العقل النظرى والعقل العملى متناقضاته التى تستلزم الحلّ، فإن للحكم الجمالى أيضًا جدله (أوديا لكتيكه) الخاص، كما أن له بالتالى تناقضه الظاهرى الذى لابد من الاهتداء إلى حلّ له(130)
        فى دراسته لتناقض الذوق The Antinomy Of Taste رأى "كانط" أنـه يوجد قولان، وفى الأول: رأى أنه من الشائع عن الذوق أن الذين حرموا منه يفكرون فى حماية أنفسهم من هذا العيب، بالقول: إن لكل إنسان ذوقه الخاص Every One Has Own Taste، وهذا هو السبيل للقول بأن الأساس المحدّد لهذا الحكم هو الذات فقط (المسرّة، والألم) وأن هذا الحكم ليس له الحق فى ضرورة موافقة الآخرين. The Necessary Agreement Of Others.(131)
        إن الأشخاص ذوو الذوق غير المدرب _ أو المحرومين من الذوق _ قد دأبوا على تبرير موقفهم هذا بإحالة القضية إلى قضية ذاتية خالصة، ذلك أن حكم الذوق بالنسبة لهم يتوقف على الذات فحسب، وبالتالى فإن كليته وعموميته _ أى موافقة الآخرين ليست ضرورية بالنسبة له.
        ولكن للقول السابق قولا مناقضًا هو أنه "لا نقاش فى الذوق" There Is No Disputing About Taste، وهذا _ فى رأى "كانط" _ يعنى القول بأن الأساس المحدد لحكم الذوق أساس موضوعى Objective، ولا يمكن ارجاعه إلـى تصوّرات محدّدة، وبناءً على ذلك فإنه ليس فى وسعنا الوصول إلى قرار بشأنه بواسطة البراهين By Proofs، مع أن المجال مفتوح للجدل حول الموضوع. والجدال والتنازع يشتركان فى أنهما يهدفان إلى الوصول إلى اتّفاق الأحكام، ولكنهما يختلفان فى أنه فى حالة التنازع يكون الهدف هو محاولة التأثير عن طريق تصوّرات محدّدة بوصفها الأسس التى تقوم عليها البراهين، وتبعًا لذلك يتقرر بأن التصوّرات الموضوعية هى أساس الحكم(132)..
        حكم الذوق إذن ليس حكمًا ذاتيًا صرفًا - القول الثانى - وذلك لأن الإقرار بأن كل فرد من حقه الدفاع عن أحكامه الذوقية الخاصة، ومناقشة آراء الآخرين، فإن هذا يعنى التسليم بإمكان الجدل حول حكم الذوق، وهذا هو مـا يدل على أنه - أى حكم الذوق - ليس حكمًا ذاتيًا صرفًا، وإن كان الحسْم لا يأتى من خلال تصوّرات، أو اللجوء إلى البراهين العقلية.
        ولكن إذا كان الجدل مسموحًا به، فإنه يجب أن يكون هناك أمل فى التفاهـم، ولذا يجب أن يكون فى الإمكان النهوض على أساس الحكم الذى هو أكثر من مجرّد قانون خاص، أو فى حالة ذاتية، فإن المبدأ السابق (لكل إنسان ذوقه الخالص) يعارض هذا مباشرة. وبناء على ذلك فإن مبدأ الذوق يظهر فيه هذا التناقض.(133)
1- الفكرة Thesis: حكم الذوق لا يقوم على تصوّرات لأنه لو كان غير ذلك، فإن هذا يفتح النقاش بصدده (والفصل بواسطة البراهين).
2- نقيض الفكرة Antithesis. حكم الذوق يقوم على تصوّرات، لأنه لولا ذلك لما أمكن مناقشة هذا الأمر، ولما كان هناك مجال للجدل فى الموضوع (ادّعاء ضرورة موافقة الآخرين بهذا الحكم)(134)
        لا يمكن إقامة برهان على حكم الذوق لأنه لا يقوم على أساس التصـوّر، بل هو حكم ذاتى. ولكن هذا الرأى يناقضه رأى آخر، أنه لو لم يقم حكم الذوق على تصوّرات، لما أمكن قيام الجدل حوله، ولما كان هناك مجال حول ادّعاء موافقة الآخرين. هذا التناقض لا يمكن إزالته أو رفعه إلا إذا "بينّا أن "التصوّر" لم يؤخذ بمعنى واحد فى قاعدتى الحكم الجمالى _ القضية ونقيضها _ ذلك أن هذا المعنى المزدوج، أو وجهتى النظر فى التقدير، ضرورية لقدرتنا على الحكم الترانسندنتالى Transcendental Judgment، ومع ذلك فإن الظهور الزائف ينبثق من الخلط (التشوش) بين القضية والأخرى، وهذا وهم طبيعى، ولا مفر منه".(135)
        إن المعضلة الأساسية هى فى معنى "التصوّر" الذى يختلف معناه من قضية إلى أخرى، وكذلك فى الخلط بين القضيتين.
        إن التصور الذى يجب أن يشير إليه حكم الذوق _ حسب "كانط" _ يمكن أن يكون قابًلا للتحديد Determinable، أو غير محدد فى ذاته، وغير قابـل للتحديد. إنه تصور الفهم الذى يمكن تحديد بواسطة محمولات معارة من الحدس الحسّى، والمناظرة له. هو من النوع الأول. ولكن فى النوع الثانى ينتسب التصوّر العقلى الترنسندنتالى المجاوز للحسّ Supersensible والذى يوجد فى أساس هذا الحدس، والذى لا يمكن علاوة على ذلك أن يتحدّد نظريًا Theoretically.(136)
        وهكذا تبدو القضية صحيحة ونقيضها أيضًا صحيحًا. ويمكن إزالة التناقض بينهما إذا فهمنا حكم الذوق فهمًا صحيحًا باعتباره حكم تأمل.. أما إذا جعلنا مبدأ الذوق _ كما فعل البعض _ هو "الملائم" أو الكمال فسيكون من المستحيل رفع مثل هذا التناقض"(137)
        وبناءً على ذلك فإننا نتجه نحو التصور العقلى الترنسندنتالى المجاوز للحسّ حتى نستطيع أن نصل إلى التوافق الحقيقى.
        ويخلص "كانط" إلى أن: الجميل يسّر مباشرة، وبمعزل عن أى اهتمام، وأن حرية التخيل فى تقدير الجميل تتحدد كانسجام مع الفهم الصورى، وأن المبدأ الذاتى The Subjective Principle لتقدير الجميل. يتحدّد ككلية Represented as Universal.(138)
        لقد كان الحكم الجمالى لدى "كانط" هو نقطة التقاء عالم الطبيعة بعالم الحريّة: لأن الموضوعات التى تثير هذا الحكم مستمدّة من عالم الطبيعة أو مرتبطة به ارتباطًا أساسيًا. ولكننا نضفى على هذه الموضوعات، بما لدينا من فاعلية حرّة، صورة وشكًلا ملائمًا، وننسب إليها فى حكمنا الجمالى غرضية وغائية ترضى أذواقنا. وبهذا يجمع الحكم الجمالى بين عالمى الطبيعة والحرية، مثلما يجمع بين المحسوس والمعقول.(139)
        وهكذا استطاع "كانط" أن يملأ الفجوة بين النقد الأول: نقد العقل الخالص Critique Of Pure Reason، والنقد الثانى: نقد العقل العملى Critique Of Practical Reason، بالنقد الثالث: نقد الحكم Critique Of Judgment.
الفـن والإبداع الحرّ
        بعد أن أقام "كانط" حكم الذوق، محددًا الفرق بينه وبين حكم المعرفة، والحكـم العملى، وجعله ينصب على ما هو جميل فقط، قام كانط بدراسة الفن. وقد بدأت دراسة بتمييز الفن عن كل من الطبيعة والعلم، والحرفة أو الصناعة، محددًا الأسس التى يقوم عليها الفن الحر. Free Art.
        يقول "كانط": "يتميز الفن من الطبيعة كما يتميّز العمل من الفعل، وناتج الفن من حيث هو عمل (Opus) Work يتميز من ناتج الطبيعة من حيث هو فاعلية (effectus) Operation. والفن هو ناتج الحرية عبر فعل الإرادة التى تضع العقل أساسًا لأفعالها.(140)
        الفن ثمرة من ثمار الحرية، لا يمكن أن يصدر إلا عن إرادة حرة، أى إرادة تبنى أفعالها على العقل. أى أن الإنسان هو وحده الذى يمكن أن يمارس الفن لأنه هو الكائن الوحيد الذى يتمتع بالعقل.
        ولكن إذا رأى البعض أن فى أعمال الطبيعة فعًلا فنيًا، كأن يقول البعض بأن "خلايا النحل أعمال فنية، فإن هذا القول لن يخرج عن كونه مجرد تشبيه، لأنه ما دام إنتاج هذه الخلايا لم يأت نتيجة لتأمل خاص، بل جاء نتيجـة لغريزة مفطورة فى الفعل اللهم إلا إذا نسبناه فى هذه الحالة إلى الخالق نفسه. ومن هنا فإن لفظ (العمل الفنى) لا يمكن أن يصدق على الإنتاج الطبيعى أو الآثار الطبيعية، مهما كان جمالها ودقة صنعها بل هو يصدق فقط على المنتجات البشرية التى صدرت عن تأمل ذهنى أو عن إدراك سابق لغاية محددة أريد تحقيقها".(141)
        الفن لابد أن يصدر عن تأمل، وفعل بشرى يقوم على الإرادة الحرة، ولذلـك لا يمكن أن يكون إبداع الفن صفة من صفات الحيوانات الأخرى، لأن الإنسان هو الكائن الوحيد الناطق، والذى لديه من الملكات ما يؤهله لذلك.
        ويفرق "كانط" أيضًا بين الفن والعلم، فيرى أن "الفن بوصفه مهارة إنسانية Human Skill يتميّز عن العلم Science (كقدرة على المعرفة) كما تتميّز الملكة العملية من الملكة النظرية As Practical Faculty is Distinguished From Theoretical Faculty والتكنيك Technic من النظرية (وفن المساحة Surveying من الهندسة)".(142)
        ولهذا فإن كل ما يقوم به الإنسان بناءً على معرفة سابقة لما يجب عمله، أو تحصيل لمعرفة كافية عن الموضوع، فإن الوصول إلى نتيجة لا يعد (فنًا). ذلك أن الفن يتعلق بمحاولة الإنسان القيام بعمل لا يجد نفسه حاصًلا على كل مهارة للقيام به، حتى ولو كان على معرفة تامة عنه.(143)
        فى الفن يكون الفنان حرًا، لا يبدأ من نقطة محددة، معروفة سلفًا، بل إنه يمارس فعله بشكل أشبه بالتلقائية، والفن ليس نتيجة لتصميم سابق، بل نتيجة لعبقرية وحذق الفنان.
        ثم يقوم "كانط" بالتمييز بين الفن والحرفة فيقول: "يتميز الفن عن الحرفة Handicraft فى أنه حرّ، بينما الحرفة يقال أنها فن صناعى Industrial Art. ونحـن ننظر إلى الفن على أنه لعب فى نهاية المطاف، أى كنشاط متناغم مع نفسه. أما بالنسبة للحرفة فهى عمل غير منسجم، وشاق Drudgery، وجذابة فقط بنتائجها الأخيرة، أى الأجرة، ولذا فإنه يمكن فرضها قسْرًا"(144)
        الحرية إذن هى أساس الفن، والفن بمثابة لعب حر، ونشاط نجد فيه لذة ومتعة، ليست مرتبطة بشكل مباشر بالمصلحة أو المنفعة. أما الحرفة فهى نشاط يقوم به الإنسان وفق نموذج معد سلفًا، ويعد حمًلا شاقًا أو مرهقًا، وليست لديه أية جاذبية، ولا يحوز أى رضا، اللهمّ إلا إذا كان نتيجة لما يحصله الإنسان من أجر على عمله، ولذا فإنه عمل قسرى. والفنان حرّ، والعامل مأجور.
        ولكن هل معنى ذلك أنه يوجد حدّ فاصل بين الفن والحرفة أو بين الفن والعلم؟
        يجيب "كانط" بأن مثل هذا الفاصل غير موجود عمليًا، ذلك أنه من "بين الفنون السبعة الحرة Seven Free Arts. بعضها يمكن أن يصنف كعلوم والبعض الآخر يشبه الحرفة".(145)
        وبالإضافة إلى التداخل بين الفن الحر، وبين الحرفة والعلوم، فإن الفن مع كونه حرًا، فى حاجة إلى الضبط أو التنظيم حتى لا يكون بلا قوام، ومصيره الزوال. ويضرب _ "كانط"(146) مثَلا بالشعر الذى يجب أن تكون لغته صحيحة وسليمة، وكذلك أوزانه وعروضه. وهو هنا يعارض دعاة المدارس الجديدة فى اعتقادهم بأن أفضل طريق لإنجاز فن حر هو التحرر من كل القيود، وتحويله من عمل شاق إلى لعب خالص. وفى نفس الوقت يرى أن الروح الحرّة فى العمل الفنى هى التى تسبغ عليه الحيوية والفاعلية.
        وفى إطار دراسته للفنون الجميلة يقول "كانط" "بأنه لا وجود لعلم للجميل، بل نقد له. There is No Science Of Beautiful But Only a Critique".(147) كما أنه لا توجد علوم جميلة، بل فنون جميلة. فلو كان فى الإمكان قيام علم للجميل، لكان فى وسعنا أن نحدده بطريقة علمية، أى باللجوء إلى بعض البراهين والحجج.(148)
        إن القول بعلم للجمال (أو للجميل) يدعونا إلى القول بأن الحكم الجمالى حكم علمى، وهذا بدوره يتعارض مع القول بحكم الذوق. إن الذى يمكن إقامته هو (نقد الجميل)، وكذلك القول بالفنون الجميلة _ لا العلوم الجميلة. لأن العلم الذى يجب أن يكون جميًلا بما هو علم، لا معنى له. كما أن الفن لو اقتصر على تنفيذ بعض الأعمال الضرورية ووفقًا لوجهة نظر مسبقة، فإنه يكون فنًا ميكانيكيًا. لكن إذا كانت غايته هى اللذة المباشرة فإنه حينئذ يكون فنًا جماليًا Aesthetic Art.(149)
        وينقسم (الفن الجمالى) أو الاستطيقى إلى نوعين من الفنون: فنون ملائمة، وفنون جميلة. والأولى منها تربط  اللذّة أو المتعة الجمالية بالتمثلات من حيث هى مجرد إحساسات، فى حين أن الثانية تربط اللذّة أو المتعة الجماليـة بالتمثلات من حيث هى ضروب من المعرفة. ومعنى هذا أن الفنون الملائمة إنما ترمى إلى المتعة أو التسلية أو اللهو كما هو الحال بالنسبة إلى فن الحديث وفن إشاعة البهجة فى النفوس، وفن رواية النكتة، وفن استثارة اهتمام المجتمع، وشتى فنون التسلية وتمضية الوقت.. أما الفنون الجميلة - فإنها - على العكس - فنون جدية تتّسم بطابع غائى (وإن لم تكن لها غاية محددة)، وتسهم إلى حد كبير فى تثقيف الذهن، وتربية ملكات النفس، فضًلا عن أنها تزيد من درجة حساسيتنا الاجتماعية، وتقوى روحنا الجماعية.(150)
        وقد رأى "كانط" أنه "توجد أنواع ثلاثة من الفنون هى فن القول The  Art Of Speach والفنون التشكيلية، وفن التلاعب بالأحاسيس The Play Of Sensation"(151) وقد استند فى تقسيمه هذا على أسلوب التعبير فى كل فن. وقد رأى أن فنـون القول يندرج تحتها البلاغة، والشعر. أما الفنون التشكيلية فهـى تعبر عن فن الحقيقة المحسوسة أو الظاهر المحسوس، وذلك فى النحت والتصوير. أما فن اللعب بالأحاسيس، فيندرج تحته فن اللعب بالإحساسات السمعية (الموسيقى)، وفن اللعب بالاحساسات البصرية (فن الألوان).(152)
        وإذا كان الفن يختلف عن العلم، فإن إنتاج الفن يحتاج إلى العبقرية Genius والتى يرى "كانط" أنها "الموهبة Talent التى تعطى الفن القواعد اللازمة لإنتاجه وهى ملكة فطرية مبدعة فى الفنان ذات صلة وثيقة بالطبيعة"(153) .
        وقد أوضح "كانط"(154) بأن العبقرية:
1- هى الموهبة التى تنتج ما ليس له قاعدة محدّدة No Definite Rule. وتبعًا لذلك، فإن الأصالة Originality يجب أن تكون خاصيتها الأساسية.
2- أن العبقرية فى إبداعها لا تقوم على المحاكاة، بل هى تعتبر كمقياس للحكم لدى الآخرين.
3- لا يمكن أن يصف الفنان (العبقرى) بشكل علمى كيفية تحقيق إبداعه. بل هو نفسه لا يدرك كيف فعل ذلك.
4- الطبيعة تفرض قاعدة بواسطة العبقرية، لا على العلم، بل على الفن، وهذا يتعلق فقط بالفنون الجميلة.
        وإذا كان "كانط" يرى استحالة أن يقوم العبقرى بتفسير أو شرح طريقة إنتاجه بطريقة علمية، فإنه بذلك يجعل العمل الإبداعى نتاجًا (لا عقلانيًا).
        ولقد كانت آراء "كانط" هذه عرضة للنقد، فرأى البعض أن "تفسير الإبداع كعمل لا منطقى هو نقطة الضعف فى آراء "كانط" الجمالية، وقد استخدم الرومانتيكيون هذا الجانب من نظريته فيما بعد مسبغين عليه فكرة صوفية بحتة. لم يكن "كانط" نفسه قد وصل (نهائيًا) إلى أن عملية الإبداع لا عقلانيـة تمامًا ولا شعورية. إنه يطلب من الفنان أن يكون ذا ذوق، وأن يتقيد ببعـض القواعد. لقد كان "كانط" يطرح مسألة ضيق الأفق العقلانى فى تفسير الصورة الفنية. ولم يكن أبدًا يميل إلى فهم الفكرة الجمالية بتلك الروح الصوفية التى ظهرت بها عند "شيلنج" و"شليجيل".(155)
        وإذا كان "كانط" قد جعل حكم الذوق حكمًا ينفصل عن كل مصلحة أو فائدة، وأن الأعمال الفنية أو الموضوعات الجمالية هى موضوعات نشعر معها بلذّة دون حاجة إلى تصوّر عقلى أو حاجة إلى ردّها إلى منفعة عملية. وهـذا يعنى أن حكم الذوق لا ينطوى على أى باعث نفعى. وهكذا يبدو "كانط" من وجهة نظر بعض ناقديه وقد "قلّص مجال استخدام مقولاته فى انعدام المنفعة فى حكمنا الجمالى، وأكثر من ذلك، لقد ضيّق إلى أقصى الحدود وانسجامًا مع تصوّراته الكلاسيكية مقولة الجميل حقًا (الجمال الخالص) فى الفن.(156)
        وإذا كان "كانط" قد فصل بين الحكم الجمالى والحكم الأخلاقى وجعل الجميل منفصًلا عن كل فعل نفعى أو أخلاقى، كما فصل الفن الحر عن العلم والحرفة _ وإن كان قد قال أيضًا بإمكانية التداخل بين الفنون الجميلة والعلوم والحرف _ فى الفنون السبعة. فإنه أيضًا _ رغم فصله الجمال عن الأخلاق، وجعله الجميل غائية دون غاية _ إلا أنه عاد ليقول فى نقد الحكم بأن "الجميل رمز الخير الأخلاقى The Beautiful is The Symbol Of The Moraly good"(157) كما قدم مقارنة بين الجميل والخير موضحًا التشابه، والاختلاف بينهما فرأى أن:
1- الجميل يسّر مباشرة (وذلك فى الحدس التأمّلى، وليس فى التصوّر، كما فى الأخلاق.
2- الجميل يسر بمعزل عن كل منفعة (اللذّة فى الخير الأخلاقى، هى بلا شك، وبالضرورة، مرتبطة بالاهتمام.)
3- حرية التخيل (وتبعًا لذلك حرية حساسية ملكاتنا) تمثل فى  الحكم على الجميل بوصفه منسجمًا مع مشروعية الفهم (فى الحكم الأخلاقى، حرية الإرادة، يكون التفكير فيها بوصفها انسجام Harmony هذه الملكة مع ذاتها وفق القوانين الكلية للعقل Universal Laws Of Reason)
4- المبدأ الذاتى The Subjctive Preinciple لتقدير الجميل يمثل كليّة، أى صادق لكل إنسان، دون أن يكون قابًلا للمعرفة بواسطة تصوّر كلى Universal Concept (المبدأ الموضوعى Objective للأخلاق، هو أيضًا كلّى، بمعنى أنه مقبول لكل فرد، وفى نفس الوقت، بالنسبة لجميع أفعال نفس الفرد، ويتأسس على قابلية المعرفة Cognizable بواسطة التصـور الكلّى). وقد اعتاد الفهم المشترك Common Understanding أن يراعى هذا التناظر بين الجميل والأخلاقى. وكثيرًا ما نصف الموضوعات الجميلة للطبيعة أو الفن بصفات تقوم على أساس من التقدير الأخلاقى Moral Estimate".(158)
        بل ويطور "كانط" فى "علم الإنسان" الموضوعة الأهم عن الذوق "كملكة تقييم اجتماعى للأشياء الخارجية عن الخيال". ويكمل موضوعة (الغائية دون غاية) بطرحه مسأله الدور الاجتماعى الفعال للفنون كباعث على النشاط .. كما يتصف علم الجمال الكانطى فى الفترة بعد النقدية بضعف الروابـط مع نظامه الفلسفى العام فى العقد الثامن من القرن الثامن عشر، مما كشف فكر الفيلسوف وفتح أمامه إمكانية الانطلاق فى أحكامه الجمالية من مادة ملموسة دونما أفكار مسبقة، وبشكل أكثر حرية ديالكتيكية.(159)
        لقد أعطى "كانط"، مدفوعًا بروح فلسفة التنوير الجمال طابعًا اخلاقيًا، وذلك حين جعل الجمال رمزًا للخير الأخلاقى، وبالتالى فإن جهوده المضنية الـتى بذلها من أجل وضع الحدود الصارمة بين الجمال والأخلاق، قد ضاعت سدى، كما أن الفن نفسه انتهى إلى أن يكون رمزًا بسيطًا للخير.(160)
        ولقد جعل "كانط" الجمال رمزًا للأخلاقية، على أساس أنه وحّد الهدف الذى يؤدى إليه كل منهما - فى نهاية المطاف.
        ولقد تعرّض "كانط" للنقد، فقد رأى البعض أن نقد الحكم - على حد تعبير برنشفيك - لا ينطوى على استاطيقا بمعنى الكلمة، فضًلا عن أنه لا يصلح لأن يكون مجرد تمهيد لاستاطيقا ممكنة. وحجته فى ذلك أن المشكلة التى شغلت "كانط" لم تتجاوز تحديد المكانة التى يشغلها فى النفس الإنسانية تأمل الجمال.(161)
        ولكن رغم هذا النقد فإننا نجد أن "كانط" كان عظيم التأثيرعلى كل من شيلر "هيجل" وشوبنهاور، وغيرهم فى الفكر الحديث والمعاصر. كما أن أفكاره كانت ذات تأثير كبير على آراء "كروتشه" فى الفن، وفصله الفن عن كل واقعة عادية أو معرفية أو أخلاقية أو أى فعل نفعى، ووصفه بأنه حدس.
        وإذا كان "كانط" بدأ حدث ثورة كبرى فى فلسفة الجمال، فإنه بالتزامه الصرامة فى تحليل التصوّرات، وفصل الأحكام المعرفية والعملية عن حكم الذوق، ومحاولته الدءوبة لتمييز حكم الذوق عن غيره من الأحكام، رغم اتصافـه بالضرورة والكلية، وفصله الفن عن العلم والحرفة رغم وجود بعض التداخلات التى يمكن أن تؤدى إلى الخلط بينهم. ولكن هذه الصرامة فى التعبير عن حكم الذوق قد أدت بـ "كانط" إلى إحالته إلى حكم منطقى. وقد أدى ذلك إلى الانتقال _ فى نهاية المطاف _ من مجال نقد الجميل، إلى مجال علم الأخلاق، حين جعل الجميل رمز الخير الأخلاقى، وقارن بين الجميل والخير الأخلاقى محددا بعض التباينات، وفى نفس الوقت موضحًا نقاط الاتفاق. وبذلك نجده قد هدم الحدود الصارمة بين حكم الذوق والحكم الأخلاقى حين أعاد الربط بين الجمال والأخلاق.
        لقد أقام "كانط" فلسفته الجمالية على أساس حل "تناقضات" الذوق، فقد رأى أن حكم الذوق لا يعتمد على تصوّرات، وإلا كان فى الوسع الجدل حولـه، وحل المشكلة بواسطة البراهين - النقيضة الأولى. أما النقيضة الثانيـة فترى أن حكم الذوق يقوم على تصوّرات. وإلا كان الجدل حوله أمـرًا غير ممكن، ومن المستحيل الحصول على موافقة الآخرين. ولكن كيف حل "كانط" التناقض؟
        كما سبق أن ذكرنا نجده يجعل التصور الذى يقوم عليه حكم الذوق يختلف فن التصوّرات التى تقوم عليها الأحكام الأخرى (المنطقية والمعرفية)، أى جعل التصوّر هنا غامضًا، وملتبسًا.
        إن التناقض الأساسى فى هذا الفهم - للتصور - يعيد "كانط" إلى نوع من الالتباس، ويدخل حكم الذوق بدرجة أو بأخرى ضمن الحكم المعرفى، وهو الأمر الذى حاول كثيرًا ألا يقع فيه.
        لقد أدى هذا الغموض إلى إنتاج نظريات متباينة من آراء "كانط" وصلت إلى حدّ التناقض. ولكن يبقى "لكانط" أنه قدم نظرية جمالية _ رغم تناقضاتها _ من الصعب تجاهلها، أو الإفلات من تأثيرها، سواء بالاتفاق معها أو الاختلاف، أو التكامل، أو الأخذ منها فى أحد الجوانب، وطرح الجوانب الأخرى. وهنا تكمن القيمة الحقيقية للاستاطيقا الكانطية.


(1)  Kristeller, p. o: Op. Cit. P. 179.
(2) بـدوى، عبد الرحمن: إمانويل كنت، فلسفة القانون والسياسة _ مصدر سابق _ ص ص 321، 322.
(3) Kristeller. P.O.: Op. Cit. P.179.
(4) Ibid: P.p. 179, 180.
وأيضًا: نوكس، أ.: مصدر سابق _ ص37.
(5) بالاشوف، أ.أ: الجمال فى فلسفة كانط _ مصدر سابق _ ص5.
(6) Kemp, John: The Philosophy of Kant, Oxford University Pres, London, 1968, P.p. 98, 99
(7) نوكس، أ.: مصدر سابق _ ص ص 37 _ 40.
(8) Kemp, J.: Op. Cit. P.p 99 & 100.
(9) Ibid: p. 100.
(10) بالاشوف، أ.أ.: مصدر سابق _ ص5.
(11)  Podro, M.: The Manifold in Perception _ Theories Of Art From Kant to Hildebrand _ Oxfordr University Press, London, 1972, p.11.
(12)  Sirecello, Guy: The New Theory of Beaty  Princenton University Press, 1975, P.P. 79 &  80.
(13)  Kulp, Oswald: Introduction to Philosophy, Psychology, Logic, Ethics, Aesthetics and general Pholosophy, tr. By W.B. uslury, George Alen union, 11th ed.. London 1927, P.P. 83 & 84.
(14)  Roger, M.: Op. Cit. P.p. 81, 82.
(15) بالاشوف، أ.أ: الجمال فى فلسفة كانط _ مصدر سابق _ ص13
(16) Roger, M.: Op. Cit. P. 81.
(17) Ibid: P. 81.
(18) زكريا، فؤاد: آراء نقدية فى مشكلات الفكر والثقافة _ الهيئة المصرية العامة للكتاب _ القاهرة _ 1975 _ ص ص268، 269.
(19) Roger, M.: Op. Cit. P. 82.
(20) زكريا، فؤاد: مصدر سابق _ ص269.
(21) نوكس، أ: مصدر سابق _ ص47.
(22) Roger, M.: Op. Cit. P. 82
(23)  Ibid: P.83.
(24) زكريا، فؤاد: مصدر سابق _ ص269.
(25) نفس المصدر، ص ص269 & 270.
(26) Kemp, J.: Op. Cit. P. 104.
(27) Ibid: P. 107.
(28) Kant, I: Critique of Judgment, Op. Cit. P. 77.
(29)   Ibid: P. 77.
(30)  Ibid: p. 79.
(31)  Ibid: p. 80.
(32)  Ibid: p. 41.
(33) Pordo. M.: Op. Cit. P11.
(34)  ibid: p. 11.
(35) إبراهيم، زكريا: كانت أو الفلسفة النقدية _ مكتبة مصر _ القاهرة _ د. ت _ ص ص233، 234.
(36)  Kant, I.: Op. Cit. P.p. 48 & 49.
(37) هلال، محمد غنيمى: النقد الأدبى الحديث _ دار العودة _ بيروت _ 1986 _ ص300.
(38) نوكس، أ: مصدر سابق _ ص46.
(39) Jones, Peter: Hume’s Aesthtics Ressessed, The Philosophical Quarterly, Vol. 26 _ No. 102 January,, 1975 _ University of ST Andrews, 1975, P 49.
(40) نوكس، أ.: مصدر سابق _ ص ص46،& 47.
(41) Jones, Peter: Op. Cit. P. 51.
(42) نوكس، أ.: مصدر سابق _ ص46.
(43)  Kant, I: Op cit., Pp. 49 & 50.
(44)  Ibid: P.p. 224 & 225.
(45)   Roger, M.: Op Cit, P. 83.
(46)  Quated By: Kemp, J,: Op Cit. P. 104
(47) نوكس، أ.: مصدر سابق - ص47.
(48) Kant, I.: Op. Cit., p. 50.
(49) نوكس، أ: مصدر سابق ص48.
(50) نفس المصدر - ص49.
(51) نفس المصدر - ص51.
(52) Kant, I.: Critique of Judgment, Op. Cit., P.p. 50, 51.
(53) إبراهيم، زكريا: كانت أو الفلسفة النقدية مصدر سابق _ ص235.
(54)  Kant, I: Op. Cit., p. 51.
(55)  بدوى، عبد الرحمن: إمانويل كنت فلسفة القانون والسياسة _ مصدر سابق _ ص336.
(56)  إبراهيم، زكريا: كانت أو الفلسفة النقدية _ مصدر سابق _ ص ص235 & 236.
(57) بالاشوف، أ.أ.: مصدر سابق _ ص ص19 & 20.
(58) إبراهيم، زكريا: كانت أو الفلسفة النقدية _ مصدر سابق - ص 237.
(59)  Roger, M.: Op. Cit. P.p. 83 & 84.
(60)  Ibid: p. 82.
(61)   Kulp, Oswald: op. Cit., p. 82.
(62)  Brown, Clifford: Leibeniz And Aesthethic _ Pholosophy and Phenomenological Rwsearch, Vol XXVII No. I Septemper 1967, University of Buffalo, New York, 1967, P. 73.
(63)   Kulp, o.: op. Cit., p. 82
وأيضًا، نوكس، أ.: مصدر سابق _ ص ص 53، 54.
(64) نوكس، أ: مصدر سابق _ ص56.
(65)  Brown, C.: Op. Cit. P. 79.
(66)  Ibid: p.p.. 73 & 79.
(67)  Kant, I.: Critique of Judgment Op. Cit., p. 61.
(68)  Ibid: P. 65.
(69)  بالاشوف، أ.أ: مصدر سابق _ ص25.
(70)  إبراهيم، زكريا: كانت أن الفلسفة النقدية _ مصدر سابق _ ص238.
(71) Kant, I.: Critique of Judgment, Op. Cit., P.p.63 & 64.
(72)  Ibid: P.p. 64 & 65.
(73) انظر نوكس، أ.: مصدر سابق _ ص ص 58 & 59.
(74)  Kant, I.: Critique of Judgment, Op cit., p. 72.
(75)  Ibid: P.p. 72 & 73.
(76)  Guy, Sircelle: The New Theory of Beauty, Op. Cit., p. 80.
(77)  Roger, S.: Op cit., P. 87.
(78) Kemp, J.: Kant, Op. Cit., p. 105.
(79) نوكس، أ.: مصدر سابق ص ص59، 60. ويلاحظ أن كتاب "لورد كايمز" عناصر النقد ترجم إلى الألمانية سنة 19763 أى قبل صدور نقد الحكم بحوالى سبع وعشرين عامًا.
(80)  Roger, s.: Kant, Op. Cit., p. 87.
(81) بدوى، عبد الرحمن: كنت، فلسفة القانون والسياسة _ مصدر سابق _ ص342.
(82)  Kant, I.: Critique of Judgment. Op. Cit. P. 80.
(83) بدوى، عبد الرحمن: كنت، فلسفة الثانوية والسياسة - مصدر سابق - ص345.
(84)  Axinn, S.: And Yet, A Kantian Aes thetics, Philosophy and phenomenological Research, Vol. XXIV Sep. 1963 _ June 1964 _ University of B Uffolo, Buffals, N.Y, 1964 _ P. 115.
(85) Lalo, Charles: Notions d’Esththique, pp. 56 - 58 & Brehier, E.: Histoire de Philosophie, II. P.P. 558 - 546.
عن: هلال، محمد غنيمى: النقد الأدبى الحديث _ دار العودة _ بيروت _ 1986 _ ص301.
(86) Beardsley, M.C.: A History of Aesthetics, Op. Cit. P. 28
(87) Kant, I.: Op. Cit. P. 81.
(88) Ibid: P. 84
(89) Ibid: p. 82
(90) نوكس، أ.: مصدر سابق _ ص 65.
(91) Kemp, J.: Kant, Op. Cit. P. 108.
(92) I bid: P. 108.
(93) كاسيرر، ارنست: مدخل إلى فلسفة الحضارة الإنسانية، أو مقال فى الإنسان _ ترجمة إحسان عباس، مراجعة محمد يوسف نجم، دار الأندلس (مؤسسة فرنكلين _ دار الأندلس)، (نيويورك _ بيروت) _ 1961 _ ص254.
(94) نوكس، أ.: مصدر سابق _ ص67.
(95) أبو ملحم، على: مصدر سابق _ ص 56.
(96) Kemp, J.: Op. Cit., P. 108.
(97) لوفافر، هنرى: فى علم الجمال _ دار المعجم العربى _ بيروت _ 1954 _ ص ص 19، 20.
(98) بدوى عبد الرحمن: كنت، فلسفة القانون والسياسة _ مصدر سابق _ ص ص 346، 347.
(99) انظر: ستولنيتز، جيروم: مصدر سابق _ ص408.
(100) انظر نوكس، أ.: مصدر سابق _ ص 78.
(101) بدوى، عبد الرحمن: كنت، فلسفة القانون والسياسة _ مصدر سابق _ ص 347.
(102) راجع، نوكس، أ.: مصدر سابق _ ص79.
(103) راجع ستولنيتز، ج: مصدر سابق _ ص ص 408، 409.
(104) Walsh, W. H.: Kant, I, In Enc. Of Philosophy, Vol.4 Macmillan Company, The Free press, New York, 1972 P. 320.
(105) Kant, I.: Critique Of Judgment, Op. Cit., P. 90
(106) I bid: p.p. 90 & 91.
(107) Kant, I.: Critique de Judment, Gilelin, 1951, pp. 75 _ 76 And, Korner: “Kant” Pelican Book, 1955, Ch. V111, p. 191.
عن: إبراهيم، زكريا: كانت أو الفلسفة النقدية _ مصدر سابق _ ص 243.
(108) Kemp, J.: Op. Cit., p. 110.
(109) I bid. P.p. 110 & 111.
راجع أيضًا كتابنا: الأحكام التقويمية فى الجمال والأخلاق _ دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، _ الاسكندرية  1998 _ ص
(110) نوكس، أ.: مصدر سابق _ ص ص 79 & 80.
(111) Kant, I.: Critique Of Judgment, Op. Cit., pp. 94 & 95.
(112) Ibid.: P. 97.
(113) I bid.: p. 98.
(114) I bid.: P. 114.
(115) راجع، نوكس، أ.: مصدر سابق _ ص81.
(116) Axinn, s.: Op. Cit. P. 113.
(117) نوكس، أ.: مصدر سابق _ ص81.
(118) بالاشوف، أ.أ.: مصدر سابق _ ص 32.
(119) نوكس، أ.: مصدر سابق _ ص ص83 _ 85.
(120) نفس المصدر _ ص85.
(121) Kant, I.: Op. Cit., p. 106.
(122) I bid: p. 135.
(123) Ibid: p. 135.
(124) Ibid: p.p. 135 7 136.
(125) I bid.: P. 136
(126) I bid: P. 137.
(127) I bid: P. 39.
(128) I bid: p. 142.                    أنظر أيضًا _ ص 139.                                        
(129) I bid: P. 145.
(130) إبراهيم، زكريا: كانت، أو الفلسفة النقدية  مصدر سابق _ ص266.
(131) Kant, I: Op cit. P. 205.
(132) I bid: P. 205.
(133) I bid: P. 206.
(134) I bid: P. 206.
(135) I bid: P. 207.
(136) I bid: P. 207.
(137) إبراهيـم، زكريا: كانت أو الفلسفة النقدية _ مصدر سابق _ ص 268. و"كانط" هنا فى إشارته إلى الكمال، يوجه نقده إلى ليبنتز، وبومجارتن.
(138) Kant, I.: Op. Cit. P.P. 224 & 225.
(139) I bid: p.P. 162 & 163.
(140) I bid: P.P. 162 & 163.
(141) إبراهيم، زكريا: كانت، أو الفلسفة النقدية _ مصدر سابق _ ص ص 253، 254 لمزيد من التفاصيل فى علاقة الفن بالإنسان، راجع فى كتابنا: فى التفسير الأخلاقى والاجتماعى للفن _ دار الوفاء. الاسكندرية 1998 _ الفصل الأول (الفن والإنسان) من  الباب الرابع ص ص155 _ 172.
(142) Kant, I.: Op. Cit. P. 163.
(143) I bid: P. 163.
(144) I bid: P. 164.
(145) I bid: P. 164.
(146) I bid: P. 164.
(147) I bid: P. 164.
(148) إبراهيم، زكريا: كانت، أو الفلسفة النقدية _ مصدر سابق _ ص 255.
(149) Kant, I.: Op. Cit. P 167.
(150) إبراهيم، زكريا: كانت أو الفلسفة النقدية _ مصدر سابق _ ص ص255، 256.
(151) Kant, I. Op. Cit. P. 104.
(152) I bid: P.P 184 - 190.
(153) I bid: p.168.
(154) I bid: p.p.: 168 & 169
(155) إفسيانيكوف، م. ف، وآخرون: مصدر سابق _ ص ص 138، 139.
(156) بالاشوف، أ. أ.: مصدر سابق _ ص17.
(157) Kant, I.: Op. Cit. P. 223.
(158) I bid: p.P. 224 & 225.
(159) بالاشوف، أ.أ: مصدر سابق _ ص ص37، 38
(160) افسيانيكوف، م. ف، آخرون: مصدر سابق _ ص135.
(161) Brunschwing, L.: Le Progres De La Conscience, t. II P. 734.
 عن: إبراهيم، زكريا: مصدر سابق _ ص 269.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق