الخميس، 20 فبراير 2014

مظاهر النهضة الأوربية عصر النهضة



مظاهر النهضة الأوربية :
         كانت من أولى مظاهر النهضة بعث الدراسات الإغريقية واللاتينية , وإنشاء مؤسسات علمية مثل الأكاديميات والمكتبات ترعى هذه الدراسات , والاهتمام بدراسة علوم الآثار والتاريخ , ثم النهوض بالفنون الجميلة من نحت وتصوير وغيرهما , وظهور مخترعات جديدة لتكون في خدمة الإنسان , وكان على رأسها الطباعة , وقد ساعدت على دعم الدراسات الإغريقية واللاتينية ونشرها , واستكشاف البارود وما نجم عنه من ثورة في النظم الحربية , والاهتداء إلى عدة ألات نافعة مثل الإسطرلاب([1]) والبوصلة أو الإبرة المغناطيسية والدفة المتحركة وغيرها من أدوات كان لها الفضل الأكبر في توسيع نطاق الملاحة البحرية وتسهيل البعوث الكشفية الجغرافية , ونشأة اللغات القومية الحديثة في كثير من دول اوربا مثل اللغة الإيطالية واللغة الفرنسية واللغة الأسبانية , وانتشار المؤلفات بهذه اللغات .
         ومن مظاهر النهضة أيضاً التغييرات العميقة التي حدثت في المجتمع الأوربي وبخاصة المجتمع الإيطالي من تقديس الجمال والتمتع بملذات الحياة والارتفاع بمركز المرأة والانغماس في حياة المجون والفسق .
         كما كان من أهم مظاهر النهضة حركة الكشوف الجغرافية وما أسفرت عنه من كشف العالم الجديد وأصقاع أخرى من العالم وتنظيم طرق ملاحية جديدة عبر المحيطات والبحار .
حركة إحياء الدراسات القديمة :
يطلق على هذه الحركة الفكرية اسم الدراسات الإنسانية أو الحركة الإنسانية L Humanigme وهي تشمل عنصرين أساسيين هما : الدراسات الإغريقية والدراسات اللاتينية , ولم تكن هذه الدراسات حركة شعبية كما أنها لم تنبئق من داخل الجامعات , بل ظهرت خارجها . وكان هذا الوضع أمراً طبيعياً , لأن الجامعات كانت توجه معظم اهتمامها إلى دراسة العلوم العملية وبخاصة الطب . وقد ظلت الجامعات حقبة طويلة معادية للدراسات الإنسانية , واعتمدت هذه الدراسات على التشجيع المادي والأدبي الذي أضفاه حكام المدن الإيطالية على المشتغلين بها .
         وقد استهوت الدراسات الإغريقية واللاتينية أفئدة الكثيرين من الأوربيين في ذلك الوقت , واعتقدوا أنها أروع وأرقى وأجمل ما يمكن أن تتجه عقول البشر , وأن الفرد لا يمكن أن يتبوأ مكاناً علياً في المجتمع ما لم يكن على حظ موفور من هذه الدراسات . ولعل هذا الاهتمام العميق بإحياء الدراسات الإغريقية واللاتينية هو السبب الذي جعل فريقاً من الباحثين يطلقون خطأ على النهضة اسم حركة ( إحياء العلوم ) والواقع أن حركة إحياء العلوم لم تكن إلا مظهراً من مظاهر النهضة .
         قامت هذه الحركة على دراسة المخطوطات   القديمة . وكانت الكاتدرائيات والكنائس والأديرة تزخر بعدد وافر من هذه المخطوطات , وكانت على نوعين : المخطوطات الإغريقية والمخطوطات اللاتينية  في شبه الجزيرة الإيطالية وفي سويسرا والولايات الألمانية وغيرها من بقاع أوربا . وقامت الأسرات الحاكمة في المدن الإيطالية بتمويل عمليات البحث عن المخطوطات وشرائها حتى أصبحت هذه الظاهرة سمة بارزة مشتركة بين حكومات المدن الإيطالية انقلبت إلى منافسة حادة بينهما . اما المخطوطات الإغريقية فقد اتجهت الأنظار بشأنها إلى القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية . ونشات تجارة واسعة نشيطة المخطوطات , وكانت القسطنطينية قبل سقوطها في يد الأتراك العثمانيين مركز هذه التجارة . وكان يقصدها عملاء من حكومات المدن الإيطالية يقتنون المخطوطات الإغريقية , او دارسون موفدون من قبل هذه الحكومات يدرسون اللغة الإغريقية في القسطنطينية ويجمعون في أثناء دراستهم عدداً وافر من المخطوطات , وعن طريق العملاء والدارسين مما انتقلت مجموعات ضخمة من المخطوطات الإغريقية إلى مدن شبه الجزيرة الإيطالية .
         وتأسيساً على هذه الوقائع الثابتة تاريخياً , بين خطأ الرأي الشائع بين جمهرة كبيرة من الباحثين , وهو أن فتح الأتراك العثمانيين القسطنطينية أدى إلى ظهور حركة إحياء الدراسات الإغريقية في شبه الجزيرة الإيطالية بسبب هجرة عدد ضخم من العلماء البيزنطيين من وجه الأتراك العثمانيين والتجائهم إلى إيطاليا حيث استقر بهم المقام وباشروا نشاطاً علمياً واسعاً . والحق أن هذه الحركة الفكرية – ونعني بها حركة إحياء الدراسات الإغريقية – قد ظهرت في إيطاليا قبل سقوط القسطنطينية بخمسين سنة على الأقل حين جذبت طلائع الحركة الفكرية عدداً كبيراً من العلماء البيزنطيين إلى الهجرة في مطلع القرن الخامس عشر إلى إيطاليا , حيث طاب لهم المقام في مدنها لما كان يغمرهم به حكام هذه المدن من رعاية مادية وأدبية . وعلى ذلك فإن سقوط القسطنطينية في يد الأتراك العثمانيين لم يكن السبب الرئيسي في ظهور حركة إحياء الدراسات الإغريقية في شبه الجزيرة الإيطالية , بل يمكن القول إن هذا الحادث الحربي لم يكن سوى عامل ساعد على ازدهار هذه الحركة . ومن الحقائق الثابتة أيضاً أنه حدث قبل سقوط القسطنطينية تقارب فكري بين الدولة البيزنطية وبين المدن الإيطالية التي اشتهر حكامها بتشجيع العلوم والفنون والآداب , وتبودلت الزيارات العلمية من الجانبين , فقام عدد من الدارسين الإيطاليين بزيارة القسطنطينية للتخصص في دراسة اللغة الإغريقية على يد كبار أساتذتها , وكانت العاصمة البيزنطية معقل الدراسات الإغريقية ذات المستوى الرفيع , كما وفد تباعاً إلى فلورنسا وغيرها من المدن الإيطالية نخبة من العلماء البيزنطيين , ويمثل الفريق الأول بوكاشيو Giovanni Bocaccio ذهب إلى القسطنطينية ينشد التعمق في الدراسات الإغريقية , ويمثل الفريق الثاني كريزولوراس Chrysoloras من أهالي القسطنطينية , أوفده إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية في مهمة سياسية لدى الحكومات القائمة في شبه الجزيرة الإيطالية يسعى للحصول على مساعدتها ضد الأتراك العثمانيين الذين ازداد ضغطهم العسكري على آسيا الصغرى في زحفهم المرتقب نحو القسطنطينية . وحدثت اتصالات علمية في فلورنسا بين كريزولوراس وبين علمائها الذين قدروا فيه غزارة العلم . فلما عاد إلى القسطنطينية ظل علماء فلورنسا على اتصال وثيق به , وعرضوا عليه القدوم إلى فلورنسا ليتولى تدريس اللغة الإغريقية بها . وقد وافق على العرض وعاد إلى فلورنسا . وكان وجوده كسباً كبيراً للحركة الفكرية في إيطاليا فقد كان كريزولوراس يمثل بحق الأساتذية الشامخة في الأداب الإغريقية وسرعان ما تجمع حوله عدد من تلاميذه المتحسمين كونوا مدرسة فكرية إغريقية برزوا بروزاً واضحاً قوياً في نشر الدراسات الإنسانية في شبه الجزيرة الإيطالية , ولم يكن نشاط كريزولوراس مقصوراً على فلورنسا  , فقد كان ينتقل بينهما وبين ميلان والبندقية وباقي يحاضر في كل منها .. وشعر مواطنوه العلماء البيزنطيون بالتقدير العميق الذي ظفر به كريزولوراس حيثما حل في المدن الإيطالية , وأدركوا أن هذه المدن في حاجة إلى الأساتذة المتخصصين في اللغة الإغريقية وآدابها , فأقبلوا على الهجرة إلى إيطاليا مدفوعين بالرغبة في الظفر بالمرتبات العالية التي تدفعها لهم الحكومات المدن الإيطالية . ثم جاء سقوط القسطنطينية في يد الأتراك العثمانيين فقضى على تردد العلماء البيزنطيين في الهجرة إلى إيطاليا , ومن ثم شدوا رحالهم إليها , الأمر الذي ساعد على إنعاش الدراسات الإغريقية في إيطاليا , بعد أن كانت هذه الدراسات قد قطعت شوطاً بعيداً في طريق الازدهار .
         وفي نفس الوقت الذي الذي بذلت فيه الجهود لإحياء الدراسات الإغريقية كانت حركة إحياء الدراسات اللاتينية تسير هي الأخرى قدماً نحو الازدهار . وكان وراءها عامل هام يدفع بها خطوات واسعة سريعة ويميزها عن الدراسات الإغريقية . كان الإيطاليون ينظرون إلى اللغة اللاتينية على أنها لغة الحضارة الرومانية , بها سطرت صفحات المجد والخلود . ولما كانوا يعتبرون أنفسهم حفدة الرومان وورثة حضارتهم – كما سبق أن ذكرنا – فقد جاشت في نفوسهم عاطفة وطنية تشابكت وتداخلت مع رغبتهم في الإقبال على الدراسات اللاتينية .
         كان من وراء هذه الدراسات عالم إيطالي هو : بترارك Petrarque انصرف إلى دراسة اللغة اللاتينية , حتى سيطر عليها سيطرة تامة , وأجاد الكتابة بها على نمط الأسلوب اللاتيني القديم , واستهوت اللغة اللاتينية فؤاده , وشغف بها شغفاً عظيماً حملة على احتقار اللغة الإيطالية , حتى انه نعى على دانتي شاعر إيطاليا استخدامه اللغة الإيطالية . وكان بترارك يعتبر اللاتينية لغة الآداب الرفيعة ويقيس ثقافة الفرد بمقدار إلمامه باللغة اللاتينية .واستطاع بفضل تمكنة من هذه اللغة أن يتذوق الاتجاهات الإنسانية التي حفلت بها كتابات الرومان فجعلت منه عالماً عملاقاً يمثل طرازاً جديداً من رجال الفكر يختلف عن أقرانه مفكري العصور الوسطى . وقد توفر على جمع المخطوطات اللاتينية والنقوش والنميات , ثم عمل جاهداً على نشر الدراسات الإنسانية وتشجيعها وتنشيطها حتى أطلق عليه ( والد الإنسانية) ونجح في تكوين مدرسة فكرية تنتمي إليه , وتتكون من مثقفين متحمسين للدراسات الإنسانية .
         وكان بترارك يمثل في معظم كتاباته روح العصر الحديث , فهو في تفكيره السياسي يبدي أسفه العميق على الانقسامات السياسية التي تمزق وطنه الحبيب وعلى قيام عدد كبير من الإمارات والحكومات المتشاحنة المتنافرة , وطالب بضرورة قيام وحدة سياسية تنشر ظلها الظليل على جميع أنحاء شبه الجزيرة الإيطالية  . وقد ألف باللغة اللاتينية أيضاً ملحمته الشهيرة : أفريقيا Africa سرد فيها حوادث الحروب التي اندلعت بين روما وقرطا جنة ولم يتح له إكمالها .
         ولقيت الدراسات الإنسانية في اختراع الطباعة خير معين لها على الذيوع والانتشار . والطباعة – شانها في ذلك سأن الدراسات الإنسانية –مظهر من مظاهر النهضة الإوربية , وهي أهم اختراع ظهر في عصر النهضة , بل هي من أعظم الاختراعات التي شاهدتها الإنسانية وأسهمت في إثراء الحياة  العقلية على مر العصور والأحقاب . وإذا كان حنا جوتنبرج Jean Gutenberg الألماني وهو من مدينة ماينز Mayence على الضفة الغربية لنهر الراين – قد أدخل على الطباعة تحسينات كثيرة قفزت بها إلى الأمام خطوات واسعة , فسرعان ما تلقفها الإيطاليون , وأدخلوها بحروف معدنية إلى بلادهم وكانوا في هذا المضمار أسبق من الفرنسيين الذين جاءوا بها إلى باريس ومن الإنجليز وأهل السويد والأسبان ويتصل الورق بالطباعة اتصالاً وثيقاً . وفي العصور القديمة كان ورق البردي يستخدم في الكتابة , وفي العصور الوسطى حلت محله رقائق جلود الأغنام وكانت هذه الرقائق باهظة التكاليف , فكان الناس يعمدون إلى محو الكتابات القديمة من الرقائق لإعادة استخدامها أكثر من مرة , وفي عصر النهضة كشف الورق . وكان النجاح في صنعه هو الذي مكن الطباعة من أداء رسالتها.
         وثمة ملاحظة هامة هي أن صاحب المطبعة كان يجمع بين إلمامه التام بفن الطباعة وبين العلم الغزير والثقافة الواسعة . ومن أبرز أعلام الطباعة الإيطاليين ألدو مانوزيو تعمق في دراسة اللغتين الإغريقية واللاتينية , وغدا متخصصاً في النقد والنحو وتاريخ الأدب وعلم الأخلاق ثم رحل في سنة 1490 إلى البندقية حيث أسس أكاديمية البندقية . وأطلق عليها الأكاديمية الجديدة , وتخصصت في الدراسات الإغريقية وأنشأ ألدو أيضاً مطبعة عرفت باسمه لينشر فيها روائع الأدب الإغريقي , واستعان بعدد من اليونانيين من سكان جزيرة كريت المهاجرين , كانوا ينسخون له المخطوط لإعداده للطبع . وألحق بالمطبعة قسماً للتجليد وآخر لصناعة حبر الطباعة , وأخذت هذه المؤسسة تصدر في تتابع كتباً قليلة التكاليف جعلت الدراسات الإنسانية في متناول الكثيرين . وكان إخراج الكتب جميلاً ومتقناً ورائعاً . وكما يقول هربرت فيشر ( استطاع السيد البندقي وهو يناسب بجندوله في القناة الكبرى أن يتمتع بمباهج هوميروس في مجلد صغير أوضح ما يكون طباعة ).


[1] - الإسطرلاب: آلة تستخدم في تقدير المسافات وتعيين اتجاه السفينة وهي في أعالي البحار .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق