الخميس، 27 فبراير 2014

الغاية الهدف من القانون تحقيق العدل في المجتمع



القانون وغايـة العدل
تعد فكرة العدل من اقدم الفضائل الانسانية التي تعبر عن رغبة اصيلة لدى الانسان في أحقاق الحق ورد الظلم في كل مكان وزمان ، ولهذا تبنتها القوانين القديمة والحديثة كغاية يسعى القانون لادراكها ، وهي فكرة تناولها الفلاسفة بالدرس والتعريف والتحليل وتكونت اسسها النظرية على يد فلاسفة اليونان ولقيت اهتماماً بالغاً من فلاسفة القرون الوسطى . واكتسبت فكرة العدل عبر التاريخ كثير من الدلالات المختلفة . ذلك ان فكر العدل فكرة نسبية مجردة تختلف بأختلاف الزمان والمكان ، وهي ايضاً ، كما يقول القديس توماالاكويني بحق ، ترتبط ارتباطاً كاملاً بأسوب وتفكير الانسان عبر العصور . فالعدل في حقيقته ومعناه ليس بخاصية من خصائص القانون وليس هو ظاهرة من ظواهر المجتمع ، بل هو فضيلة وسلوك للانسان في علاقاته الاجتماعية ينبغي ان تتحقق ولو لم يكن هناك قانون او دولة بسبب ظروف قاهرة معينة، ذلك ان الفضيلة تعني استعداداً دائماً ومستمراً للنفس البشرية لفعل الخير ورد الشر ، فالفضيلة تحمل طابع الدوام والثبات والتعود ، اما اذا اتخذ السلوك الفاضل صفة التقطع فلا يعد فضيلة ، لان التقطع يرتبط بالانتهازية والتحيز وربط الموقف الاخلاقي بالمصالح الانانية ، وعلى هذا النحو فان الانسان اما ان يكن عادلا وفاضلاً على طول الخط او لايكون . ويميز الفلاسفة بين اربعة فضائل اساسية ينبغي ان تحكم سلوك الانسان هي التبصر ، العدل ، ضبط السلوك الاجتماعي ، والجلد والشجاعة . ومن بين هذه الفضائل الاربعة يرتبط التبصر والعـدل بعلم القانون ، والتبصر وهو فضيلة عليا تتمثل في القدرة على اعمال العقل والتفكير السليم الموجه للتصرفات والاعمال للوصول الى الغاية المنشودة ، وينبغي ان يقوم العمل التشريعي والقضائي ومعيار السلوك المطلوب من الافراد على اساس التبصر .(19)
ولذلك اعتبر الفلاسفة وعلى مرالتاريخ ان خير تعريف للعـدل هو ما وضعه الامبراطور الروماني جسستنيان في مدونته بقوله ( العــدل هو حمل النفس على ايتاء كل ذي حـق حقـه والتــزام ذلـك عـلى وجـه الـدوام والاسـتمرار ) (20)
التمييز بين فكرتي العدل والعدالة : يعود التمييز بين هاتين الفكرتين الجوهريتين الى فلاسفة اليونان القدماء وخاصة ( ارسطو ) ، وكذلك يميز الفقه القانوني الحديث بين العدل (العدل الشكلي القانوني ) والعدالة ( العدل الجوهري، الانصاف ) .
تناول ارسطو فكرة العدالة بالتحليل وهو يرى ان مضمون القوانين هو العدالة ، وان اساس العدالة هو المساواة ، وميز ارسطو بين صورتين اساسيتين للعدالة ، الاولى هي العدالة التوزيعية ، وهو العدل الذي يسود علاقة الجماعة بالافراد باعتبارهم اعضاء في جماعة سياسية هي الدولة وتطبق على الاموال والحقوق والواجبات العامة ، وتهدف الى ان يحصل كل عضو من اعضاء الجماعة على قدر مناسب لاستحقاقه بحسب كفائته او قابلياته او ماقدمه من تضحيات .
فما دامت العدالة هي المساواة والظلم هو عدم المساواة ، فان العدالة التوزيعية تقتضي ان تعالج الحالات المتساوية معالجة متساوية ، ويترتب على ذلك انه اذا وجد شخصان غير متساويين ، وجب ان لا يحصلا على ما هو متساو . ويذهب شيشرون الى ( ان العدالة التي تساوي بين خيار الناس واشرارهم هي ستار للظلم )
ومنبع الشكوى والشجار حسب ارسطو ان تعطي المتساويين حصص غير متساوية ، او ان تمنح غير المتساويين حصص متساوية . ويلاحظ ارسطو ان الناس جميعاً يتفقون على ان العدالة في التوزيع يجب ان تجري وفقاً للاستحقاق ، الا انهم يختلفون في فهم المقصود من الاستحقاق . وعبر الرومان عن هذه الصورة من العدالة كما وردت في مدونة جستنيان بالقول ان ( مساواة غير المتساويين ظلم ) .(21)
ويعبر عنها في الفقه القانوني المعاصر بفكرة المراكز القانونية التي تقوم على اساس التمييز بين المساواة القانونية ، وهي المقصودة في هذا المقام ، والمساواة الفعلية. وطبقاً للمساواة القانونية فان ليس كل الناس متساويين امام التعيين في الوظيفة العامة مثلاً ، بل يتساوى منهم فقط من يحمل نفس الشروط والمؤهلات ، وباختلاف المؤهلات يختلف الراتب والمزايا الوظيفية. ومن جانب اخر فأن العدالة التوزيعية تمثل وجه من اوجه حقوق الانسان كما وردت في الاعلان العالمي لحقوق الانسان .(22)
وسمي هذا العدل توزيعياً لانه يتولى توزيع خيرات الجماعة والواجبات تجاه الجماعة بين افراد تلك الجماعة . وحين يطالب الفرد بحصته العادلة من خيرات الجماعة فأنه يطالب بما هو مستحق له بوصفه عضواً في تلك الجماعة .
وجاء في اعلان حقوق المواطن الفرنسي الوارد في مقدمة دستور سنة 1789 بالنص على انه ( ان ممثلي الشعب الفرنسي ، المجتمعين في جمعية وطنية ، قد راعهم الجهل ، والنسيان ، وعدم المبالاة بحقوق الانسان ، بأعتبارها سبب المآسي العامة واساس فساد الحكومات . فقرروا النص في اعلان رسمي على حقوق الانسان الطبيعية، المقدسة، غير القابلة للتصرف، حتى يكون هذا الاعلان ماثلا على الدوام في ذهن اعضاء الجسم الاجتماعي ، يذكرهم ابداً بحقوقهم وواجباتهم ....
المادة الاولى : يولد الناس ويظلون احراراً ومتساوين في الحقوق ولا تقوم التمييزات الاجتماعية الا على اساس من المنفعة العامة .
المادة الثانية : ان الغاية من كل تجمع سياسي حفظ حقوق الانسان الطبيعية غير القابلة للتقادم . هذه الحقوق هي الحرية ، والملكية ، والأمن ، ومقاومـة الطغيـان .... . ) . فاساس العدالة التوزيعية بحسب المادة الاولى ان تقوم التمييزات الاجتماعية على اساس من المنفعة العامة لا غير .(23)
اما الصورة الثانية للعدالة بحسب تصوير ارسطو فهي العدالة التبادلية اوالتعويضية ، فهو العدل الذي يسود علاقات الافراد فيما بينهم فيوازن بين المنافع اوالاداءات المتبادلة ، وهي تخضع لمبدأ المساواة ايضاً ولكن المساواة هنا فعلية وليست قانونية. فتقدر الافعال او الاشياء بالنسبة الى قيمتها الموضوعية طبقاً لمعادلة حسابية ، بغية وضع كل طرف في مركز مساو تجاه الاخر ، ولايعتد هنا بالاعتبارات الخاصة بكل فرد كما هو الحال في العدل التوزيعي ،وتطبق في حالات العقد والفعل الضار واية رابطة خاصة اخرى . فمركز المتعاقدين مثلا ، متساو من ناحية العدل التبادلي ، فاذا استلم احد الطرفين المتعاقدين اكثر مما يستحق او اقل وجب الرد وايجاد التوازن لتحقيق العدل ، واذا الحق احدهم بآخر ضرراً وجب عليه التعويض .
ويميز الفقه الحديث بين فكرة العدل وفكرة العدالة ؛
فالعـدل (( Justice : يفيد معنى المساواة ، وهي مساواة مرتبطة بالدور الاجتماعي للقانون ، فالمفروض ان يطبق القانون بمساواة جميع الاشخاص والحالات التي يتناولها في مركز قانوني معين ولغرض معين بالذات وللهدف الذي يرمي اليه ، فالمثل يعامل كمثله ، وغير المتساويين لايلقون معاملة متساوية ، وهكذا قرر الرومان ، كما جاء في مدونة جستنيان ،القاعدة القائلة بأن ( مساواة غير المتساويين ظلم ) . ويتحقق ذلك من خلال قواعد قانونية عامة مجردة تطبق على الجميع بنزاهة ودون محاباة وبعدالة ويقتصر دور العدل الشكلي هنا على بيان أن الاجراءات كانت عادلة لان احدا لم يستثنى او يستبعد بشكل غير عادل من تطبيق القانون ، لافرق بين ام تسرق لأطعام اطفالها الجياع ومن يسرق لأرضاء ملذاته وشهواته ،مثلا. لأن العدل القانوني يعتد بالوضع الغالب الظاهر لا بالوضع الداخلي الخاص للمخاطبين بحكمه .
اما العدالـة (Equity ) : فتعني الشعور بالانصاف وهو شعور كامن في النفس يوحي به الضمير النقي ويكشف عنه العقل السليم وتستلهم منها مجموعة من القواعد تعرف بأسم قواعد العدالة مرجعها مثل عليا تهدف الى خير الانسانية بما توحي به من حلول منصفة ومساواة واقعية تقوم على مراعاة دقائق ظروف الناس وحاجاتهم .
ان التمييز بين فكرتي العــدل والعدالــة هو السبب في ان كل الانظمة القانونية شعرت بالحاجة الى اصلاح صرامة القانون من خلال الدعوة الى تفسير القانون بروح العدالة بدلا من التركيز على حرفية النصوص عندما يشعر القاضي ان الظلم بعينه يتحقق لو طبق القانون بحذافيره وهذه الحالة نجد تعبيرها في القول المأثور ( الرحمة فوق القانون ) الذي لايعني الا أن على القاضي ان يعالج الحالة الفردية الخاصة بروح العدالة . ووجدت هذه الفكرة تطبيقا في مظاهر متنوعة ، ففي انكلترا انشئت منذ قرون مايعرف بمحكمة العدالة للتحرر من جمود القانون العام الانكليزي وعلى اساس فكرة ( ان العدالة تنبع من ضمير الملك ) فيما اعتبرت قوانين اخرى قواعد العدالة او القانون الطبيعي مصدرا قانونيا احتياطيا يطبقه القاضي عند غياب النص ، كما فعل المشرع المصري والعراقي .
ولأن قواعد العدالة فكرة نسبية فأن فقهاء القانون يميلون الى استخدام مصطلح العدالة الاجتماعية كفكرة واقعية يمكن صياغتها بوضوح في النصوص القانونية ، ومن اهم مقومات العدالة الاجتماعية ؛ المساواة والحرية وتكافؤ الفرص .(24)
وبالنظر لسبق الاشارة الى مفهوم المساواة القانونية ، نتاول فكرة الحرية بذاتها بايجاز ثم نتحدث عن مفهوم تكافؤ الفرص .
الحريـــة : التوق الى الحريــة غاية انسانية كبرى وهي جزء من الطبيعة الانسانية وحق اصيل من بين كل الحقوق ، بل هي جزء من طبيعة كل الكائنات الحية ، فاذا كانت الحرية جزءاً من الطبيعة الانسانية فانها ليست هبة يمنحها الحكام لشعوبهم بل ان الله سبحانه هو الذي خلق الناس احرارا ، الا ان هذا الحق كثيراً ما تعرض للاغتصاب عبر التاريخ ، فكان جوهر التاريخ السياسي للبشرية هو صراع من اجل استراد الحق المغتصب ، الحرية . . وعرفت المادة (4) من اعلان حقوق المواطن الفرنسي الوارد في مقدمة دستور سنة 1789 الذي تضمن مباديء الثورة الفرنسية ، والحقوق والحريات العامة على انها ( القدرة على اتيان كل عمل لا يضر بالآخرين) .
مارس الحكام السلطة منذ نشأتها بأعتبارها امتيازاً شخصياً تندمج فيه شخصية الحاكم مع شخصية الدولة فالحاكم هو الدولة وفي شخصه تتجسد سيادة الدولة ، ولم تتمكن الشعوب من اجبار الحكام على التخلي عن هذه الفكرة الا بعد صراع مرير طويل مخضب بالدماء، لتنتقل الى مرحلة السيادة للشعب وتكوين البرلمانات ولم يعد الحاكم الا ممثلاً للدولة وليس تجسيداً لها ، فضلاً عن مساهمة الفلاسفة في وضع الاسس التي ينبغي ان تقوم عليها الدولة ، كما ساهمت المصالح الخاصة للاقطاع والبرجوازية الناشئة في السير نحو هذا الاتجاه من خلال الصراع بين الملوك الذين بدأت سلطاتهم المطلقة تتنامى بظهور الدول القومية الحديثة وبين الاقطاع والبرجوازية الناشئة وهكذا اجبر امراء الاقطاع الملك في انكلترا على الاجتماع بهم لمناقشة الامور الهامة لتقديم المشورة وبمر الوقت اصبح الاجتماع منتظماً وانتقل من مرحلة المشورة الى الى مرحلة التشريع والاشراف على القضاء واتسعت صلاحياته ليتخذ من خلاله القرارات المصيؤية واطلق عليه اسم المجلس الاعظم ، وعندما حاول الملك جون الالتفاف على المجلس واعادة السلطات المطلقة لشخصه قاد النبلاء والاشراف والاساقفة ثورة كبرى فرضت عليه وثيقة الحقوق ( الماكنا كارتا ) سنة 1215 .
وبعد ذلك سمي المجلس باسم مجلس اللوردات ولم يعد بامكان الملك الغاء قانون صادر من المجلس وتمت اضافة ممثليين عن كل مقاطعة وممثلين عن المدن الهامة ، وفيما بعد تجمع ممثلي المقاطعات وشكلوا مجلساً خاصاً بهم عرف ليومنا هذا بمجلس العموم . الا ان الصراع لم يتوقف عند هذا الحد وتجدد لاحقاً في القرن السابع عشر لتنتهي الاحداث باعدام الملك شارل الاول سنة 1649 وتولي حد اعضاء البرلمان زعامة البلاد وهو اوليفر كروميل . ويمكن القول بعد هذه المرحلة التاريخية في انكلترا مضافا ًاليها ما تبنته الثورة الفرنسية من قيم للحرية والمساواة ، ان عهد الحرية وسيادة الشعب كاسلوب لحياة المجتمعات قد بدأ بالفعل لاول مرة في التاريخ الانساني .
ومع ان التفرقة بين شخصية الحاكم والدولة بدأت تتضح في العصور الحديثة ، الا ان هذه التفرقة بقيت رهناً بالحاكم وطبيعة النظام السياسي السائد ، فكانت هناك حتى في التاريخ الاوربي ، شبه ردة بين حين واخر ، فبعد الثورة الفرنسية التي قلب موازين الفكر السياسي رأسا على حق وظهر على وجه التاريخ لاول مرة دور المواطن العادي في الدولة والسياسة ، برز ايضاً نابليون كصورة من صور ذوبان الدولة بالحاكم بسبب انتصاراته العسكرية الباهرة التي الهبت مشاعر الفرنسيين وغير الفرنسيين ( 4) ، وفي القرن العشرين برز كل من ستالين وهتلر فضلا عن اغلب دول ما كان يعرف بالمعسكر الاشتراكي كتجسيد لذلك المظهر البدائي للسلطة .
اما في الشرق ، مهد نشوء الاستبداد من الناحية التاريخية ، فأن ظاهرة اندماج شخص الحاكم بالدولة بقيت امراً مألوفاً ليومنا هذا . (25)
مبدأ تكافؤ الفرص : تكافؤ الفرص احد اهم الاسس التي تقوم عليها العدالة الاجتماعية ، ونصت على هذا المبدأ معظم الدساتير المعاصرة ، ومضمون المبدأ ان تعمل التشريعات على محو الامتيازات الخاصة والفوارق المصطنعة بين افراد المجتمع ، بعد ان كانت المجتمعات الانسانية بصفة عامة تقسم ابناء الشعب الى طبقات متدرجة في القيمة ومقدار الحقوق التي تنالها كطبقة الاشراف وطبقة المحاربين وطبقة العامة وطبقة العبيد، وكانت اغلب هذه الامتيازات تنتقل بالوراثة ، الا ان فكرة التمييز الطبقي بين ابناء المجتمع الواحد لم تلق قبولا في الفكـر الحر المعاصر فتم التخلي عنها تدريجيأً .
ويتيح هذا المبدأ لكل فرد من افراد المجتمع التمتع بخيرات المجتمع بالقدر الذي تؤهله له كفائته وقدراته الذاتية .
وفي ظل هذا المبدأ اصبح للنخبة او الصفوة الاجتماعية معنى ومضمون اخر .
فالنخبة الاجتماعية في عالم اليوم هم من يتمتعون بالكفاءات المعرفية ، سواء كانت علمية او ادبية او فنية او مهنية او غيرها ، التي اكتسبها افراد المجتمع من خلال الجد والمثابرة ومن ثم سخروا معارفهم لخدمة مجتمعهم وعموم المجتمعات الانسانية.
والنظام الاجتماعي العادل هو الذي يتيح للنخبة الاجتماعية من ابنائه، بالمعنى الذي اشرنا اليه ، بان تتولى مناصب الصدارة في قيادة المجتمع . وكل نظام اجتماعي لا يضع النخبة في مكانها الذي تستحقه وكان معياره الولاء العشائري او الحزبي لا الكفاءة ، ولا يكون للافراد فيه مجال للخلق والابداع ، لابد ان ينحدر نحو هاوية التخلف والصراع ،ذلك ان تمكين الجهلة والمتملقين والانتهازيين من الوصول الى المناصب القيادية في الدولة يقود حتماً الى الاستبداد والطغيان والفوضى والفساد وعدم الشعور بالمسؤولية فى المجتمع ، والشعور بالغبن والاجحاف ، وتردي الاخلاق العامة وأزدواجيتها ومَدعاةً لنمو ثقافة القسوة والنفاق والدكتاتورية ، وتأليه الذات البشرية التي تفضلت على اولئك الجهلة وسلمتهم مقاليد الامور في البلاد، ومن ثم تكرس كل مصالح الدولة وقوانينها لخدمة اغراضهم غير المشروعة .
ويعبر احد اساتذة القانون عن ذلك تعبيراً دقيقاً بقوله ( ... وكل تشريع يرفع غير الصفوة القادرة ويقيس بغير مقياس الكفاءة ويصد العبقريات عن مصاعدها ويعيق النخبة عن القيام برسالتها ويلهب بالحرمان والخيبة نفوسها ، لا يمكن اعتباره تشريعاً ظالماً فحسب وانما هو تشريع ينسف قواعد سـلامة المجتمع من اساسها وتغدو اجهزة الحكم في ظلـه فمـاً يلتقـم ويـداً تنتـقـم ) .(26)
والعدل كغاية سامية يسعى القانون لادراكها تلي في مرتبتها غاية السكينة الاجتماعية ، وعند التعارض يميل المشرع الى تغليب السكينة الاجتماعية والتضحيـة بغايـة العـدل .
المطلب الثالث: القانون وغاية التقدم الاجتماعي (27)
يرى بعض الفلاسفة بحق ، ان الانسان مُبذر بطبيعته لأغلب قواه الخلاقة ، حيث ان اغلب قواه تتجه الى الرغبة في البقاء ورغبته في ان يخلف نسلاً شبيها به . ذلك ان ان رغبته في البقاء تدفعه للبحث الحثيث عن لقمة العيش وهذه تأخذ جل وقته ، ورغبته في النسل ، تجعل من عنايته بأسرته واطفاله وما يترتب على ذلك من قلق على صحتهم ومستقبلهم ، تأخذ معظم الوقت المتبقي من يومه .
ومع ذلك يبقى هناك احتياطي ضخم من القوى الخلاقة للانسان غير مُستغل ،الا اذا صادف ان القوى الخلاقة هي نفسها مصدر رزق الفرد وهي ليست كذلك دائما . وبدون استغلال هذه الطاقات لا يمكن ان تتقدم البشرية ولا ان تُبنى حضارات .(28)
ونظراً لوجود هذا الاحتياطي فقد اتاحت الظروف وحسن الصدفة لبعض العلماء والفلاسفة والادباء والفنانين من استثماره في سبيل خلق ثقافة جديدة والمساهمة في بناء حضارة عظيمة ، وقد تلعب الصدفة المحضة ً دوراً كبيراً في هذا المجال احيانا عندما تخلق ظروف معينة للمبدع ليتفرغ لابداعه ، وهكذا فان تاريخ الابداع يتحدث عن ان بعض المبدعين كان عاطلا عن العمل دفعته الحاجة الى الاختراع والاخر في السجن قادته تأملاته ووحدته الى اكتشاف حقائق مذهلة او كان هارباً من وجه السلطة او من مطاردة دائنيه ، او لم يتمكن من تكوين اسرة تأخذ جل وقته .
وفي نظر المجتمعات المعاصرة ،فان امر بناء ثقافة الامة وحضارتها ومستقبلها لا يمكن ان يترك لمجرد الصدفة ، وهكذا سعت التشريعات الحديثة الى خلق افضل الظروف لعمل العلماء والادباء والفنانين مما يجعلهم متفرغين تماماً للبحث والابداع ومن ذلك تأسيس مراكز بحث علمية متخصصة .
ووفقاً لغاية التقدم يلعب القانون دوراً جوهرياً في سبيل خلق حضارة افضل واكثر تماشياً مع الطموحات الانسانية.
وعلى سبيل المثل ، يلاحظ ان اغلب الدول الصناعية الكبرى لا تملك الموارد الاولية للتصنيع لدرجة ان تنعدم في بعضها تلك الموارد ، ومن جانب اخر نجد دول اخرى تملك احتياطيات هائلة من الموارد الاولية ولكنها دول متخلفة .
وحسب التصنيف المنطقي المجرد فان الاولى يجب ان تصنف بانها دول فقيرة وتصنف الثانية بانها دول غنية ، ولكن الواقع خلاف المنطق فما هو السبب ؟
السبب هو ان تلك الدول بعد انقضاء العهود الاستعمارية التي كانت تستولي فيها على خيرات الدول المستعمَرة ،
لجأت الى خلق انظمة قانونية متميزة جعلت لها الريادة في المجال العلمي والصناعي ، ومن ذلك نظام الشركات المساهمة ونظام الشركات متعددة الجنسية ونظام الرهن التأميني وانظمة حقوق الملكية وبراءات الاختراعات وانظمة قانونية تجارية مثل نظام البيع SIF والبيع FOB وانظمة مصرفية متطورة مثل الحساب الجاري والقرض المصرفي والرهون المصرفية والاعتماد المستندي فضلاً عن قوانين رعاية المواهب وقوانين منح الجنسية للمبدعين من الشعوب الاخرى وغير ذلك من انظمة قانونية ، وهذه الانظمة تمثل الاساس القانوني للتطور الهائل الذي شهدته الدول الغربية عموماً ، ولولا هذه الانظمة التي مكنتها من استثمار ما يملكه غيرها من موارد لاضحت دولا فقيرة .
فشركات انتاج السيارات اليابانية مثلا تعتمد بصفة اساسية على استيراد المواد الاولية من الخارج ، كما ان عائدات شركة مايكروسوفت التي تعتمد على استثمار الافكار العلمية بموجب نظام حقوق الملكية وبراءات الاختراع المنظمة قانوناً تبلغ مئات المليارات من الدولارات سنوياً . وهكذا تصنع الافكار القانونية المعجزات .
الا انه لا يمكن للقانون بمفرده ان يكون عاملاً اساسياً في انشاء الحضارات . فالقانون يهيء الظروف التي تتيح للفرد مجالات الخلق والابداع ، الا ان مدى فعالية النظام الاجتماعي هي التي توجه الغاية القانونية وجهتها الصحيحة ، فالنظام القانوني على سبيل المثل ، يمكن ان يهيء تشريعات خاصة بالتربية والتعليم تضمن اذا ما احسن تطبيقها اكتشاف الموهوبين والمبدعين وتطوير وصقل قابلياتهم ، ولكن هذا لوحده ليس كافياً اذ ينبغي ان يوضع الموهوب بعد اكتشافه في مكانه المناسب وهذا يعتمد على عوامل السياسة وهذه قد تستبعد غاية القانون لاسباب تتعلق بالمصالح السياسية .
فقد يؤدي الافراط في الاعتماد على فكرة مراعاة المصالح السياسية ، الى هدر المواهب وتدمير الاسس التي يقوم عليها المجتمع . وخير مثال على ذلك هو نظام المحاصصة السياسية المتبع في العراق حالياً ، حيث ستكون نتائجه ولا شك كارثية على البناء الثقافي والحضاري ، حيث يتم استبعاد اصحاب الكفاءات العلمية ليحل محلهم احد ممثلي الجهات السياسية ، ومنهم من لا يحمل شهادة علمية اصلاً او يحمل شهادة ولكن لا علاقة لها البتة بالاختصاص والمجال الذي عين فيه قائداً .
ان نظام مراعاة المصالح السياسية في الوظيفة العامة معروف في القوانين المعاصرة ويرد كاستثناء على مبدأ مساواة المواطنين امام الوظيفة العامة، ويعرف هذا الاستثناء باسم ( الاختيار المطلق للادارة ) وهو استثناء منضبط قانوناً لان القاعدة التي تحكم الاستثناء هي انه لا يجوز التوسع فيه .
وبموجبه يسمح للادارة استثناء بعض الافراد من شروط الوظيفة العامة ، وهو عادة شرط مدة الخدمة اللازمة لشغل المنصب ، بالنسبة للوظائف السيادية حصراً ومن ذلك استثناء حملة الشهادات العليا والمتفوقين الاوائل في الجامعات من بعض شروط الخدمة العامة وتعيينهم في وظائف قيادية تشجيعاً لهم للانخراط في سلك الخدمة العامة ، وكذلك تعيين ممثلي الجهات السياسية في مناصب وزارية وبموجب ضوابط منها ان يكون حاصلاً على شهادة علمية معترف بها واتاحة الطعن بتلك التعيينات امام القضاء من ذوي المصلحة ،والقضاء هو الذي يقرر فيما اذا كان المنصب سيادياً بالفعل يستوجب الاستثناء من شروط الخدمة العامة او ان يعتبر المنصب غير سيادي ولا يستوجب الاستثناء .
ويلاحظ ان قضاء مجلس الدولة الفرنسي يتسم بالمرونة ، فقد استقرت احكامه على اعتبار منصب العمدة ( المحافظ ) غير سيادي ويجب ان يتم وفقا للسياقات الادارية المعتمدة وهي الانتخاب لا التعيين ومن ثم قضى ببطلان التعينات في هذا المجال ، الا انه في في البعض الحالات قضى بصحة بعض التعيينات بناءاً على قناعته بالاسباب التي استندت اليها الادارة من ذلك حكمه بصحة تعيين الادارة لعمدة في احد الاقاليم لغرض تهدئة الاضطرابات والفوضى التي عمت ذلك الاقليم .
ان الانسان يرنو بطبعه الى التفوق والتقدم وهو اساس كل تطور وغايته النهائية ، والقانون الامثل هو الذي يتيح مجالا رحباً لاستثمار الطاقات الانسانية الخلاقة دون فسح المجال امام قوى مضادة للتطور تقوم على التعسف والمصالح السياسية الانانية التي لا غاية لها سوى تحقيق المكاسب الشخصية على حساب نهضة المجتمع وتقدمه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق