السبت، 22 فبراير 2014

القيم في الدين

 القيم في الدين :
يتساءل الباحثون في القيم عن أصل القيمة أو مصدرها : فهل هي نابعة من الدين ، أم من المجتمع ، أم من الكون اللاشخصي ، أم من الفرد ذاته . ومن الجلي أن كل إجابة عن هذا التساؤل تشكل نظرية ، بل طائفة من النظريات تلتقي حول أحد هذه المصادر ثم تفترق في تفاصيل صلة القيمة بينبوعها تبع المشاغل الفكرية الخاصة ، والقيم الجلية أو المضمرة التي يعتنقها صاحب النظرية .
وسنبدأ الآن بإلماعات وجيز إلى النهج الديني هذا المجال . فمن الجلي أن ينبوع القيمة في نظر المتدينين إلى أصل لا إنساني ، أي فوق الإنساني ، بل هو فوق الكوني . وهذا الأصل هو مصدر الوجود ومصدر التقويم معاً . إنه الأصل المطلق ، ويسمى الله في الديانات السماوية ، وله في غيرها أسماء كثيرة متباينة . ولكن من الجائز أن نلقي نظرة على القاسم المشترك في جميع الاعتقادات الدينية ، وهو يمثل معنى المطلق ، ويتميز بمفهوم عام هو المفهوم المقدس ، أو القيمة الأولى . مصدر سائر القيم الأخرى ، وهذه القيم جميعاً تتميز عن مصدرها الأسمى بصفة واحدة هي صفة العادي . (10)
إن المقدس في نظر رودولف أوتو خاصة تتكشف في الأديان كافة . ويمكن عزلها عن سواها وتسميتها عاطفة المقدس أو مقولة النومينو ، وهو اسم نحته هو من كلمة "نومنط للدلالة على أن هذه المقولة مقولة نوعية ينبغي أن تدل عليها كلمة خاصة ، وأنها مقولة تفسير وتقدير لا توجد إلا في المجال الديني ، وإنها مقولة معقدة تشير إلى العنصر الحي في كل حياة دينية ، وتعرب عن مشاعر الفزع أو الفتنة حيال موضوع الدين الذي يبعث الخوف والرجاء ، ويظهر في أشكال متعارضة قطباها الطاهر والدنس . وما "النومينو" أو المقدس بوجه الإجمال سوى الشعور بالسر ، الشعور بالفاتن ، الشعور بما هو مغاير إطلاقاً .
وقد اتفقت كلمة القائلين بالأصل الديني للقيمة على اعتبار أن الانسان يدرك المقدس باعتبار المقدس واقعاً موضوعياً ومتعالياً ، وذلك من خلال تجربة عقلية أو انفعالية ، شعرية أو رمزية ، كما يعتبر واقع المقدس على اعتبار أنه ، من جهة اخرى ، أمر محايث للإنسان . وهذا يعني أن بين الانسان وبين شئ آخر علاقة وثيقة ، وأن الانسان إذ يمتلك ذاك الشئ الآخر فإنه يحوّر بهذا الامتلاك حياته ذاتها . ولذا فإن كل معرفة للمقدس هي تجربة تتناول قدرة أعلى من نظام الأشياء الطبيعي . وهذه القدرة تحوّل كل ما تتجلى فيه : الإنسان ، الحيوان ، الطبيعة ، وتحدّد حيال ذاته مواقف إنسانية خاصة : حب ، خوف ، رغبة ، امتلاك. (11)
وبقول آخر : هناك فارق نوع ، لا فارق درجة ، بين المقدس وغير المقدس. ويؤكد دوركايم أن المقدس ليس اعلى من العادي ، بل إنهما متباينان . ويتميز تباينهما بأنه تباين مطلق . يقول :" لا يوجد في تاريخ الفكر الانساني أي مثل آخر على تباين مقولتين من المقولات يبلغ مثل هذا القدر من الاختلاف والتعارض الجذري . ذلك أن الخير والشر نوعان متضادان من جنس واحد ، أعني من الحادث الأخلاقي . اما المقدس والعادي فإنهما أشبه بجنسين منفصلين . وإن الانتقال من أحد هذين العالمين إلى العالم الآخر يوجب موت كائن وولادته من جديد . وتعتبر احتفالات الاطلاع أن في وسعها تحقيق هذا الموت ، وهذا البعث ، لا بالمعنى الرمزي ، بل بالمعنى الحرفي . وعلى هذ النحو تفسر النواهي التي تحول دون اختلاط هذين النوعين من المواضيع وتمنع تماسهما ، وترغم في جميع الأحوال على اتخاذ احتياطات خاصة عندما يستلزم الأمر إقامة علاقة بينهما . إن الأشياء المقدسة هي التي تحميها النواهي وتعزلها . والأشياء العادي هي التي تنطبق عليها هذه النواهي ، والتي ينبغي أن تبقى على مبعدة من الأولى .(12)
والدين ، وهو ذلك الجهد الذي له من العمر ما عاشته الانسانية نفسها . وهو الأفكار والمشاعر والآمال التي تستعر مشبوبة في صدر المؤمن لما تحمله من قيم تفوق القيم جميعاً . وتكم أهمية الدين في عمق الشعور بتلك القيم ، وشدة الاقتناع بها دون النظر إلى أساسها العقلي ، غير انها تشير على وجود واقعي غير ذلول ، وضرورة لا مفر من مواجهتها ، ويقف الاحساس بوجود تلك القيم على قدم المساواة مع احساس المؤمن بوجوده نفسه . فالدين هو الوعي بتلك القيم والغايات ، والسعي دوماً على تدعيمها ، والتوسع في نشر أثرها . (13)
وتتفق الأديان جميعاً ، بصرف النظر عن كونها منزلة أو غير منزلة ، صادرة عن وحي أو غير وحي ، مؤلهة أو وثنية على استنادها إلى موقف معين من القيم ، ولعلها هي نفسها موقف قيمي صريح ، لأن عقائدها لا تعني بتفسير الكون إلا بقدر ما تححدد ما ينبغي للإنسان أن يقوم به إزاء الكون . وتعتمد نظرة الأديان الكونية على تعيين مراتب الأشياء والأفعال ومنازلها ، فثمة ما هو أسمى وما هو أدنى ، ومتى عرف ذلك التدرج في المنزلة ، كان التزام المؤمن إزاءها بمواقف محددة قد يكون منها الطقوس والشعائر ، كما يكون منها الصلات والمعاملات . ويسلم هذا التدرج القيمي إلى قيمة عليا تكون منبع القيم جميعاً ومصدر الالزام والسلطة ، وأصل الوحدة في كل التجليات الكونية . وعلى هذا يكون الخلاص أو الفوز في الدنيا والآخرة محسوباً بمدى الامتثال للقيم الدينية والأخذ بما تأمر بها واجتناب ما تنهى عنه . (14)
ولأن الدين موقف قيمي موحد لا يجتزئ من الانسان جانباً دون آخر ، بل يصون توازن حياته ، فكان لابد أن يؤدي ترجيح قيمة على أخرى في الأديان ، وتغليب جانباً على آخر في الانسان أن يعاد توازن حياته عن طريق ما يفعم به الدين وجدان المؤمن من سلوى وعزاء ، وما يترقبه من مثوبة وجزاء ، تعضوه جميعاً عما افتقده في إقباله على بعض القيم والانصراف عن غيرها .
وقد دفع الطابع السائد لعصرنا بالبعض إلى تصوير الدين تصويراً ينعزل به عن القداسة ، فأصبح الدين بلا إله أو كائن مقدس ، على حد تعبير آينشتين ، لأنه لا يصل محتواه الوجداني بإله شخصي .
فإذا كان الدين عند آينشتين هو الذي يرسم الغاية فإن العلم هو الذي يزودنا بمعرفة الوسيلة التي تساهم في بلوغ تلك الغاية . على أن العلم لا ينشأ أو يخلق إلا على يد هؤلاء الذين ملئا طموحاً إلى الحق والفهم ، ولا تفيض تلك المشاعر إلا عن نبع مجال الدين . وينتسب أيضاً على هذا المجال الإيمان بأن يكون الانتظام الساري في العالم قابلاً بأن يدركه العقل ويستوعبه . (15)
ولا يتصور آينشتين أن هناك رجل علم أصيل لا يصدر في بحثه عن ذلك الإيمان العميق . والدين عنده هو الذي يعالج تقويم الفكر ، والفعل الانساني ، وليس له أن يتناول الوقائع والعلاقات بينهما فهذا من شأن العلم . ولذلك يرد النزاع القديم بين الدين والعلم إلى سوء تقدير للصلة بينهما ، فضلاً عن الاعتقاد بوجود إله شخصي يدخل في سير الوقائع . وعلى العلم وحده أن يقيم القواعد العامة التي تحدد الصلة المتبادلة بين الأشياء والحوادث في الزمان والمكان ، وبالتالي فلا موضع لإله يفرض نفسه علة مستقلة عن حوادث الطبيعة . وحسب الدين الطموح إلى ما ينبغي أن يكون ، ومع ذلك فإن العلم يصبح معقداً من غير دين ، ويغدو الدين أعمى بدون علم . (16)
كذلك " جون ديوي " يرجع الدين إلى الطبيعة مصدراً للمثل العليا والأمل فيها ، وملاذاً أخيراً لكل ما نؤثره بالخير والتفضيل . ولا يقبل ديوي فكرة الله مفارق للعالم ، ولكنه يعده وحدة لجميع الغايات المثالية التي تثير فينا الرغبة والعمل . فالله إذن هو المثل العليا للتجارب الإنسانية والمستمدة منها ، لذلك كانت التجربة الدينية لدى ديوي حقيقة واقعية تعيد للنفس الأمن والسلام ، وتحثها على العمل     والنشاط ، وليست عناصرها دخيلة على الثقافة الانسانية ، بل هي حادث طبيعي لا غرابة فيه يقع عند بعض الناس في أوقات منتظمة معينة كجزء من تيار التجربة المتصل . (17)
ويقول مرسيا إلياد :" إن إنسان المجتمعات الغابرة كان ينزع إلى أن يحيا أكثر ما يحيا في المقدس ، يحيا على صلة صميمية بالأشياء التي أضفى عليها القداسة " . ومن الممكن أن تكتسي الحياة بأسرها حلة المقدس وتعاش عندئذ على صعيد مزدوج :" إنها تجري من حيث إنها وجود إنساني ، ومن حيث أنها في الوقت ذاته تسهم في حياة تعلو على الانسان ، حياة الكون أو الآلهة . إن الانسان الديني يؤمن على الدوام بأن ثمة واقعاً غامضاً هو المقدس ، وهو يتعالى على الحياة الدنيا ولكنه يتجلى فيها . وهذه العلاقة هي ينبوع تصور الحقيقة ومصدر القيم التي يترتب على الانسان المؤمن أن يتقيد بها في سائر ظروف وجوده وسلوكه " . (18)
وما يعنينا في هذا كله هو الإقرار بالدين منظومة محددة من القيم ، سواء عند من يسلم بوجود إله شامل القدرة والعلم ، أو عند من يرفضه علة أولى في تسيير العالم . (19)
والمقدس أو ينبوع القيم في الديانة اليهودية هو (يهوه) . وقد كان قدامى اليهود يمتنعون عن ذكر هذا اللفظ ويستعيضون عنه بلفظ (أدوناي) أو الرب . والرب إله واحد خالق الأشياء كلها . وهو بسيط ولا يتجزأ . إنه كائن خالد غير عادي . وهو وحده سرمدي لا أزل له ولا أبد . وتنبغي عبادته وحده دون سواه . وقد أرسل أنبياء صادقين أعظمهم هو "موسى" . وقد أعلى (يهوه) شريعة موسى كلها ، وهي شريعة تامة ، ومن المحظور إضافة شئ إليها ، أو سلخ أي شئ عنها . وإن الرب يعرف أفكارنا كلها ، وأعمالنا كلها ، وهو يكافؤ الذين يطيعون الشريعة ، ويعاقب المخالفين . وسيظهر مسيح عندما يرى الرب أن ذلك نافع ، وهو سيبعث الأموات حين يرى أن الوقت موائماً . (20)
أما المسيحية فإنها تقوم بجوهرها على الإيمان بأبوة الإله وأخوة البشر ، وترى أن الله واحد في ثلاثة أقانيم ، هي الآب والابن وروح القدس . وقد جائ يسوع ببشارة الخلاص في ملكوت الله . ووجد ان كل شئ يفسر بمشيئة الله ، وبالاعداد لنهاية العلم ، وملكوت السماوات . الله صنع العالم وهو الذي يوجب على الانسان كل ما ينبغي أن يفعله : وأن على البشر ألا يهتموا لحياتهم بما يأكلون ويشربون .
إن الله هو منطلق القيم . وعلى الانسان أن ينجز من أعماق قلبه ما يراه مشيئة الله . فقد نقش الله قانونه في قلب الانسان . وعلى الناس أن يعيشوا عيش مواطنين في ملكوت الله . ومن يحب الله يحب قريبه . وإن الحياة الأرضية تحقق ملأها بالحب . والحب إشارة الملكوت الإلهي . (21)
وقد توسع الباحثين المسيحيين في إبراز هذه المحبة المسيحية ، وحاول بعضهم بناء نظرية في القيم الدينية على هذا الأساس من المحبة . معارضاً بها آراء علما الاجتماع أمثال إميل دوركايم .
إن القيم الدينية حينما تتجسد ، وعلى قدر تجسدها ، تتيح للإنسان أن يحيا بوصفه حيوانا سياسياً أي اجتماعياً . أما المجتمع اللاديني حقاً والمنظم على مستوى العقل ، بحسب الطريقة الديكارتية ، فهو مجتمع يمتنع تصوره ، وهو آيل إلى الإجهاض . ذلك أن وظيفة القيم الدينية المتجسدة هي إقامة صلة لا تنفصم بين بالانسان والله والمجتمع .
ولا مندوحة من محبة القيم الدينية المرئية والمتجسدة من أجل نهوض الانسان بالعمل الأخلاقي والاجتماعي ، وبدون القيم الدينية المتجسدة يزداد انحراف الحياة الانفعالية الانسانية شطر التجريد والاثرة أو إرادة السيطرة الجاثمة وراءها ، شطر الأزمة المستمرة وإبادة البشرية . (22)
ومثلما أنجبت اليهودية والمسيحية مفكرين أقاموا صروح مذاهبهم على أساس الدفاع عن عقيدتهم واعتبارها وحدها صحيحة صادقة ، وعنها تصدر القيم جميعاً لأنها ذاتها صادرة عن المطلق الأوحد ، عن الله ، كذلك نجد المفكرين المسلمين يأخذون بترتيب الأدلة والحجج لتحصيل ملكة الجودة والصواب في البراهين غرضهم الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين.
إن الدين في نظر المؤمنين هو ينبوع معرفة قيمية ، ونشاط قيمي ، يتفردان بصفة المطلق . وهو في الاصطلاح عن أبي البقاء ، وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيار المحمود إلى الخير بالذات قلبياً كان أو قالبياً . ويعرفه التهانوي بأنه وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إياه إلى الصلاح في الحال ، والفلاح في المال . (23)
فإذا نظرنا من الزاوية القيمية إلى هذين التعريفين وجدنا أن الدين وضعاً صادراً عن الإله ، عن المطلق ، ومتجهاً إلى ذوي العقول ، أي الى البشر المتميزين بالعقل ، ليمتحوا من معرفته اختياراً عقلانياً محموداً يقود إلى قيمة عليا هي الخير بالذات ، وهذا الخير يكون قلبياً ، أي تصوراً واعتقاداً ، أو قالبياً ، أي تجسد قيمياً في السلوك ، ولهاذ النشاط الشامل نتيجة مرموقة هي الصلاح في الدنيا ، والفلاح في الآخرة .
والحق أن فهم التدين على هذا النحو يكاد أن يكون مشتركاً لدى الباحثين المسلمين كافة . فهو يبدأ بالتمهل أما دور العقل في قيمة العلم والمعرفة . ثم ينتقل من هذا الايضاح التمهيدي إلى دراسة المطلق الإلهي من حيث علاقته بالنسبي ، أو البشر ، ويلحف على إمكانات يفضل بعضها بعضاً ، ويخلص الباحثون إلى تبيان القيم السلوكية باعتماد هذا الاختيار المحمود للوصول إلى الخير بالذات ، الخير المطلق ، وبلوغ الصلاح في الحال ، والفلاح في المآل .





(8) جميل صليبا ، المرجع السابق ، ص 213 .
(9)  نفس المرجع ، ص 214 .
(10)  عادل العوا ، العمدة في فلسفة القيم ، دار طلاس للدراسات والنشر ، دمشق ، الطبعة الأولى 1986 ، ص 530
(11) المرجع السابق ، ص 531 .
(12) نفس المرجع ص 532 .
(13)  صلاح قنصوة ، نظرية القيمة في الفكر المعاصر ، دار الثقافة للنشر ، القاهرة 1986 ، ص 236 .
(14)  نفس المرجع ، ص 237 .
(15)  نفس المرجع ص 237 .
(16)  نفس المرجع والصفحة
(17)  نفس المرجع ، ص 238 .
(18)  عادل العوا ، مرجع سابق ، ص 536 .
(19)  صلاح قنصوة ، مرجع سابق ، ص 238 .
(20) عادل العوا ، مرجع سابق ، ص 537 .
(21)  نفس المرجع ، ص 539 .
(22)  نفس المرجع ، ص 540
(23)  نفس المرجع ، ص 543 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق