السبت، 22 فبراير 2014

سيرة الأئمة أئمة المغرب الأوائل


سيرة الأئمة أئمة المغرب الأوائل
علماء المغرب الاوائل 





أئمة المغرب الأوائل
إن تاريخ المغرب وبالأخص تاريخ الإباضية هناك تاريخ مشوق وجدير بالبحث والدراسة والاعتناء من قبل الباحثين ، وذلك لأن الكثير من تاريخ الإباضية لم يتعرض للبحث فهو كالمادة الخام التي تنتظر من يزيل عنها غبار الزمن ، وكذلك لأنه تاريخ مشرف سطر فيه الإباضية أئمة وعلماء ما عجز عنه الآخرون ، والتاريخ شاهد على ذلك ، وهناك أسباب أخرى عديدة لا نود إطالة الحديث عنها في هذه العجالة .
قد يتساءل الواحد منا عن أوائل الأئمة الإباضية بالمغرب ، ومن هو أول إمام بويع هناك ؟ وكيف تمت مبايعته ؟ ومن جاء بعده ؟ وأين تلقى العلم ؟ وكيف كانت الدولة في عهده ؟ وأسئلة من هذا القبيل .
وهذا ما سنعرفه من خلال هذا البحث المتواضع .
قد يتبادر إلى الذهن أن أول من بويع بالإمامة في المغرب هو الإمام أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري رضي الله عنه في عام 140هـ .
(1/1)
ولكن الحقيقة بخلاف ذلك فهناك أئمة إباضية سبقوا هذا الإمام ، والذي ذكرته المصادر التي توفرت بين يدي أنه كان مسبوقا بإمامين وكانت لهم مآثر سجلها التاريخ لنا ، ثم بعدهما بويع أبو الخطاب .
والإمامان اللذان سبقا الإمام أبا الخطاب هما : الإمام الحارث بن تليد الحضرمي ، وبعده الإمام أبو الزاجر إسماعيل بن زياد التفوسي .
وقبل هذين الإمامين قام الإباضية بتعيين شخص يدعى عبد الله بن مسعود التجيبي رئيسا عليهم ولم يكن إماما ولكنه كان يتولى القيام بالمهام التي يقوم بها الإمام في العادة .
1- الإمام الحارث بن تليد الحضرمي ( 131- 140هـ ) :
ذكرت بعض المصادر وجود أئمة في المغرب سبقوا الإمام أبا الخطاب ، ومنهم الحارث بن تليد الحضرمي ، الذي بويع بالإمامة في المغرب قبل الإمام أبي الخطاب في الفترة بين عامي ( 131 و 140هـ ) ، واختار عبد الجبار بن قيس المرادي قاضيا ومستشارا له ، وقد درسا على يد الإمام أبي عبيدة في البصرة ، وشاركا في ثورة أبي حمزة الشاري ، الذي أرسله الإمام طالب الحق إلى مكة والمدينة ، وكانت الثورة في عام 129هـ ، وانتهت في عام 130 هـ ، ثم بعد ذلك اتجها إلى المغرب الأدنى ، ولعل ذلك بإشارة من الإمام أبي عبيدة ، وبايعه الإباضية في المغرب بعد مقتل رئيسهم عبد الله بن مسعود التجيبي (1) ، وقد اختلف في إمامته فقيل إمامة دفاع (2) ، وقيل أنها كانت إمامة ظهور (3) .
__________
(1) - بحاز وآخرون ، معجم أعلام الإباضية ، ج2 ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت ، لبنان ، ط2 : 1421هـ / 2000م ، ص119 ، رقم الترجمة 253 ـ محمد علي دبوز ، تاريخ المغرب الكبير ، ج3 ، دار إحياء الكتب العربية ، ط1: 1383هـ / 1963م .، ص411.
(2) - عوض محمد خليفات ، نشأة الحركة الإباضية ، مطابع دار الشعب ، عمان ، الأردن ، 1978م ، ص 139 .
(3) - معجم أعلام الإباضية ، 2/119 ، رقم الترجمة 253 .
(1/2)
والسبب الذي دفع الإباضية إلى مبايعة الحارث ليكون إمام دفاع هو قتل رئيسهم عبد الله بن مسعود التجيبي في عام 126هـ وقيل 127 هـ ، على يد الياس بن حبيب والي طرابلس لأخيه عبد الرحمن بن حبيب الذي انتزع ولاية أفريقية من حنظلة بن صفوان الوالي الأموي (1) .
ولم تذكر المصادر السبب الذي دفع الياس بن حبيب لقتل عبد الله بن مسعود التجيبي ، ومن المحتمل أن التجيبي قام بنشاط كبير أدى إلى تهديد حكم الأسرة الفهرية في أفريقية ، فتخلصوا منه قبل أن ينظم الإباضية في ثورة مسلحة ضدهم (2) .
وسبب اختيار الإباضية لعبد الله بن مسعود التجيبي رئيسا لهم حتى أنه تلقب بلقب الرئيس هو خوف الإباضية من انتشار المذهب الصفري في المغرب على حساب المذهب الإباضي ، وذلك لحركة الصفرية النشطة في المغرب حتى أنهم قاموا بثورة بين عامي ( 122 و 125هـ ) ، وبالتالي سيخسر الإباضية تحقيق حلمهم في إقامة دولة للإباضية هناك ، فكانت هذه نقطة تحول في تاريخ الدعوة الإباضية في شمال أفريقيا فكثفوا جهودهم الدعوية ، وزادوا عدد الدعاة الذين أصبحوا يجوبون المناطق المغربية ، وأمروا عليهم شخصا منهم عارفا بالمذهب مخلصا له ومتحمسا في سبيل نشره وهو عبد الله بن مسعود التجيبي إلا أنهم لم يبايعوه كإمام عليهم ولكن اكتفوا بلقب الرئيس ، وهذا دليل على أن إمامة الظهور لم يحن وقتها بعد (3) .
وعبد الله بن مسعود التجيبي تذكر بعض المصادر أنه أخذ العلم عن الإمام جابر بن زيد ، وقيل بل عن تلميذه الإمام أبي عبيدة ، وكذلك أخذ العلم عن داعية المغرب سلمة بن سعد في أوائل القرن الثاني الهجري (4) .
__________
(1) - نشأة الحركة الإباضية ، ص138- معجم أعلام الإباضية ، 2/119 ، 243، 277 .
(2) - تاريخ المغرب الكبير ، 3/411 ـ نشأة الحركة الإباضية ، ص139.
(3) - نشأة الحركة الإباضية ، ص138 .
(4) - معجم أعلام الإباضية ، 2/277 ، رقم الترجمة : 600 .
(1/3)
وكان لقتل رئيس الإباضية أثرا كبيرا عليهم ، فكان هذا الحدث محركا قويا لهم دفعهم للثورة العلنية ضد الحكم القائم المتمثل بالأسرة الفهرية التي يتزعمها عبد الرحمن بن حبيب ، وقد حاول عبد الرحمن هذا أن يخفف وقع المصاب وأعلن غضبه وعدم رضاه عن عمل أخيه في قتل التجيبي ، فعزله وولى مكانه حميد بن عبد الله العكي ، ولكن ذلك لم يجد نفعا عند الإباضية وذلك لغضبهم الشديد لقتل رئيسهم فثاروا بقيادة الحارث بن تليد الحضرمي ونصبوه إمام دفاع عليهم (1) .
وقد حاول عبد الرحمن بن حبيب القضاء على هذه الثورة بكل الوسائل المتاحة سواء كانت سلمية أم حربية إلا أنها لم تجد نفعا ، واستطاع الإباضية السيطرة على طرابلس والمنطقة الواقعة بين طرابلس وقابس وسرت ، مما اضطر عبد الرحمن بن حبيب للخروج بنفسه للقضاء عليهم وتمكن من هزيمتهم والقضاء عليهم (2).
وتختلف المصادر المتوافرة حول مصير الحارث وعبد الجبار اللذين تزعما الحركة الإباضية في هذه الفترة ، فالمصادر السنية تذكر بأنهما قتلا أثناء المعارك التي جرت بين الإباضية وبين ابن حبيب (3) ، أما المصادر الإباضية فتذكر أن الرجلين وجدا مقتولين وسيف كل واحد منهما مغمد في جثة صاحبه (4) .
__________
(1) - نشأة الحركة الإباضية ، ص 139 ـ بالحاج بن عدون قشار ، اللمعة المضيئة في تاريخ الإباضية ، مكتبة الضامري ، السيب ، سلطنة عمان ، ط2 : 1411هـ / 1990م ، ص20 .
(2) - نشأة الحركة الإباضية ، ص140 .
(3) - نشأة الحركة الإباضية ، ص141 .
(4) - أحمد بن سعيد الدرجيني ، كتاب طبقات المشائخ بالمغرب ، ت : إبراهيم طلاي ، ج1 ، ص24 ـ أحمد بن سعيد بن عبد الواحد الشماخي ، كتاب السير ، ت : أحمد بن سعود السيابي ، ج1 ، وزارة التراث القومي والثقافة ، مسقط ، سلطنة عمان ، 1407هـ / 1987م ، ص114 ـ تاريخ المغرب الكبير ، 3/413 - معجم أعلام الإباضية ، 2/119 ، 243 .
(1/4)
والحقيقة أن المصادر الحديثة على العكس من القديمة فصلت الحديث في قضية الحارث وعبد الجبار، ومن هذه المصادر الحديثه تاريخ المغرب الكبير لمحمد على دبوز ، ومعجم اعلام الإباضية ، ونشأة الحركة الإباضية للدكتور عوض خليفات .
فنجد الدكتور عوض خليفات يفصل الحديث في قضية الحارث وعبد الجبار تفصيلا لا نجده عند غيره من الباحثين ، واعتمد فيما ذكره على ما نقله من كتب أهل السنة من أمثال كتاب العبر لابن خلدون ، وكتاب الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى للسلاوي وغيرهما ، وأما المصادر الإباضية التي اعتمد عليها في موضوع الحارث وعبد الجبار منها الجواهر المنتقاه للبرادي ، و السير للشماخي ، والسير وأخبار الأمة لأبي زكريا وغيرها .
ولا ننكر أن بعض المصادر الإباضية الحديثة فصلت الحديث نوعا ما في مسألة الحارث وعبد الجبار ومن هذه المصادر تاريخ المغرب الكبير لمحمد علي دبوز ، ومعجم أعلام الإباضية ؛ أما المصادر الإباضية القديمة كالطبقات للدرجيني والسير للشماخي لما تناولت موضوع الحارث وعبد الجبار لم تذكر هذا التفصيل الذي ذكره د/ عوض خليفات ، وإنما مرت عليهما مرورا سريعا وفصلت الحديث في قضية قتلهما وما نتج بعد ذلك من الخلاف عند علماء الإباضية هل هما في الولاية أم البراءة أم الوقوف ؟
(1/5)
فنجد الدرجيني وهو متقدم على الشماخي يقول : " الحارث وعبد الجبار كانا رجلين موصوفين بالصلاح ، وهما من أهل الولاية ، فوجدا في موضع واحد مقتولين وسيف كل واحد منهما في جثة الآخر ، فوقع الاختلاف فيهما فقائل يقول أن كل منهما قتل الآخر فينبغي أن نبرأ منهما فهذا أرذل الأقوال ، وقائل بأن كل واحد منهما قتل الآخر إلا أنا لا ندري الباغي منهما فنبرأ منه ولا المبغي عليه فنتولاه فلا يسعنا إلا الوقوف عن ولايتهما والبراءة منهما هذا قول أصحاب عبد الله بن يزيد ، فقائل أنهما باقيان على ما كانا يستحقانه من الولاية لأن صلاحيتهما متيقنة وقتل أحدهما الآخر مشكوك فيه فلا نتوقف عن ولايتهما .... وهذا قول أصحابنا " إهـ (1) .
وذكر بعد ذلك أنه لا يبعد أن يكون عبد الرحمن دبر هذه المكيدة وقام بقتلهما وجعل سيف كل واحد منهما في صاحبه لينشر الخلاف والفرقة في صفوف الإباضية ، وهذا ما ذكره كذلك الباحث محمد علي دبوز ، والدكتور عوض خليفات وغيرهما من الباحثين (2) .
__________
(1) - الطبقات ، 1/24 .
(2) - تاريخ المغرب الكبير ، 3/413 - نشأة الحركة الإباضية ، ص141 ـ معجم أعلام الإباضية ، 2/119 ، 243، ترجمة رقم : 253 ، وترجمة رقم : 536 ـ اللمعة المضيئة ، ص20 .
(1/6)
فلم يزد الدرجيني على ذلك ، ولم يذكر أن الإباضية بايعوا الحارث بالإمامة ، ولم يذكر ثورة الحارث وقتاله لعبد الرحمن حتى أنه لم يذكر عبد الرحمن هذا ، وإنما كنا عنه وعن من معه بالبغاة ، ولم يذكر قبله أن الإباضية انتخبوا رئيسا لهم ولقبوه بالرئيس وهو عبد الله بن مسعود التجيبي ، إلا أننا نجد تلميح بسيط في الطبقات بكونهما أي الحارث وعبد الجبار من أئمة المسلمين ، فنجد الدرجيني يذكر أن موضوع الحارث وعبد الجبار فتح من جديد في الفترة من عام ( 400 و 450هـ ) ، فنجده يقول : " .... ثم كان بعد ذلك بأيام مجلس آخر حضره جل العزابة المشائخ فيهم أبو عمران فسألهم أبو عمران ما تقولون فيمن وقف لكم في أئمة المسلمين - يقصد الحارث وعبد الجبار - ؟ فأداروا السؤال بينهم حتى انتهى إلى المدوني ، فقال : من وقف فيهم دون أن تقوم عليه الحجة فلا شيء عليه .... " إهـ (1) ، فمن كلمة " أئمة المسلمين " والتي يقصد بها الحارث وعبد الجبار يمكن أن نستشف أن الحارث كان إماما مبايعا من قبل الإباضية .
والحقيقة أن الشماخي في سيره صرح بذلك ، وذكر أن الحارث وعبد الجبار كان أحدهما إماما والآخر قاضيا له ، إلا أنه لم يوضح أيهما الإمام وأيهما القاضي ، وذكر أنهما قاما بناحية طرابلس على عامل مروان بن محمد ، فلم يذكر أنهما قاما على عبد الرحمن بن حبيب ودولته الفهرية التي قضت على عامل الدولة الأموية حنظلة بن صفوان ، ثم بعد ذلك ذكر أنهما وجدا مقتولين وسيف كل واحد في الآخر دون أن يبين أحداث أخرى تتعلق بهما (2) .
__________
(1) - الطبقات ، 2/391 .
(2) - السير ، 1/ 114 .
(1/7)
إلا أن هناك من الباحثين المعاصرين من الإباضية من ذكر بعض التفصيل زيادة عما جاء في السير كالشيخ سالم بن حمد الحارثي في العقود الفضية ، والباحث محمد علي دبوز في كتابه تاريخ المغرب الكبير ، وأصحاب معجم أعلام الإباضية ؛ فنجد الشيخ سالم الحارثي ذكر أن أول إمامة قامت للإباضية في المغرب في طرابلس سنة 131هـ هي إمامة الحارث وعبد الجبار ، إلا أنه لم بين أيهما الإمام وأيهما القاضي ، ولا كيف تمت البيعة ، وإنما اكتفى بذكر قيامهما على عامل مروان بن محمد ، والذي زاده على ما في السير هو ذكره لعبد الرحمن بن حبيب فيقول : " ... ووجدا - الحارث وعبد الجبار - قتيلين بعد معارك دارت بينهم وبين عبد الرحمن بن حبيب إذ جاءهم بجيش من المغرب والبربر " إهـ (1) .
ولكنه لم يذكر المصادر والمراجع التي استقى منها معلموماته التي ذكرها في كتابه العقود الفضية ، إلا أنها لا تخرج عن المصادر المتداولة كالطبقات والسير والأزهار الرياضية وأمثالها .
ونجد الباحث محمد علي دبوز ، و أصحاب معجم أعلام الإباضية يذكرون بعض التفصيل في سيرة الحارث وعبد الجبار وأتوا ببعض ما جاء به د/ عوض خليفات كما بينا أعلاه لما فصلنا الحديث عن الحارث وعبد الجبار ، ولمزيد من التوسع انظر تاريخ المغرب الكبير ص411 ، و معجم أعلام الإباضية 2/119 ، 243، ترجمة رقم : 253 ، وترجمة رقم : 536 .
وقد اختلفت المصادر هل كان الحارث إمام أحكام وعبد الجبار قاضيه ؟ أم أنهما اشتركا في الحكم ؟ أم أن الحارث هو القاضي والإمامة كانت لعبد الجبار ، واتفقت على أن الإمامة كانت بينهما على حيز طرابلس المغرب (2) .
__________
(1) - سالم بن حمد بن سليمان الحارثي ، العقود الفضية في أصول الإباضية ، ص237 .
(2) - معجم أعلام الإباضية ، 2/119، ترجمة رقم : 253 .
(1/8)
إلا أننا نجد بعض المصادر ترجح كون الحارث إمام الحرب وعبد الجبار إمام الصلاة ، وهذا يعزز القول بأن الحارث كان إمام دفاع وعبد الجبار قاضيا له ، هذا ما رجحه الشيخ علي يحيى معمر في كتابه الإباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الثانية ص45 ، وكذلك هذا الذي رجحه الباحث محمد علي دبوز (1) .
إذا فالذي يظهر مما سبق من كلام الشيخ الشماخي والشيخ الحارثي والشيخ علي يحيى معمر والباحث محمد علي دبوز وأصحاب معجم الإباضية أن الحارث كان إماما للإباضية سواء كانت إمامة دفاع أم ظهور ، وأن إمامته كانت أول إمامة للإباضية في المغرب والله أعلم .
2- الأمام إسماعيل بن زياد النفوسي ( 131 - 140هـ ) :
__________
(1) - نشأة الحركة الإباضية ، هامش ص139 ـ تاريخ المغرب الكبير ، 3/411 .
(1/9)
بعد موت الحارث وعبد الجبار ، قام الإباضية بمبايعة إمام آخر بيعة دفاع ، وهو الإمام أبو الزاجر إسماعيل بن زياد النفوسي (1) ، وكانت بيعته في سنة 131هـ أو 132هـ كما جاء في معجم أعلام الإباضية ، وهناك بعض المصادر ذكرت أن بيعت هذا الإمام كانت سنة 132هـ (2) ؛ إلا أن هذا التاريخ غير دقيق ، وذلك أن الحارث الإمام السابق للإمام إسماعيل شارك في ثورة أبي حمزة الشاري والتي انتهت في سنة 130هـ ، فانتقل الحارث مع عبد الجبار إلى المغرب والطريق إلى المغرب يحتاج إلى فترة زمنية طويلة بوسائل النقل السابقة الخيل أو الجمال أو الحمير أو حتى عن طريق البحر، ولنقل على أقل تقدير سنة ، إذا سيكون وصولهما إلى المغرب في سنة 131هـ ، تنظيم الإباضية وتجميع القوة وإقامة الإمامة يحتاج إلى مدة من الزمن ، ثم بعد ذلك قتالهم لعبد الرحمن بن حبيب الفهري ظل مدة من الزمن ، وبعد موت الحارث وعبدالجبار يحتاج الإباضية وقتا لتنظيم صفوفهم ، فليس من المعقول أن تكون سنة مبايعة إسماعيل بن زياد 131هـ أو 132هـ ، فلعلها متأخرة عن ذلك ولكن قبل سنة 140هـ ، وهي السنة التي قتل فيها الإمام إسماعيل بن زياد ، والله أعلم .
__________
(1) - معجم أعلام الإباضية ، 2/56 ، رقم الترجمة : 108ـ تاريخ المغرب الكبير ، 3/414 .
(2) - تاريخ المغرب الكبير ، 3/414 ـ نشأة الحركة الإباضية ، ص142 .
(1/10)
وقد عظم شأن هذا الإمام وكثر أتباعه ، فنجح في دخول مدينة قابس بتونس ، وبعد جولات من القتال مع عبد الرحمن الفهري تمكن هذا الأخير من قتل إسماعيل بن زياد في معركة قرب قابس وذلك سنة 140هـ (1) ؛ وقد ذكر الباحث عوض خليفات أن هذه المعركة كانت في سنة 132هـ ، وقتل فيها الإمام إسماعيل النفوسي ، ثم ذكر أن الإباضية ظلوا في حالت كتمان بعد هذه الهزيمة إلى أن بزغ فجر إمام جديد من أئمة أهل الحق والإستقامة في سنة 140هـ (2) .
3ـ الإمام أبو الخطاب المعافري ( 140 - 144هـ ) :
هو الإمام أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري ، أصله من اليمن ، وكان من ضمن حملة العلم الخمسة إلى المغرب الذين تلقوا العلم في البصرة على يد الإمام الجليل أبي عبيده مسلم بن أبي كريمة رحمه الله (3) .
والإمام أبو عبيده كما هو معلوم أخذ العلم عن الإمام جابر بن زيد رضي الله عنه الذي بدوره أدرك الصحابة وأخذ عنهم كابن عباس وعائشة أم المؤمنين وابن عمر وابن مسعود وأنس بن مالك وغيرهم كثير رحمهم الله تعالى ، وقد كان الإمام جابر من خاصة طلاب عبدالله بن العباس رضي الله عنهما ، وقد شهد له بالعلم كما هو معلوم (4) .
وأرى أنه من الضروري الترجمة باختصارللإمام أبي عبيدة رحمه الله تعالى حتى نعلم أن ما صنعه من إنجازات عظيمة لم تأت من فراغ ، وسأكتفي بما ذكره شيخنا العلامة القنوبي حفظه الله في ترجمته للإمام أبي عبيدة .
- ترجمة الإمام أبي عبيدة :
اسمه :
__________
(1) - معجم أعلام الإباضية ، 2/56 ، رقم الترجمة : 108 .
(2) - نشأة الحركة الإباضية ، ص142 .
(3) - محمد صالح ناصر ، منهج الدعوة عند الإباضية ، مكتبة الاستقامة ، مسقط ، سلطنة عمان ، 1418هـ / 1997م ، ص149 .
(4) - نشأة الحركة الإباضية ، ص87 .
(1/11)
هو الإمام الكبير المحدث الحافظ الثقة الثبت الزاهد المجاهد أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي - بالولاء - كان مولى لعروة بن أدية التميمي ، وقيل إن اسم أبيه كورين ، وكني بابنته عبيدة ، التي كانت لها أخبار وآثار تتعلق بالنساء ترويها عن أبيها رحمه الله تعالى (1) ؛ وقد اختلف في أصله فقيل : حبشي ، وقيل : فارسي ، وقيل : كردي ، ذكر ذلك شيخنا علامة العصر ومفخرته الحافظ المحقق أحمد بن حمد الخليلي ـ حفظه الله ـ في رسالة له حول المسند أشار أيها الشيخ القنوبي (2) .
مولده :
وقد ولد الإمام أبو عبيدة في البصرة سنة 45هـ أو بعدها بقليل ، وعاش في البصرة في كنف شيخه ومولاه عروة بن أدية رحمه الله تعالى فورث عنه شجاعته وزهده وتقواه ، ثم انتقل إلى الإمام جابر بن زيد رحمه الله تعالى فأخذ عنه الحديث والفقه والسياسة ، ثم خلفه بعد وفاته في رئاسة المذهب ، فدرس الطلبة وأرسلهم إلى البلدان الشاسعة لتعليم أهلها ولإقامة العدل فيها متى أمكن ذلك ، وناظر المخالفين فأقام عليهم الحجة ،
وأوضح لهم المحجة ، فجزاه الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء (3) .
شيوخه :
__________
(1) - سعيد بن مبروك القنوبي ، الإمام الربيع بن حبيب مكانته ومسنده ، مكتبة الضامري ، السيب ، سلطنة عمان ، ط1 : 1416هـ/ 1995م ، ص26 .
(2) - المصدر السابق ، ص26 .
(3) - المصدر السابق ، ص26 ، 27 .
(1/12)
أخذ العلم عن جماعة من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يدل على ذلك ما رواه الإمام الربيع - رحمه الله تعالى - عنه أنه قال : سمعت ناسا من الصحابة يقولون : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من حكم بين اثنين فكأنما ذبح نفسه بغير سكين )) (1) ، وأخذ العلم كذلك عن جماعة من التابعين كجابر بن زيد ، والحسن البصري ، وابن سيرين ، ومجاهد ، وضمام بن السائب ، وأبي نوح الدهان ، وجعفر بن السماك ، وصحار العبدي الذي عده غير واحد من العلماء من الصحابة كابن سعد في الطبقات وابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة كما ذكر الشيخ القنوبي حفظه الله (2) .
تلامذته :
وأخذ عنه العلم خلق كثير لا يحصى عددهم ، منهم : الربيع بن حبيب ، وسلمه بن سعد ، وعبد الله بن يحيى الكندي ، وأبو أيوب وائل الحضرمي ، وأبو المهاجر الحضرمي ، وأبره بن الصباح الحميري ، وأبو سفيان محبوب بن الرحيل ، وخلف بن زياد البحراني ، وغيرهم كثير (3) .
عدالته وثناء العلماء عليه :
__________
(1) - الربيع بن حبيب الأزدي ، الجامع الصحيح ، مكتبة مسقط ، مسقط ، سلطنة عمان ، ط1 : 1415هـ/ 1994م ، 2/157 ، حديث رقم 590 .
(2) - الإمام الربيع مكانته ومسنده ، ص27 ، 28 .
(3) - المصدر السابق ، ص29 .
(1/13)
وقد وثقه جمع من العلماء ذكر منهم شيخنا القنوبي : الدرجيني صاحب الطبقات ، والبدر الشماخي صاحب السير ، وقطب الأئمة ، وهؤلاء من الأصحاب ، وذكر من المخالفين يحيى بن معين إمام الجرح والتعديل ، فقد سأله أحمد بن حنبل عن أبي عبيدة .... قال - أي يحيى بن معين - : رجل روى عنه معتمر ليس به بأس .... . ومن شاء التأكد فالينظر كتاب العلل ومعرفة الرجال لأحمد بن حنبل 3/11- 12 ، ترجمة رقم 3922 (1) ؛ قال الشيخ القنوبي : " هذا ومن المعلوم أن ابن معين من المتشددين في الجرح والتعديل كما نص على ذلك الذهبي وغيره ، وأن قوله : " لا بأس به " هو بمنزلة قوله : " ثقة " على ما ذهب إليه كثير من أئمة الحديث ، قال العراقي في ألفيته ، عند ذكره لمراتب الجرح والتعديل :
وابن معين قال من أقول لا بأس به فثقة ... إلخ " إهـ (2) .
وقد زعم بعضهم جهالة أبي عبيدة محتجا بما ذكره أبو حاتم ومن تابعه بجهالة أبي عبيدة ، وهذا كلام لا قيمة له ، فأبو حاتم معروف عنه التسرع في هذا الباب ، فكم من ثقة حكم بجهالته ، منهم بعض رجال الشيخين (3).
على أن مسلم بن أبي كريمة الذي حكم بجهالته أبو حاتم غير الإمام أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة قطعا ، لأن مسلما الذي ذكره أبو حاتم يروي عن الإمام علي ، وأبو عبيدة الإمام راوي المسند عن الإمام جابر لم يرو عن علي شيئا ، بل لم يكن أبو عبيدة مولودا في حياة علي (4) .
ونظرا لتسرع أبي حاتم في الحكم بالجهالة ، نص العلماء على أنه لا يجوز الاعتماد على حكمه بالجهالة ، ما لم يوافقه غيره (5) ، وموافقة الذهبي ومن يقلده لا عبرة بها ، لما علم من متابعة الذهبي لأبي حاتم في هذه القاعدة ، كما صرح به في أول " الميزان " (6) .
وفاته :
__________
(1) - المصدر السابق ، ص30
(2) - المصدر السابق ، ص31 .
(3) - المصدر السابق ، ص32 .
(4) - المصدر السابق ، الهوامش ص32 .
(5) - المصدر السابق ، ص34 .
(6) - المصدر السابق ، ص34 .
(1/14)
وقد توفي رحمه الله تعالى في عهد أبي جعفر المنصور ( 136- 158هـ ) ، قال شيخنا القنوبي حفظه الله : " إلا أني لم أجد دليلا يعين السنة التي توفي فيها ، والذي يظهر لي أنه توفي سنة 150هـ أو بعدها بقليل ، بدليل ما ذكره أبو سفيان رحمه الله تعالى : ( من أن أبا عبيدة رضي الله عنه أفتى بقتل معن بن زائدة بعد أن قتل زجرا الحضرمي رحمه الله تعالى بعد أن أمنه ) وقد قتل معن سنة 150هـ بسجستان على المشهور والله أعلم " إهـ (1) ، وذكر بعض الباحثين أن وفاته كانت في حوالي سنة 145هـ (2) .
جهاده العلمي والدعوي :
وقد قام الحجاج بسجن أبي عبيدة ، ولم يخرج من السجن إلا بعد موت الحجاج عام 95 هـ ، وكان ذلك مع بداية حكم سليمان بن عبد الملك عام ( 96- 99هـ ) ، وبعد خروجه من سجن الحجاج تبوأ قيادة المذهب الإباضي ، وذلك أن الإمام جابر توفي في سنة 93هـ ، فأصبح أبو عبيدة الإمام الأول للإباضية (3) .
وقد قام الإمام أبو عبيده باستقطاب طلاب العلم من مشارق الأرض ومغاربها كاليمن وعمان والمغرب وخرسان ومصر وغيرها ، وقد حفظ لنا التاريخ أسماء الكثير من أبناء هذه الأماكن ممن درس عند الإمام أبي عبيده وعاد إلى وطنه عالما جليلا ناشرا لمشعل الخير والهداية ، ونضرب أمثلة على ذلك ليس على سبيل الحصر ولكن للتمثيل لا غير .
- اليمن :
ممن أخذ العلم عنه من أهل اليمن الإمام أبو الخطاب المعافري وسيأتي الحديث عنه لاحقا ، ومنهم الإمام طالب الحق عبدالله بن يحي الكندي ، وقد أقام دولة شامخة في حضرموت وآثارها لازالت باقية إلى الآن شاهدة على ذلك التاريخ الزاهر ، ومنهم وائل بن أيوب الحضرمي ، وأبو المهاجر الحضرمي ، أبرهة بن الصباح الحميري وغيرهم (4) .
- رحلتي إلى اليمن :
__________
(1) - المصدر السابق ، ص35 .
(2) - منهج الدعوة عند الإباضية ، ص116 .
(3) - نشأة الحركة الإباضية ، ص103 .
(4) - الربيع بن حبيب مكانته ومسنده ، ص29 ـ العقود الفضية ، ص184.
(1/15)
لقد يسر الله تعالى لي زيارة اليمن في صيف سنة 1424هـ / 2002م ، وهي بلاد رائعة الجمال بها الكثير من الأماكن السياحية التي تستحق الزيارة ، وقد أعجبتني كثيرا ، وأعجبني أكثر الكرم اليمني وحسن الضيافة الذي لمسته عند أهل اليمن ، وكذلك طيبتهم وشهامتهم وحسن أخلاقهم ، وقد زرت العديد من المناطق كمأرب ، والعاصمة صنعاء ، وإب ، وتعز ، وزرت كذلك حضرموت ( معقل الإباضية سابقا ) ، وزرت مدينة شبام الواقعة في حضرموت ، وهي مدينة أثرية عريقة عجيبة البناء كانت معقلا للإمام طالب الحق وللإباضية في حقب التاريخ السابقة ، ومبانيها من الصاروج وهي عبارة عن مباني ذات طوابق عديدة تشبه ناطحات السحاب في مصطلح العصر الحديث ، ويحيط بها سور متين من الخارج ، وقد تعجبت كيف استطاعوا بناء مثل هذه المدينة البديعة الضخمة والتي إن دلت على شيء فإنما تدل على مدى الرقي الحضاري والتقدم الذي وصلوا إليه في ذلك العصر .
وهي لا زالت مسكونة إلى الآن ، إلا أن سكانها الآن ليسوا على المذهب الإباضي ، وتوجد بها متاحف شاهدة على عصور الرقي السابقة ، فترة الإمامة الزيدية ، و قبلها فترة الإمامة الإباضية .
وقد أخبرني أحد الأخوة الأعزاء من إباضية اليمن حفظهم الله تعالى وقد رافقنا في تلك الرحلة المباركة أنه لا زال هناك وجود لبعض الإباضية في حضرموت من بقايا الإمام طالب الحق وخاصة كبار السن منهم إلا أنهم لا يعرفون مذهبهم وتسميته ، ولكنهم يصلون بنفس صلاة الإباضية ، وعندما تسألهم لماذا يصلون هكذا ؟
يقولون : وجدنا أهلنا وآبائنا يصلون هكذا ، ولا يرضون التخلي عما هم عليه أسأل الله تعالى لهم الثبات على الحق .
(1/16)
فهذا يدل على أن من بقي من أتباع طالب الحق حافظوا على مذهبهم وعقيدتهم بالرغم من الرياح العاتية والعواصف الهوجاء التي تعرضوا لها من قبل ولاة بني أمية على اليمن بين قتل وتشريد وانتهاك للحرمات والأموال وسبي للذراري بعد سقوط دولة الأمام طالب الحق رحمه الله ( 129- 130هـ ) .
ومن الأمثلة على جرائم ولاة بني أمية بحق إباضية اليمن قيام عبد الرحمن بن يزيد بن عطية نائب ابن عطية على اليمن - بعد استشهاد طالب الحق - بإرسال جيش إلى حضرموت بقيادة شعيب الباقري ، وأمره بحصد الإباضية في كل مكان ، فقتل الصبيان ، وبقر بطون النساء ، وأخذ الأموال ، وخرب القرى ، والله المستعان (1) .
وهذا غيض من فيض ، فهل هذا من أفعال المسلمين ، وما الفرق بين هؤلاء وما اقترفوه من جرائم في حق الإباضية وبين اليهود وما يرتكبونه من جرائم وحشية بحق إخواننا الفلسطينيين ، والتي تتعارض مع أبسط مبادئ الإنسانية .
وتوجد في اليمن مخطوطات إباضية سواء في المكتبات أو المتاحف ، والكثير منها في بيوت اليمنيين ، ويعتبرونها من مقتنياتهم الشخصية ولا يرضون التخلي عنها ؛ وقد ذهب وفد من عمان من وزارة الثراث إلى اليمن ، وعاد ببعض المخطوطات والآثار الإباضية ، إلا أن الأمر يحتاج إلى مزيد تعمق ودخول إلى بيوت اليمنيين ، واستخراج ما لديهم من كنوز إباضية مفقودة ، خاصة شيوخ القبائل منهم كما سمعت من أحد اليمنيين أنهم يحتفظون بمكتبات ضخمة في بيوتهم تحوي الكثير من المخطوطات والآثار .
- وقفات مع د/ محمد عيسى الحريري :
الوقفة الأولى :
__________
(1) - محمد عيسى الحريري ، الاتجاهات المذهبية في اليمن حتى نهاية القرن الثالث الهجري ، عالم الكتب ، بيروت ، لبنان ، ط2 : 1417هـ / 1997م ، ص28 .
(1/17)
الدكتور محمد عيسى الحريري ألف كتابا تناول فيه مراحل انتشار المذاهب الإسلامية ، وعنونه بـ " الاتجاهات المذهبية في اليمن " ، وهو كتاب جيد فيه معلومات لا بأس بها عن المذاهب الإسلامية في اليمن ، إلا أنه لا يخلوا من بعض الانتقادات من ناحية اعتماده على النقل وعدم تمحيصه لما ينقل التمحيص الجيد .
وقد خصص الفصل الثاني عن المذهب الإباضي ودخوله اليمن ، وتناول قيام دولة الإمام طالب الحق والأحداث المتعلقة بذلك إلى أن سقطت ، ثم تناول أوضاع الإباضية في اليمن بعد سقوط دولة الإمام طالب الحق .
والحقيقة أنه كان منصفا في حديثه عن الإباضية وسيرتهم في اليمن ، ونأخذ مثالا على ذلك قوله في الإمام طالب الحق نقلا عن الأصفهاني صاحب الأغاني : " على كل حال أقام عبد الله بن يحيى طالب الحق في صنعاء أشهرا ، يحسن السيرة في الناس ، ويلين جانبه لهم ، حتى كثر جمعه ، ووفدت عليه الخوارج من كل جانب ، وبايعه كثير من اليمانية ، الذين رأوا فيه من يخلصهم من ظلم بني أمية وجورهم " إهـ (1) .
ونجده قبل ذلك في ص17من نفس الكتاب يبن الفرق بين الإباضية وغيرهم من الخوارج كالأزارقة والنجدات ، فوصف الإباضية بالاعتدال والتسامح بعكس الخوارج الآخرين الذين نهجوا منهج الشدة والتكفير مع مخالفيهم .
ووضح أن الكفر عند الإباضية قسمان كفر ملة ( شرك ) ، وكفر نعم ( يطلق على المسلم المرتكب للكبيرة والمبتعد عن الحق ) ، فذكر أن الإباضية عندما يطلقون على مخالفيهم كلمة كفر لا يقصدون بذلك كفر الشرك وإنما يقصدون كفر النعمة ، بمعنى أن المخالفين عصاة موحدين غير مشركين ، وبالتالي لا يجوز استحلال دمائهم ( بلا موجب لذلك ) ولا غنم أموالهم ولا سبي ذراريهم .... إلخ ؛ وهذا كلام جميل يشكر عليه ، فقد أنصف .
الوقفة الثانية :
__________
(1) - الاتجاهات المذهبية في اليمن ، ص21 .
(1/18)
بالرغم من إنصافه ، إلا أنه وللأسف الشديد لم يعتمد على المصادر الإباضية في نقله إلا مصدرا واحد فقط وهو كتاب : أصدق المناهج في تمييز الإباضية من الخوارج للشيخ سالم بن حمود بن شامس البطاشي .
واعتمد كذلك على كتاب : نشأة الحركة الأباضية للباحث عوض خليفات ، ونعترف أن الباحث عوض خليفات كان منصفا في بحثه ، وتجرد من كل الأهواء ، فجاء كتابه صادقا أعطى لكل ذي حق حقه ، إلا أنه ليس من الإباضية مع أن هذا لا ينقص من قيمة كتابه ، ولكن من أراد الحقيقة ناصعة بيضاء عن الإباضية ، فعليه أن يرجع إلى كتبهم ومؤلفاتهم وعلمائهم لتنجلي له حقيقتهم وتتضح ، وكذلك يقال بالنسبة للمذاهب الإسلامية الأخرى .
وقد اعتمد كثيرا في حديثه عن الإباضية على كتاب المقالات كالأصفهاني والطبري وابن الأثير ، وكتب هؤلاء مليئة بالأخطاء والتشنيع على الإباضية لأسباب معروفه لا نحتاج إلى ذكرها .
هذا الأمر أدى به إلى الوقوع في بعض الأخطاء التي لا تمت بصله إلى الإباضية ، فنسبها إليهم ، وسنذكر هذه الأخطاء في الوقفات التالية .
الوقفة الثالثة :
قال في ص20 : " دخل عبد الله بن يحيى صنعاء ، وقبض على الضحاك بن زمل ، وإبراهيم بن جبلة بن مخرمة ، وحبسهما ، وجمع الخزائن والأموال ، واستولى عليها لصالح الخوارج " إهـ ؛ وقد اعتمد فيما ذكره على ما نقله من كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني ، وهو كلام خاطئ ولم تقربه ريحة الصحة ، فالإباضية لا يجيزون غنم أموال المخالفين ولا سبي ذراريهم ، فكيف يقال أن طالب الحق استولى على تلك الأموال لصالح الخوارج !!!!!
ولكن الحقيقة أنه وزعها على فقراء اليمن ، حيث أن بني أمية سلبوا تلك الأموال من أهل اليمن جورا وظلما ، بالرغم من أن طالب الحق وأصحابه كانوا في أمس الحاجة لتلك الأموال لتقوية دولتهم ، إلا انهم تركوها لأن دينهم وعقيدتهم وتقواهم تمنعهم من ذلك .
(1/19)
فما ذكره الأصفهاني يتعارض مع عقيدة الإباضية تعارضا تاما ، فالإباضية لا يجيزون غنم مال المسلم ولا سبي ذراريه سواء كان مخالف أو غير مخالف في حرب أو في غيرها ، ومن شاء التأكد فاليراجع كتب الإباضية ، ومن هذه الكتب للتمثيل لا للحصر :
1- دراسات إسلامية في الأصول الإباضية ، بكير بن سعيد أعوشت ، ص38 - 42 .
2- الإباضية بين الفرق الإسلامية ، الشيخ علي يحيى معمر ، ج2 ، ص 276 ـ 287 ، ص 294 .
وأكتفي بنقل نص واحد لقطب الأئمة الشيخ محمد بن يوسف اطفيش رحمه الله ، وهو من أئمة الإباضية الذين يحتج بقولهم ، قال : " لا نحل مال الموحد لا بالكبيرة ولا بالصغيرة في حرب ولا في غيرها لا للغني ولا للفقير " إهـ (1) .
الوقفة الرابعة :
قال في ص21 : " وقد كانت بيعة اليمانية لطالب الحق من منطلق أنه يمني ... يضاف إلى ذلك أن هذه المبادئ صادفت هوى في نفس طالب الحق الذي ينتمي إلى قبيلة كندة ، وهذه القبيلة اشتهرت بأنها قبيلة الملوك ، فوافق تطلع وحب طالب الحق للسلطة ، تطلع أهل اليمن إلى زعامة يمنية تقود المسلمين وتخلصهم من بني أمية " إهـ .
وهذا الكلام أعلاه فيه ما فيه من الافتراء على طالب الحق ، وعلى إباضية اليمن الذين بايعوا طالب الحق ، وكذلك على الإباضية بصفة عامه .
__________
(1) - علي يحيى معمر ، الإباضية بين الفرق الإسلامية عند كتاب المقالات في القديم والحديث ، ج2 ، وزارة التراث القومي والثقافة ، سلطنة عمان ، مطبعة المدينة ، الخوض ، سلطنة عمان ، ط4: 1421هـ / 2000م ، ص 294 .
(1/20)
فالإباضية سواء كانوا من أهل اليمن أو من غيرهم لما بايعوا طالب الحق لم يبايعوه من منطلق كونه يمني ، ومن منطلق قبلي ، ولكن بايعوه من منطلق شرعي عقائدي ، وذلك أنهم وجدوه يتصف بالصفات التي تؤهله لهذا المنصب الخطير ، وهذه الصفات التي يعتمد عليها الإباضية في اختيار الأئمة هي : العلم والصلاح والقدرة على القيادة والمعرفة بالحروب ، فلا ينظرون إلى القبيلة أو النسب أو القرشية كما هو حاصل عند بعض المذاهب ، فهذه الأمور تأتي بعد ذلك ، إذا كان ذلك في مصلحة الدولة أو ما شابه ذلك .
وكتب الإباضية شاهدة على ذلك ولسنا بحاجة إلى استعراض منهجهم في اختيار الإمام وتنصيبه وشروطه ، فالمقام لا يتسع لذلك ، ومن أراد التأكد فكتب الإباضية موجودة شاهدة على المبادئ السامية التي تتميز به هذه الفئة من المسلمين ، فاليرجع إليها وسيجد ما يشفي غليله ويزيل الغبش عنه .
وأكتفي بنقل نص واحد لإمام من أئمة الإباضية في ذلك ، وهو الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن قيس الحضرمي - وهو من علماء وأئمة حضرموت - ، حيث قال لبعض الصفات التي توجب قيام الإمامة : " ... فإذا اجتمع لأهل الدعوة - يقصد الإباضية - هذا الوصف ، وجب أن يعقدوا الإمامة لأفضلهم في الدين والعلم والورع " إهـ (1) .
ومن الكتب الإباضية التي يمكن الرجوع إليها في هذا الشأن :
1- الخوارج والحقيقة الغائبة ، الشيخ ناصر السابعي ، ص162 .
2- الإباضية بين الفرق الإسلامية ، الشيخ علي يحيى معمر ، 2/52 .
3- الإباضية مذهب إسلامي معتدل ، الشيخ علي يحيى معمر ، ص25 - 26 .
4- دراسات إسلامية في الأصول الإباضية ، بكير بن سعيد أعوشت ، ص 113 - 122 .
5- منهج الدعوة عند الإباضية ، د/ محمد صالح ناصر ، ص197 .
الوقفة الخامسة :
__________
(1) - أبو إسحاق الحضرمي ، مختصر الخصال ، وزارة التراث القومي والثقافة ، سلطنة عمان ، 1404هـ / 1984م ، ص193 .
(1/21)
قوله كما مر سابقا في ص21 : " وقد كانت بيعة اليمانية لطالب الحق من منطلق أنه يمني .... فوافق تطلع وحب طالب الحق للسلطة .... " إهـ .
هذا الكلام الذي نسبه إلى الإمام طالب الحق من (( تطلعه إلى السلطة والحكم وحبه لذلك )) ، هو كلام باطل ، وافتراء على طالب الحق ، فما دليله على ذلك ؟! ومن أين جاء بهذا الزعم ؟!
وخطب طالب الحق دالة على صلاحه وتقواه ، وأنه لم يخرج طمعا في ملك ، وإنما خرج للقضاء على الظلم والجور وإقامة العدل وتطبيق الشريعة ، ويظهر ذلك جليا في خطبته التي ألقاها عندما دخل صنعاء حيث يقول : " أيها الناس ، من رحمة الله أن جعل في كل فترة بقايا من أهل العلم ، يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون على الألم في جنب الله تعالى ، يقتلون على الحق في سالف الدهور شهداء ، فما نسيهم ربهم ، وما كان ربك نسيا " إهـ (1) .
فما أعظمها من كلمات لا تخرج إلا من قلب مؤمن غيور على أمته وعقيدته ، فأنَّا لطامع في سلطة وملك أن يقدر على مثل هذا الكلام أو على مثل تلك الأعمال ، فهو أجبن وأحقر من ذلك !!
كذلك فإن أفعال الإمام طالب الحق لما حكم اليمن تدل على أنه ليس ممن يطمع في الملك والسلطان ، ولا أدل من ذلك قيامه بتوزيع المال الذي وجده في خزائن ولاة بني أمية في اليمن على فقراء اليمن ، ولم يأخذ منه
__________
(1) - أبو فرج الأصفهاني ، الأغاني ، ج20 ، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر ، بيروت ، لبنان ، ص99 .
(1/22)
حتى درهما واحدا لا هو ولا أصحابه بالرغم من حاجتهم إليه (1) ، فليس من ديدن الإباضية حب السلطة والملك والرغبة فيها لهوى في النفوس ، فهذا ديدن غيرنا والتاريخ شاهد على ذلك ، فكم من المواقف لأئمة الإباضية تدل على زهدهم في الملك وعدم طمعهم به ، فمن ذلك قول الإمام عبد الله بن وهب الراسبي لما بويع بالإمامة ، فقبلها و قال : " أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا ، ولا أدفعها فرقا من الموت " (2) .
ومن ذلك أيضا لما توفي الإمام عبد الرحمن بن رستم المؤسس للدولة الرستمية ، جعل أمر الإمامة شورى في ستة نفر كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فمالت نفوس أهل الحل والعقد من علماء الإباضية إلى شخصين من الستة ، وهما مسعود الندلسي ، وعبد الوهاب بن عبد الرحمن ، وتداولوا الأمر فاختاروا مسعود الأندلسي ، فلما علم بذلك ؟ هل رقص طربا وفرحا بهذا المنصب الذي أقبل عليه ؟
كلا والله ، ولكنه هرب ورعا من تحمل هذه الأمانة العظيمة ، فبايعوا بعد ذلك عبد الوهاب ، فكان مسعود الأندلسي أول من بايع (3) .
وكذلك قصة مبايعة الإمام سالم بن راشد الخروصي رحمه الله ، فلما علم بذلك غشي عليه من هول وقع الخبر عليه ، فلما أفاق رفض ، فأمر الإمام السالمي بضرب عنقه ، فسألهم : إن مت هل أنا في الولاية أم في البراءة ؟ فكان الجواب : أنه في البراءة ، فوافق رحمه الله ، وبويع ودموعه تنهمر من عينيه لعظم الأمانة التي سيتحملها كما ذكر ذلك الشيخ الشيبة في نهضة الأعيان ؛ فرحم الله تلك الأبدان ، وأسكنها فسيح الجنان ، فأين هؤلاء من ملوك بني أمية وبني العباس وغيرهم ، الذين يقتل الواحد منهم أباه وأخاه طمعا في شهوة الملك ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .
الوقفة السادسة :
__________
(1) - منهج الدعوة عند الإباضية ، ص130 .
(2) - المصدر السابق ، ص198 .
(3) - الطبقات ، 1/46 .
(1/23)
قوله في ص31 من نفس الكتاب : " وقد اشتهرت الإباضية في اليمن بألقاب لم تعرف عنهم في غير اليمن ، فعرفوا باسم ( المصرَرة ) ، وذلك لأن الواحد منهم كان يتخذ لنفسه صرة أو كيسا فيه رمل حول مجرى البول ، وكلما ابتل الرمل من البول بدده واستعمل غيره ، وذلك تشددا وتحرزا من النجاسة " إهـ .
وقد نقل مؤلفنا هذا الكلام من كتاب " صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز " لابن المجاور ص278 ؛ وقال في الهامش من نفس الصفحة : ويرجع ابن المجاور هذا التشدد لتأثرهم بمذهب ابن حنبل ؛ وهذا الكلام - وهو تأثر الإباضية بمذهب ابن حنبل - سنرد عليه في الوقفة السابعة .
وأما ما ذكره من اشتهار الإباضية في اليمن باسم ( المصررة ) !! وأنهم يضعون صره أو كيس فيه رمل حول مجرى البول ... إلخ !!!! فهو كلام غريب ، فمن أين جاء بهذا الزعم ؟ ومن أين له أن ينسب مثل هذه الترهات إلى الإباضية سواء كانوا يمنيين أو غير يمنيين ؟
فهذه كتب الإباضية الفقهية أو غير الفقهية المختصرة أو المطولة لا يوجد فيها مثل هذا الزعم !! ، نعم يوجد في بعض الكتب الفقهية سواء كانت إباضية أو غير إباضية أنه يرخص للمبتلى بالسلسل وغيره أن يضع ثوبا أو شيئا على مجرى البول ، اتقاء للنجاسة حتى يؤدي عبادته بشكل صحيح ، وهذا ليس محصورا عند الإباضية ، فهي موجوده في كل الكتب الفقهية لمختلف المذاهب ، ويرخص ذلك للضرورة ، وليس لمن هو سليم معافى !!
الوقفة السابعة :
قال في ص32 من نفس الكتاب : " وهناك إشارة عند ابن المجاور سبق أن ألمحنا إليها ، بأن الإباضية يتمذهبون بمذهب الإمام أحمد بن حنبل ... " إهـ .
(1/24)
وأقول لابن المجاور ولك مؤلفنا الكريم لقد أبعدتما النجعة ، فأين ابن حنبل وأين الإباضية فالفرق بينهما كالفرق بين السماء والأرض ، فالمذهب الإباضي مذهب مستقل بفقهه وعقيدته وفكره وأئمته ، والمذهب الحنبلي كذلك مذهب مستقل ، ولا أنكر وجود بعض التقارب بينهما ، كما يوجد تقارب مع المذاهب الإسلامية الأخرى في مسائل معينة واختلاف في مسائل أخرى ؛ لكن لا يمكن أن نقول : أن الإباضية يتمذهبون بمذهب أحمد بن حنبل !! فالإباضية استقلوا بمذهبم واتضحت صورته وأسسه وأركانه وأحمد بن حنبل لم يخلق بعد !!
بل إن المذهب الإباضي كان من أول المذاهب الإسلامية ظهورا ، وكان أقربها إلى عهد النبوة ، فمؤسس المذهب الإباضي وإمامه الإمام جابر بن زيد التقى بالصحابة كابن عباس وعائشة أم المؤمنين وابن عمر وجابر بن عبد الله وأبي هريرة وغيرهم كثير ، وأخذ عنهم (1) ، وشهدوا له بالعلم ، وكفى بشهادة البحر عبد الله بن العباس فيه حيث قال : " اسألوا جابر بن زيد فلو سأله أهل المشرق والمغرب لوسعهم علمه " وقال : " تسألوني وفيكم جابر بن زيد " وقال : " جابر بن زيد أعلم الناس " (2) .
__________
(1) - الإمام الربيع مكانته ومسنده ، ص23 .
(2) - المصدر السابق ، ص24 .
(1/25)
فالإمام جابر بن زيد هو أقدم إمام من أئمة المذاهب المعروفة ، فقد كانت وفاته رحمه الله في سنة 93 هـ على القول المشهور ، وهو الذي صححه الشيخ العلامة سعيد بن مبروك القنوبي حفظه الله تعالى (1) ؛ أما أئمة المذاهب الأربعة فهم متأخرون كثيرا عن الإمام جابر ، فأقدمهم هو الإمام أبو حنيفة فقد ولد سنة 80 هـ (2) ، والإمام مالك ولد سنة 93هـ كما صححه الذهبي (3) ، أما الإمام الشافعي فكان مولده في سنة 150هـ (4) ، وكان آخرهم هو الإمام أحمد بن حنبل فقد ولد في سنة 164هـ (5) .
فنلاحظ أن عمر أبي حنيفة عند وفاة الإمام جابر كان 13 سنة ، والإمام مالك ولد في نفس السنة التي مات فيها الإمام جابر ، فقد يكون عمره بضعة أشهر إذا كان مولده قبل اليوم الذي مات فيه الإمام جابر ، وقد يكون لم يولد بعد إذا كان مولده بعد اليوم الذي مات فيه الإمام جابر ، وأما الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل فعند موت الإمام جابر لم يخلقا بعد ! فبينهما وبين الإمام جابر قرن بأكمله !
__________
(1) - بالحاج بن عدون ، اللمعة المضيئة في تاريخ الإباضية ، ص9 ـ الإمام الربيع مكانته ومسنده ، ص25.
(2) - الذهبي ، سير أعلام النبلاء ، 6/391 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، لبنان ، ط7 : 1410هـ / 1990م ـ ابن حجر ، تهذيب التهذيب ، 10/401 ، دار الفكر ، ط1: 1404هـ/1984م .
(3) - الذهبي ، سير أعلام النبلاء ، 8/49 ـ الموطأ ، 1/6 ، ت: د/ بشار عواد وآخر ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، لبنان ، ط2: 1413هـ/1993م .
(4) - الذهبي ، سير أعلام النبلاء ، 10/10 ـ محمد بن إدريس الشافعي ، الأم ، ج1 ، أنظر الترجمة ، دار المعرفة ، بيروت .
(5) - الذهبي ، سير أعلام النبلاء ، 11/179 ـ ابن حجر ، تهذيب التهذيب ، 1/50 ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، ط1 : 1412هـ / 1991م .
(1/26)
فكيف يقال بعد ذلك أن الإباضية يتمذهبون بمذهب أحمد بن حنبل !! وأحمد بن حنبل عند وفاة إمام المذهب الإباضي لم يخلق بعد ، فهذا الكلام من الغرابة بمكان !!
هذه بعض الوقفات وقفناها مع د/ محمد الحريري من خلال كتابه " الاتجاهات المذهبية في اليمن " ، أردنا من خلالها التنبيه على بعض الأخطاء وقع فيها هذا الدكتور في كتابه لما تطرق إلى الحديث عن المذهب الإباضي ووجوده في اليمن .
نعود الآن إلى ذكر طلاب الإمام أبي عبيدة والمناطق التي جاءوا منها :
- عمان :
من طلابه من عمان الإمام الربيع بن حبيب الأزدي صاحب المسند عمدة الإباضية في الحديث ، وقد خلف الإمام أبا عبيده في إمامة المذهب بعد موته (1) ، ومنهم الإمام الجلندى بن مسعود رضي الله عنه الذي بويع كأول إمام إباضي في عمان وكان ذلك في عام 132 هـ وقيل 133هـ (2) ، والذي ذهب إليه كل من د/ محمد صالح ناصر ، و د/ عوض خليفات أن بيعت الإمام الجلندى كانت في عام 132هـ (3) ؛ وقيل أن الإمام الجلندى كان من ضمن من شارك وحظر في بيعة الإمام طالب الحق باليمن (4) .
ومن طلبة العلم العمانيين كذلك الذين درسوا عند أبي عبيدة أبو حمزة الشاري ، وبلج بن عقبة وغيرهم (5) .
- مصر :
__________
(1) - الإمام الربيع بن حبيب مكانته ومسنده ص19 ، 22 ـ عبد الله بن حميد السالمي ، شرح الجامع الصحيح ، ج1 ، المطابع الذهبية ، روي ، سلطنة عمان ، ص3 .
(2) - سالم بن حمود السيابي ، عمان عبر التاريخ ، ج1، وزارة التراث القومي والثقافة ، سلطنة عمان ، المطبعة الشرقية ، سلطنة عمان ، ص229 .
(3) - منهج الدعوة عند الإباضية ، ص144 ـ نشأة الحركة الإباضية ، ص130 .
(4) - عمان عبر التاريخ ، 1/227 .
(5) - الشماخي ، السير ، 1/91 .
(1/27)
من طلابه من مصر العلامة الجليل ابن عباد ، وكان معاصرا للإمام الربيع ، ومنهم شعيب بن المعروف ، وأبو إسحاق إبراهيم ، وعيسى بن علقمة ، وأبو المؤرج عمر بن محمد ، وليسع كما في العقود الفضية أو ابن اليسع كما في الإباضية في مصر والمغرب ، وغيرهم من أبناء مصر (1) .
- وقفة مع د/ رجب محمد :
وقد ذكر د/ رجب محمد أن داعية المغرب سلمة بن سعد أرسله الإمام أبو عبيده داعية للمذهب إلى مصر والمغرب وهذا نص كلامه : " فكان سلمة بن سعد هو الداعية الذي أرسله أبو عبيده مسلم بن أبي كريمة التميمي إمام الكتمان الذي خلف جابر بن زيد في قيادة المذهب والعمل على نشره ، إلى مصر وبلاد المغرب
لنشر الدعوة فيها " إهـ (2) .
وقد نسب ما ذكره إلى أبي زكريا صاحب سير الأئمة ، والدرجيني صاحب الطبقات ، والشماخي صاحب السير ، إلا أن الدرجيني لم يذكر أن سلمة بن سعد كان داعية للإباضية في مصر ولا الشماخي في سيره ، بل ذكرا أنه كان داعية في المغرب ، وبالنسبة لأبي زكريا صاحب سير الأئمة فلا أعرف ماذا قال في سيره وذلك لعدم وجود الكتاب بين يدي ، ولكن المشهور والمعروف أن سلمة بن سعد كان داعية للإباضية في المغرب وهذا ما ذكره الباحثون المعاصرون كالدكتور محمد صالح ناصر ، والدكتور عوض خليفات وغيرهم ، ولم يذكر أحد أنه كان داعية في مصر !!
فما دليله على أن الأمام أبا عبيدة أرسل الداعية سلمه بن سعد إلى مصر للدعوة لنشر المذهب الإباضي هناك ؟ وكذلك كيف ينسب إلى الدرجيني ، وإلى الشماخي ما لم يقولاه ؟!
__________
(1) - العقود الفضية ، ص184 ـ رجب محمد عبد الحليم ، الإباضية في مصر والمغرب وعلاقتهم بإباضية عمان والبصرة ، مكتبة الضامري للنشر والتوزيع ، السيب ، سلطنة عمان ، ص84 .
(2) - الإباضية في مصر والمغرب ، ص83 .
(1/28)
ولكن قد يكون سلمة بن سعد في أثناء توجهه إلى المغرب مر على مصر في طريقه ، وساهم في نشر المذهب هناك ، فمن هذه الناحية لا يستبعد وجود دور له في نشر المذهب في مصر والله أعلم .
- الموصل :
من طلابه بالموصل أبو بكر يحيى بن زكريا الموصلي ، وهو عالم جليل له آثار حميدة جاء يبحث عن الدين فلما التقى بأبي عبيده وأخبره عن معتقدات الإباضية اعترف لهم بصحة مذهبهم ، وكان قد ناظر كثيرا من العلماء فلم يقنع بهم (1) .
- البصرة :
منهم أبو سفيان محبوب بن الرحيل القرشي (2) .
- البحرين :
منهم خلف بن زياد البحراني (3) .
- المغرب :
تخرج من مدرسة الإمام أبي عبيدة رحمه الله العدد الكبير من حملة العلم المغاربة الذين ساهموا في نشر المذهب الإباضي في أرجاء أفريقية المختلفة ، وممن اشتهر منهم حملة العلم الخمسة إلى المغرب وسنفصل الحديث عنهم لاحقا ، وقبلهم أول داعية للإباضية بالمغرب ، كان السبب في نقل بذور هذا المذهب إلى أرض المغرب لتنموا وتترعرع هناك منتجة ثمارا يانعة تؤتي أكلها كل حين .
فمن هو هذا الداعية المخلص ؟ وكيف تمكن من نشر المذهب الإباضي في أرض لم تعرف هذا المذهب ولم تسمع عنه من قبل ؟ هذا ما سنعرفه من خلال الأسطر القادمة .
- داعية الإباضية الأول بالمغرب :
هو سلمة بن سعد بن علي بن أسد الحضرمي اليمني ، أخذ العلم عن الإمام جابر بن زيد وعن أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة ، وعن ضمام بن السائب وغيرهما (4) .
__________
(1) - العقود الفضية ، ص183- 184.
(2) - الإمام الربيع مكانته ومسنده ، ص29 ـ العقود الفضية ، ص183.
(3) - الإمام الربيع مكانته ومسنده ، ص29 ـ العقود الفضية ، ص185.
(4) - معجم أعلام الإباضية ، 2/189 ، رقم الترجمة : 418 .
(1/29)
وهو أول من جاء من البصرة كرسول من قبل الإمام أبي عبيدة بمذهب الإباضية ليدعو إليه في المغرب في الفترة بين عامي ( 95 و 110 هـ ) ، فجاء هو وعكرمة مولى ابن عباس يتعاقبان جملا واحدا ، فكان سلمه يدعو لمذهب الإباضية ، وعكرمه يدعو لمذهب الصفرية (1) .
وقد وقع اختلاف في اسمه بين بعض المصادر ، فذكر الدرجيني أنه سلامة بن سعيد على حسب الرواية التي نقلها عن مشائخ الإباضية عن الإمام أفلح ، فقد ذكر الإمام أفلح عن أبيه الإمام عبد الوهاب عن جده الإمام عبد الرحمن أنه قال : " أول من جاء يطلب مذهب الإباضية ونحن بقيروان أفريقية ، سلامة بن سعيد ، قال : قدم علينا من أرض البصرة ومعه عكرمة مولى ابن العباس متعاقبين على بعير ، فسلامة يدعو إلى مذهب الإباضية ، وعكرمة يدعو إلى مذهب الصفرية ، فسمعت سلامة يقول : وددت أن لو ظهر هذا الأمر يعني مذهب الإباضية يوما واحدا من أول النهار إلى آخره فلا أسف على الحياة بعده ... " (2) .
والحقيقة نلاحظ في الرواية أن الاسم تكرر عدة مرات على أنه سلامة ، فلا أد ري هل هو تصحيف أو خطأ مطبعي أم ماذا ؟!
ولكن المشهور وما يذكره الباحثون المعاصرون كالدكتور عوض خليفات وغيره أنه سلمة بن سعد ، وهذا ما ذكره الشماخي في سيره (3) .
__________
(1) - معجم أعلام الإباضية 2/189 ، رقم الترجمة : 418 ـ نشأة الحركة الإباضية ، ص134.
(2) - الطبقات ، 1/13.
(3) - الشماخي ، السير ، 1/90.
(1/30)
وسلمة بن سعد هو الذي دل حملة العلم أو بعضهم على موضع أبي عبيدة بالبصرة ، ولا أدري هل كان الإمام عبد الرحمن بن رستم من ضمن من دله سلمه على أبي عبيده أم لا ؟ لم توضح المصادر ذلك ، فالشماخي اكتفى بقوله : " وهو الذي - أي سلمة بن سعد - دل حملة العلم أو بعضهم على موضع أبي عبيده بالبصرة " إهـ (1) ، فلم يفصل ؛ والدرجيني ذكر قولان القول الأول أن رجلا من أهل الدعوة دل الإمام عبد الرحمن على أبي عبيده ، والقول الثاني أن أم الإمام عبد الرحمن هي التي دلته على الإمام أبي عبيده ، وهذا نص كلامه : " فقال له - أي للإمام عبد الرحمن - رجل من أهل الدعوة إن كنت تريد العلم بما كلفت به وعلقت مطلبه بخاطرك ، فدونك أرض البصرة ، فإن بها رجلا عالما يكنى أبا عبيده مسلم بن أبي كريمة التميمي ، فإنك تجد عنده ما تطلب ، فلذلك توجه عبد الرحمن بن رستم إلى البصرة رحمه الله ، وقيل أن أمه هي التي أرشدته إلى ذلك ... " إهـ (2) ، وعندما فصل الحديث عن الإمام عبد الرحمن اكتفى بالقول الأول (3) .
إلا أن الرواية التي ذكرناها سابقا عن الإمام أفلح تدل على أن الإمام عبد الرحمن التقى بسلمه وتأثر به وأخذ عنه المذهب ، ويظهر ذلك من قوله في آخر الراية : " فقام عبد الرحمن مجتهدا في ذلك الأمر " ويقصد بالأمر المذهب الإباضي (4) .
إلا أن هذه الراية لا تعطينا أي دلالة على كون سلمه بن سعد دل عبد الرحمن على الإمام أبي عبيدة أو حثه على الهجره إليه لطلب العلم ، وإنما ظاهرها يوحي بتعرف عبد الرحمن على المذهب الإباضي عن طريق سلمه بن سعد وتأثره به ثم تحمسه للدعوة .
__________
(1) - الشماخي ، السير ، ص91.
(2) - الطبقات ، 1/12.
(3) - الطبقات ، 1/20.
(4) - الطبقات ، 1/12.
(1/31)
ولكن ليس من المعقول أن يعزب عن ذهن داعية محنك مثل سلمه بن سعد تعريف من يدعوهم بالسند المتصل لأئمة هذا المذهب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه تلقى هذا المذهب - تشريعا و عقيدة وفقها... إلخ - عن أبي عبيدة الذي تلقاه عن الإمام جابر الذي تلقاه عن الصحابة الكرام الذين تلقوه عن خير البرية جمعاء صلوات الله وسلامه عليه ؛ وكذلك لا يعقل من مثل عبد الرحمن بن رستم المعروف بذكائه الشديد وفطنته البالغة ألا يسأل سلمه بن سعد عن أئمة هذا المذهب ليتعرف عليهم حتى يتيقن من صحة هذا المذهب وصحة ما يحمله من فكر وعقيدة ، وإلا لما تمسك به وجاهد بنفسه وماله في سبيل المحافظة عليه ؛ على العموم تظل هذه مجرد افتراضات وتساؤلات ، قد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة والله أعلم .
هذا وإن د/عوض خليفات جاء بكلام ثمين في هذه الإشكالية ، فقد ذكر أن سلمة استقر في جبل نفوسة وكان الهدف من رحلته إلى المغرب الدعوة إلى المذهب واستطلاع أحوال المنطقة ومدى استعداد الناس لتقبل آراء الإباضية ، وكذلك له مهمة أخرى مع ما سبق وهي ترغيب عدد من زعماء البربر للذهاب إلى المشرق لتلقي العلم على يد إمام الإباضية آنذاك أبي عبيده مسلم بن أبي كريمة .
- نجاح سلمه بن سعد في مهمته :
ثم ذكر - أعني د/ عوض خليفات - أن سلمه نجح في مهمته وكسب عدد من الأتباع وخاصة من جبل نفوسة ، ونتيجة لجهوده ارتحل بعض من اعتنق المذهب من أهل جبل نفوسه إلى البصرة ليأخذوا أصول الدعوة وتعاليمها عن الإمام أبي عبيده ، وكان أشهر هؤلاء أبو عبد الله محمد بن عبد الحميد بن مغيطر الجناوني (1) .
__________
(1) - علي يحيى معمر ، الإباضية في موكب التاريخ ، الحلقة (2) ، مكتبة الضامري ، السيب ، سلطنة عمان ، ط2 : 1993م ،
ص27.
(1/32)
وذكر كذلك أن المصادر لم تذكر المدة التي قضاها ابن مغيطر عند أبي عبيدة ، إلا أنه رجع و سلمة لا يزال حيا ، واشتركا معا في نشر المذهب الإباضي ، وبعد وفاة سلمه أو عودته إلى المشرق أصبح ابن مغيطر المقدم على الإباضية هناك ، وكانت له جهود كبيرة في إقناع كثير من بني قومه من نفوسة لاعتناق المذهب الإباضي ، حتى أن جبل نفوسة أصبح المعقل الرئيسي لإباضية المغرب في ذلك الوقت أي خلال الثلث الأول من القرن الهجري الثاني .
- أول بعثة علمية مغربية منظمة إلى البصرة :
ثم ذكر بعد ذلك أن دعاة الإباضية الأوائل رأوا أن الحاجة تدعو إلى إرسال مزيد من البعثات العلمية للمشرق ، وبناء على ذلك فقد اتجهت أول بعثة علمية منظمة اختير رجالها من قبائل ومناطق مختلفة ، وتألفت من أربعة أشخاص وهم : أبو درار الغدامسي من جنوب طرابلس ، وعبد الرحمن بن رستم - فارسي الأصل - من القيروان ، وعاصم السدراتي من سدراته ، وأبو داود النفزاوي من تونس ، وانضم إليهم في البصرة أبو الخطاب المعافري وهو عربي من اليمن ، وقد سمي هؤلاء في المصادر الإباضية بحملة العلم إلى المغرب (1) .
فالذي يظهر لنا من كلام د/ عوض خليفات أن الإمام عبد الرحمن لم يرسله سلمه بن سعد إلى أبي عبيده وإنما أرسله من تولى الدعوة بعد سلمة وعلى رأسهم ابن مغيطر الجناوني ، ولعل الرجل المذكور في الطبقات وفي السير الذي دل الإمام عبد الرحمن على أبي عبيدة هو ابن مغيطر والله أعلم .
__________
(1) - نشأة الحركة الإباضية ، ص136 ـ 137.
(1/33)
هذا وأود أن أنبه أني ذكرت في مقال سابق أعددته عن نشأة الدولة الرستمية ، وشاركت به في السبلة قبل فترة ، وذكرت فيه أن سلمة بن سعد هو الذي دل عبد الرحمن بن رستم على الأمام أبي عبيدة وشجعه للذهاب إلى البصرة لتلقي العلم على يديه ، فالظاهر أن الأمر بخلاف ذلك كما بينا أعلاه ، فعبد الرحمن التقى بسلمه بن سعد وتأثر به ، وكان السبب في تمسكه بالمذهب الإباضي ، إلا أنه لم يكن هو الذي أرسل عبد الرحمن إلى أبي عبيدة والله أعلم .
إذا وبعد أن تم اختيار الصفوة من طلبة المغرب ، انطلقت هذه الثلة المباركة التي سيكون لها شأن عظيم في المستقبل ، تسجله كتب التاريخ وتتوارثه الأجيال جيلا بعد جيل دراسة وتحليلا وتأسيا ؛ انطلقت إلى المشرق يحدوهم الشوق إلى لقاء ذلك الطود الشامخ والبحر الزاخر كهف العلوم علامة ذلك العصر أبي عبيدة مسلم ابن أبي كريمة ، ذلك الإمام الجليل الذي سمعوا عنه الكثير عن علمه وفقه وحنكته وبعد نظره ، ذلك الإمام الذي استطاع أن ينشر المذهب الإباضي في مشارق الأرض ومغاربها ، ويوجه الدعاة ويتابع أخبار المذهب وانتشاره وهو في سرداب ملاحق ومحارب من قبل الدولة الأموية ، والعيون مبثوثة في كل شبر من البصرة أو خارجها، والعساكر تملأ الطرقات والأزقة بحثا عن الإباضية ومن يناوئ السلطة الظالمة ، فتجدهم يأخذون الناس حتى بالظن والله المستعان .
(1/34)
على الرغم من هذه الضغوطات وتحت هذه الظروف القاسية القاهرة استطاع الإمام أبو عبيده نشر المذهب وبث الدعوة ، وبعد ذلك إقامة الدول الإباضية ، والتي هي بحق شرف للأمة الإسلامية حيث أنها جسدت وبحق عهد الخلافة الراشدة ، الذي عجزت عن إدراكه - ولو ذرة منه - الدول الأخرى كالدولة الأموية أو العباسية أو الفاطمية أو غيرها ممن سلك دربها ، بل إن تاريخ هذه الدول وأمثالها تاريخ أسود مظلم قائم على القهر والقتل والتعذيب ، والتاريخ يشهد على ذلك ، وكتب التاريخ لا زالت موجودة إلى الآن طافحة بشنا يع ملوك هذه الدول ومن سلك نهجهم والله المستعان .
- سرداب أبي عبيدة :
وبعد أن وصل طلبة العلم إلى البصرة وكلهم شوق وشغف للعب من معين ذلك البحر الزاخر أبي عبيده ، التقوا هناك بأبي الخطاب ، والذي أصبح بعد ذلك إماما عليهم في المغرب باختيار من شيخه أبي عبيدة ليتولى هذا المنصب الخطير .
وكان وصولهم إلى البصرة في عام 135 هـ ، وظلوا في سرداب أبي عبيدة لمدة خمس سنوات ينهلون من العلم الصافي ، ويعدهم أبو عبيده لأمر جلل ينتظرهم في المستقبل القريب ، فعادوا إلى المغرب في عام 140 هـ وقد أصبحوا من كبار العلماء ، ولديهم من الحنكة الحربية والسياسية ما يؤهلهم ليكونوا قادة دول عظماء ومحاربين أشداء (1) .
وكان أبو عبيده مستخفيا من الحجاج والي الأمويين على العراق ، فكان يدرس طلابه في سرداب تحت الأرض في البصرة ، فأدخل طلابه المغاربه ومعهم أبو الخطاب سردابه ذلك ، ليخرجوا منه بعد خمس سنوات علماء تشد إليهم الرحال ويقصدهم الوراد .
__________
(1) - نشأة الحركة الإباضية ، ص137ـ منهج الدعوة ، ص149.
(1/35)
وقد كان يجعل على باب السرداب سلسلة و رجلا من أتباعه ، يقوم بهز تلك السلسلة إذا مر أحد من جند الحجاج أو أتباعه ، فيتوقف الإمام أبو عبيده وطلابه عن التعليم ، ويتظاهرون أنهم يصنعون القفاف ، ولهذا اشتهر الإمام أبو عبيده رحمه الله بالقفاف (1) .
بعد أن أتم أبو الخطاب وحملة العلم المغاربة تعليمهم عند الإمام أبي عبيدة رحمه الله بعد خمس سنوات ، قرروا العودة إلى المغرب لإظهار الحق وإقامة العدل هناك ، فلما عزموا على الخروج إلى بلادهم كلموا أبا عبيدة وشاوروه في مستقبلهم وأمر الإمامة إن وجدوا لذلك قوة وفرصة سانحة هل يولون عليهم رجلا ؟
فقال لهم أبو عبيدة : " توجهوا إلى بلادكم فإن يكن في أهل دعوتكم من العدد والعدة ما تجب معه التولية عليكم ، فولوا على أنفسكم رجلا منكم ، فإن أبى فاقتلوه " وأشار إلى أبي الخطاب رحمه الله (2) .
ويروى أن إسماعيل بن درار سأل أبا عبيدة قبل أن يركب راحلته ثلاثمائة مسألة من مسائل الأحكام ، فقال أبو عبيدة له : أتريد أن تكون قاضيا يابن درار ؟ ، قال له : أرأيت إن ابتليت بذلك ، فبماذا تأمرني يرحمك الله ؟ ؛ وقيل أنه سأله تلك المسائل قبل سفره (3) .
- حملة العلم في الميدان :
فلما وصل الدعاة إلى المغرب في عام 140هـ ، بادر أهل الدعوة بمبايعة أبي الخطاب إماما عليهم طبقا لأوامر إمام المذهب أبي عبيدة ، وقد كانوا أعدوا العدة لذلك ووضعوا الخطط السياسية المحكمة لإنجاح هذه الثورة .
__________
(1) - الطبقات ، 1/20 ـ السير ، 1/78 ـ منهج الدعوة ، ص115 ، 119 .
(2) - الطبقات ، 1/21.
(3) - المصدر السابق ، 1/21.
(1/36)
وتمت البيعة لأبي الخطاب ، فتوجهوا بعد ذلك إلى مدينة طرابلس للسيطرة عليها طبقا لخطة موضوعة ، واستطاعوا دخولها والسيطرة عليها دون قطرة دم واحدة ، واضطر الوالي العباسي لأبي جعفر المنصور إلى الاستسلام ، فأحسن أبو الخطاب السيرة في طرابلس وأظهر العدل والمساواة اللذين طالما تشوق أهالي المنطقة لهما (1) .
فأرسل إليهم الإمام أبو عبيدة برسالة ردا على رسالتهم إليه يهنئهم فيها بهذا النصر ويعظهم ويوجههم ، مما يدل على عناية أئمة الإباضية باتباعهم ، وتتبع أخبارهم ، ومدهم بالمدد الحسي والمعنوي ، وعدم الانقطاع عنهم رغم المسافة الشاسعة والظروف القاسية .
- قتال الإمام أبي الخطاب للجورة :
__________
(1) - الطبقات ، 1/26 ـ منهج الدعوة ، ص150.
(1/37)
ثم بعد ذلك توجهوا إلى القيروان وتمكنوا من السيطرة عليها بعد حصار لها وذلك في سنة 141هـ ، وفي تلك الأثناء وصلت جيوش أبي جعفر المنصور إلى إفريقية بقيادة محمد بن الأشعث الخزاعي ، فاضطر أبو الخطاب إلى التوجه إلى طرابلس للدفاع عنها وعين عبد الرحمن بن رستم واليا على القيروان ، واستطاع الإمام أبو الخطاب رد الجيش العباسي وهزيمته ، فأعاد العباسيون الكرة بجيش قوامه أربعين ألفا ، واستطاع أبو الخطاب التغلب عليه مرة ثانية ، وهنا لجأ ابن الأشعث إلى الحيلة وتظاهر بالانسحاب إلى المشرق ، فلما رأى جيش الإمام أبي الخطاب ذلك ظنوا أن العباسين قد انسحبوا ولن يعودوا من جديد ، وكان الموسم موسم حصاد فتفرقوا إلى مزارعهم وحقولهم ، والإمام أبو الخطاب يحذرهم من ذلك ومن مكر العرب ، إلا أن العوام أصرت على التفرق ، فسهل ذلك على ابن الأشعث القضاء على من بقي مع أبي الخطاب فقتلهم جميعا ، وكان ذلك عام 144هـ في معركة " تاورغا " ، وتذكر بعض المصادر أن انهزام الإمام أبي الخطاب كان يعود إلى تصدع قبلي أصاب جيش أبي الخطاب ، فاستغله ابن الأشعث أحسن استغلال ، ولله الأمر من قبل ومن بعد (1) .
وقد حاول عبد الرحمن بن رستم اللحاق بالإمام أبي الخطاب لنجدته ، إلا أن أخبار استشهاد الأمام أبي الخطاب وأصحابه وصلته وهو لا يزال في الطريق ، فلما عاد إلى القيروان وجد أنها ثارت على الإباضية ، فعند ذلك اضطر للتوجه إلى أرض المغرب متخفيا بصحبة ابنه عبد الوهاب وعبد له ، فتحصن قي جبل يدعى " سوفجج " ، فلحقه شيوخ الإباضية ، فسمع بهم ابن الأشعث فلحق بهم وحاصر الجبل ، وظل محاصرا للجبل حتى وقع الجدري في جنده ولم يستطع أن يخرج عبد الرحمن وأصحابه من الجبل ، فكر راجعا إلى القيروان ، فأراح الله عبد الرحمن ومن معه من شره (2) .
__________
(1) - الطبقات ، 1/32 ـ منهج الدعوة ، ص151.
(2) - الطبقات ، 1/35 ـ منهج الدعوة ، ص153.
(1/38)
4- الإمام أبو حاتم يعقوب بن حبيب الملزوزي الهواري :
بعد استشهاد الإمام أبي الخطاب في عام 144هـ ، أنس الأصحاب في طرابلس من نفسهم قوة للثورة من جديد ، فنصبوا أبا حاتم يعقوب بن حبيب الملزوزي الهواري إماما عليهم وكانت إمامته إمامة دفاع ، وكان ذلك في عام 145هـ (1) ، وذكرت بعض المصادر أنه بويع بالإمامة في عام 154هـ (2) ، إلا أن بعض الباحثين المعاصرين ذكروا أن إمامته كانت في عام 145هـ (3) .
وقد وقع الخلاف بين المصادر في اسم أبيه ، فذكر الدرجيني أنه " لبيب " ، وذكر أصحاب المعجم أنه " لبيد " ، وذكر الشماخي أنه " حبيب " ، ووافقه على ذلك الشيخ سليمان باشا الباروني ، و د/ محمد صالح ، ود/ عوض خليفات (4) .
استطاع الأمام أبو حاتم أن يكون جيشا عظيما لم يجتمع لأحد من الإباضية مثله بأفريقية قدره بعض المؤرخين بثلاثمائة وثلاثين ألفا ، فاستطاع أن يسيطر على طرابلس عام 153هـ ، ثم قام بمحاصرة طبنة التي تقع في إقليم الزاب بقرب تيهرت ، وكان الوالي العباسي عمر بن حفص موجودا فيها في تلك الأثناء .
وقد اشترك عبد الرحمن بن رستم بقوات جاء بها من تيهرت مع الأمام أبي حاتم في هذا الحصار ، واشترك الصفرية معهم في الحصار كذلك .
__________
(1) - منهج الدعوة ، ص152.
(2) - الطبقات ، 1/36 ـ السير ، 1/121 ـ أبو الربيع سليمان الباروني ، مختصر تاريخ الإباضية ، لا يوجد اسم لدار النشر وسنة الطبع ، ص34.
(3) - مهج الدعوة ص125 ـ نشأة الحركة الإباضية ص157 ـ معجم أعلام الإباضية ، 2/475 ، رقم الترجمة : 1035.
(4) - الطبقات ، 1/36 - معجم أعلام الإباضية ، 2/475 ، رقم الترجمة : 1035- السير 1/121 - مختصر تاريخ الإباضية ، ص34 - منهج الدعوة ، ص152- نشأة الحركة الإباضية ، ص175
(1/39)
أمام هذا الحصار القوي لجأ عمر بن حفص إلى الحيلة فأغرى الصفرية بالمال لينسحبوا ، فنجح في حيلته وانسحبت قوات الصفرية ، أمام هذه الخيانة من قبل الصفرية حدث اضطراب في جيش الإمام أبي حاتم ، فاضطر مع عبد الرحمن بن رستم إلى فك الحصار ، فعاد كل واحد منهم إلى أدراجه ، فرجع الأمام أبو حاتم إلى القيروان ليحتلها قبل وصول عمر بن حفص إليها (1) ، وصل الأمام أبو حاتم إلى القيروان ، وكان قد سبقه إليها عمر بن حفص ، فحاصرها الأمام أبو حاتم لمدة سنة حتى تمكن من فتحها في عام 154هـ ، وحاصر عامل العباسيين فيها عمر بن حفص ، ووقع بين الطرفين قتال كان النصر فيه حليف الإمام أبي حاتم وقتل فيه عمر بن حفص والي العباسيين (2) ، وقد ذكرت بعض المصادر أن الذي حاصره الأمام أبو حاتم في القيروان هو ابن الأشعث (3) ، إلا أن الصحيح أن المحاصر هو عمر بن حفص ، وذلك أن ابن الأشعث انقلب عليه قادة جيشه ، وأجبروه على التخلي عن الولاية ، فاضطر للتخلي عن الولاية والرجوع إلى المشرق ، وعين أبو جعفر المنصور عمر(4) بن حفص المهلبي - من ولد قبيصة بن أبي صفرة أخي المهلب بن أبي صفرة - واليا على أفريقية والمغرب (5) .
__________
(1) - نشأة الحركة الأباضية ، ص160 ـ معجم اعلام الإباضية ، 2/475 ، رقم الترجمة : 1035.
(2) - نشأة الحركة الإباضية ، ص163 ـ معجم أعلام الإباضية ، 2/475 ، رقم الترجمة : 1035 .
(3) - الطبقات ، 1/38 - مختصر تاريخ الإباضية ، ص34 - السير ، 1/122.
(4) * - اختلفت المصادر في اسم عمر بن حفص ، بعضها ذكر أن اسمه " عمرو " كمعجم أعلام الباضية ، 2/475 ، رقم الترجمة : 1035 ، وبعضها ذكر أن اسمه " عمر " كالسير للشماخي ، 1/122 ، ونشأة الحركة الأباضية ، ص156 .
(5) - السير ، 1/122 ـ نشأة الحركة الأباضية ، ص156 .
(1/40)
بعد فتح القيروان سيطر الإمام أبو حاتم على المغربين الأدنى والأوسط ، وبسط فيهما العدل ، فسمع بقدوم جيش للعباسيين من المشرق ، فخرج لملاقاتهم في مكان يدعى " مغمداس " فوقع ين الطرفين قتال شديد كان النصر فيه حليف الإمام أبي حاتم (1) ، ويروى عن هذه المعركة أن رجلا من المخالفين لقي رجلا من الإباضية ، فقال له مستهزأ بمقتل الإمام أبي الخطاب وأصحابه رحمهم الله تعالى في معركة " تاورغا " : ما تفسير تاورغا ؟ ، فرد عليه الإباضي - وكان فطنا لبيبا - تفسيرها : مغمداس فيه أربعة أكداس في كل كدس أربعة آلاف (2) .
وقد ذكرت بعض المصادر الحديثة أن معركة مغدماس هي المعركة التي انهزم فيها الأمام أبو حاتم ، واستشهد فيها مع أصحابه (3) .
- استشهاد الإمام أبي حاتم :
لما علم أبو جعفر المنصور بالانتصارات التي حققها الإمام أبو حاتم ، وأنه سيطر على المغربين الأدنى والأوسط ، أرسل جيشا ضخما بقيادة يزيد بن حاتم المهلبي ، فخرج الإمام أبو حاتم لملاقاته ، فلما التقى الفريقان وقع بينهما قتال شديد ، وكانت الكفة لصالح القائد العباسي ، وكثر القتل في جيش الأمام أبي حاتم ، فلما رأى الأمام أبو حاتم ذلك قال كلمة لا تخرج إلا ممن باع الدنيا واشترى الآخرة : " زفوني إلى الموت في سبيل الله زفاف العروس ... " فاستشهد رحمه الله تعالى مع جل أصحابه ، وكان ذلك في سنة 155هـ ، فطوية بذلك صفحة مشرقة من صفحات تاريخ أهل الحق والاستقامة (4) .
5- تحقيق الحلم :
__________
(1) - الطبقات ، 1/38 ، السير ، 1/123 .
(2) - الطبقات ، 1/39 ـ السير ، 1/123.
(3) - معجم أعلام الإباضية ، 2/475، رقم الترجمة : 1035.
(4) - الطبقات ، 1/39 ـ السير ، 1/123 ـ منهج الدعوة ، ص152 ـ نشأة الحركة الإباضية ، ص165 ـ معجم أعلام الإباضية 2/475 ، رقم الترجمة : 1035 ـ مختصر تاريخ الإباضية ، ص34.
(1/41)
علمنا أن عبد الرحمن بن رستم هرب إلى جبل " سوفجج " وتحصن هناك مع بعض الإباضية من ابن الأشعث ، فأعد العدة لإقامة دولة إباضية سيخلدها التاريخ ، فانتقل مع من معه من الإباضية إلى مكان يسمى " تيهرت " في المغرب الأوسط في الفترة ما بين ( 155 و 169هـ ) ، ليؤسس هنالك دولته الشامخة (1) .
في تلك الأثناء كان الإمام أبو حاتم يقاتل القوات العباسية إلى أن استشهد في سنة 155هـ كما علمنا بعد صراع مرير مع الظلم لإقامة الحق ونشر العدل ، فهرب من بقي من الإباضية بعد موت إمامهم أبي حاتم فارين بدينهم من القهر والظلم والقتل على يد العباسيين ، فانطلقوا إلى إمامهم الموعود ودولتهم المنشودة ، إلى عبد الرحمن بن رستم في تيهرت ، فتجمع لدى عبد الرحمن من القوات والعدد والعدة ما يمكنه من الظهور وبناء دولة مستقلة للإباضية ، وخاصة أنه كانت تصله الإمدادات المادية من الإمام أبي حاتم سابقا ، فكأن الأمام أبا حاتم علم بنظرته الثاقبة وبعد نظره أن عبد الرحمن بن رستم هو الذي سيقيم الدولة الإباضية المنشودة التي كان ينشدها أئمة الإباضية الأوائل الإمام جابر بن زيد رحمه الله والإمام أبو عبيدة رحمه الله ، فأمده بكل مايلزم لذلك ، واشغل هو بدوره العباسيين بالقتال حتى لا يلتفتوا لعبد الرحمن وما يخطط له ، فيجهزوا على مخططه وهو لا يزال في المهد ؛ وبالفعل تمكن عبد الرحمن بن رستم من تحقيق الحلم ، فأقام دولة مستقلة للإباضية في المغرب الأوسط في مكان يسمى " تيهرت " ، وكان ذلك في 155هـ .
- بناء تيهرت :
__________
(1) - منهج الدعوة ، ص153.
(1/42)
فاجتهد عبد الرحمن ومن معه من الإباضية في بنائها وتحصينها على أحسن ما يكون ، حتى اشتهرت من جمالها وحضارتها بـ " عراق المغرب " ، فبلغت شهرتها مشارق الأرض ومغاربها ، فقصدها القاصدون سواء كانوا تجارا أو طلاب علم أو باحثين عن الأمان ورقي العيش ، فشدت إليها الرحال وقصدها الكتاب ، وقد وصفها المقدسي فقال : " ... هي بلخ المغرب ، قد أحدقت بها الأنهار والتفت بها الأشجار ، وغابت في البساتين ، ونبعت حولها الأعين ، وجل بها الإقليم ، وانتعش فيها الغريب ، واستطابها اللبيب ، يفضلونها على دمشق ، وأخطأوا ، وعلى قرطبة ، وما أظنهم أصابوا ، هو بلد كبير ، كثير الخير رحب ، رقيق طيب ، رشيق الأسواق ، غزير الماء ، جيد الأهل ، قديم الوضع ، محكم الرصف ، عجيب الوصف ... " إهـ (1) .
- من هو الإمام :
وفي عام 160هـ ، وبعد أن تطورت دولة الإباضية الوليدة " تيهرت " وتقوت ، واستأنس الإباضية من أنفسهم قوة ، وأن كل الظروف مواتية لإعلان إمامة الظهور ، فنظروا فيمن يتولى الأمر ، فلم يجدوا أبرز ولا أليق من عبد الرحمن بن رستم ، فهو من طلاب الإمام أبي عبيدة ، وهو الذي جاهد مع أئمة الإباضية السابقين ولم يتوان عن التضحية لنصرة الحق وإقامة العدل ، وهو الذي جمع أشتات الإباضية في المغرب بعد أن تفرقوا إثر الهزائم التي تكبدوها ، وهو الذي جمع بين العلم والصلاح والتقوى والحنكة الحربية والسياسية ؛ فبايعوه بالإمامة في عام 160هـ ، وقيل عام 162هـ (2) .
__________
(1) - محمد بن أحمد البنا المقدسي ، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، لبنان ، 1408هـ / 1988م ، ص189.
(2) - الطبقات ، 1/41 ـ السير ، 1/124 ـ منهج الدعوة ، ص154 ـ سليمان بن عبد الله الباروني ( باشا ) ، كتاب الأزهار الرياضية في أئمة وملوك الإباضية ، ج2 ، دار بوسلامة ، تونس ، ص83 ـ مختصر تاريخ الإباضية ، ص37 ـ نشأة الحركة الإباضية ، ص168.
(1/43)
وصفه ابن الصغير مؤرخ الدولة الرستمية - شيعي وقيل مالكي عاش في الدولة الرستمية في أواخر أيامها - بقوله : " فسار بهم سيرة جميلة حميدة ، أولهم وآخرهم ، ولم ينقموا عليه في أحكامه حكما ، ولا في سيره سيرة ، وسارت بذلك الركبان إلى كل البلدان ... " إهـ (1) .
وقد اشتهرت هذه الدولة باسم " الدولة الرستمية " نسبة إلى والد عبد الرحمن ، كما جرت العادة في تسمية الدول الإسلامية في العصور الوسطى بأسماء آباء المؤسسين (2) ، وقد توفي الأمام عبد الرحمن في سنة 171هـ (3) .
واختار الإباضية بعده ابنه عبد الوهاب إماما عليهم ، واستمرت هذه الدولة الإسلامية العظيمة لمدة 136 عاما إلى أن سقطت في عام 296هـ ، وذكرت بعض المصادر أنها استمرت لمدة 145 سنة ، وبعضها أوصلتها إلى 152سنة (4) .
- لا بد من نهاية :
__________
(1) - ابن الصغير ، أخبار الأئمة الرستميين ، ت : د/ محمد صالح ناصر و إبراهيم بحاز ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت ، لبنان ، 1406هـ / 1986م ، ص31.
(2) - معجم أعلام الإباضية ، 2/247، رقم الترجمة : 544 .
(3) - المصدر السابق ، 2/248، رقم الترجمة : 544 .
(4) - نشأة الحركة الإباضية ، ص168 ـ تاريخ المغرب الكبير ، 3/621.
(1/44)
وقد سقطت الدولة الرستمية على يد أبي عبد الله الشيعي داعية الفاطميين ، فقضى على دولة إسلامية عظيمة ، عاش تحت ظلها من ينتمي إلى مختلف المذاهب ولهم حقوقهم المصانة ، وأحرق تراثا ضخما ساهم في بناء الحضارة الإسلامية ، والله المستعان على ذلك ، وعند الله تجتمع الخصوم (1) .
وأكتفي بهذا القدر ، وأحمد المولى القدير على إتمام هذا العمل ، فإن أصبت فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان ، وأدعوه تعالى أن يجعل هذا العمل في ميزان حسناتي إنه على ذلك قدير وبإجابة الدعاء قدير .
وأختم مقالي هذا بقصيدة للشيخ العلامة المجاهد سليمان باشا الباروني رحمه الله ، نظمها وهو يتجول في الآثار الباقية من الدولة الرستمية حيث أنه قام بزيارة موقع الدولة الرستمية ، فقال والقلب في حسرة وانكسار ، والدمع ينحدر من العين مدرار ،كما وصف حالته :
قفا نبك أطلالا تقلص ظلها :: ونندب آثار الذين بقوا ذكرا
بني رستم من قام بالعدل ملكهم :: فأمست بهم تيهرت كالروضة الزهرا
تحف بها الأنهار والزهر باسم :: بروض بساتين هي الجنة الخضرا
أقاموا منار الدين دهرا وشيدوا :: معالمه واستسهلوا البر والبحرا
فكم نظموا جيشا وكم نشروا عدلا :: وكم هندوا سيفا وكم ضربوا تبرا
وكم من حصون أحكموا ومعاقل :: وكم مسجد أحيوا وكم عمروا قطرا
وظل لواء النصر يخفق فوقهم :: وتيهرت دار العلم والدولة الكبرا
فكم من أمير تحت ظل ابن رستم :: تقلد فيها السيف واكتسب الشكرا
__________
(1) * - من أراد الإطلاع على تاريخ الدولة الرستمية ، ووضعها السياسي والاقتصادي والمعماري ، فليراجع المقالين اللذين شاركت بهما قبلة فترة في " سبلة الدين " تحت عنوان : " الدولة الرستمية دولة إسلامية تجاهلها التاريخ " ، وهو موجود في موقع الأمل المشرق :
www.alaml.net ، ومقال آخر تحت عنوان " نشأة الدولة الرستمية " ، وهو موجود في موقع مكتبة الندوة العامة : www.alnadwa.net
(1/45)
وكم من إمام كان في الدين حجة :: وكم في سياسات الملوك ترى بدرا
فأمست خلاء تذرف الدمع حولها :: عيون بها قرٌت وسادت بها دهرا
كذا الدهر خوان فيضحك تارة :: ويبكي مرارا صاغ من حلوه المرّا
أيا دار كم عمرت والسعد مقبل :: عليك وكم بالعلم سادت بك الغبرا
عمرت وعمرت البلاد سويعة :: من الدهر كانت من نوادره الغرا
يشد إليك الرحل من كل وجهة :: بك العيش رغد طيب وبك الأخرى
فهل فيك من يدري وقوف متيم :: يكفكف دمعا نادبا مربع الذكرا
يئن أنينا يجرح القلب والكلى :: يفتت أكبادا ولما يطق صبرا
سلام سلام من قلوب كئيبة :: تسائل أطلالا ولم تكتسب خبرا
على معهد الإسلام والدين والهدى :: وربع ملوك كان ملكهم صدرا
ألا أيها الخل المرافق قف وقل :: حيال ديار طالما جبرت كسرا
سقى الله تيهرت بوابل رحمة :: يجدد ذكراها ويحيي لها فخرا
وآه وهل يحيي التأوه ميتا :: ومن ذا يرى عمرانها مرة أخرى
بعيد بعيد لكن الله ربنا :: قدير على أن المغيب لا يدرى (1)
هذا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الغر الميامين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
- المصادر والمراجع :
أبو إسحاق الحضرمي ، مختصر الخصال ، وزارة التراث القومي والثقافة ، سلطنة عمان ، 1404هـ / 1984م .
أبو فرج الأصفهاني ، الأغاني ، ج20 ، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر ، بيروت ، لبنان .
أحمد بن سعيد الدرجيني ( أبو العباس ) ، كتاب طبقات المشائخ بالمغرب ، ت : إبراهيم طلاي ، ج1 ، ج2 .
أحمد بن سعيد بن عبد الواحد الشماخي ، كتاب السير ، ت : أحمد بن سعود السيابي ، ج1، ج2 ، وزارة التراث القومي والثقافة ، مسقط ، سلطنة عمان ، 1407هـ / 1987م .
ابن الصغير ، أخبار الأئمة الرستميين ، ت : د/ محمد صالح ناصر و إبراهيم بحاز ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت ، لبنان ، 1406هـ / 1986م .
__________
(1) - أنظر القصيدة في : الأزهار الرياضية ، 2/305 .
(1/46)
ابن حجر ، تهذيب التهذيب ، ج1 ، ط1 : 1412هـ / 1991م ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، لبنان ؛ ج 10 ، ط1: 1404هـ/1984م ، دار الفكر .
بالحاج بن عدون قشار ، اللمعة المضيئة في تاريخ الإباضية ، مكتبة الضامري ، السيب ، سلطنة عمان ، ط2 : 1411هـ / 1990م .
بحاز وآخرون ، معجم أعلام الإباضية ، ج2 ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت ، لبنان ، ط2 : 1421هـ / 2000م .
الذهبي ، سير أعلام النبلاء ، ج 6، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، لبنان ، ط7 : 1410هـ / 1990م .
رجب محمد عبد الحليم ، الإباضية في مصر والمغرب وعلاقتهم بإباضية عمان والبصرة ، مكتبة الضامري للنشر والتوزيع ، السيب ، سلطنة عمان .
سالم بن حمد بن سليمان الحارثي ، العقود الفضية في أصول الإباضية ، لا يوجد اسم لدار النشر ولا لسنة النشر .
سالم بن حمود السيابي ، عمان عبر التاريخ ، ج1، وزارة التراث القومي والثقافة ، سلطنة عمان ، المطبعة الشرقية ، سلطنة عمان .
سعيد بن مبروك القنوبي ، الإمام الربيع بن حبيب مكانته ومسنده ، مكتبة الضامري ، السيب ، سلطنة عمان ، ط1 : 1416هـ/ 1995م .
سليمان الباروني ( أبو الربيع ) ، مختصر تاريخ الإباضية ، لا يوجد اسم لدار النشر وسنة الطبع .
سليمان بن عبد الله الباروني ( باشا ) ، كتاب الأزهار الرياضية في أئمة وملوك الإباضية ، ج2 ، دار بوسلامة ، تونس .
عبد الله بن حميد السالمي ، شرح الجامع الصحيح ، ج1 ، المطابع الذهبية ، روي سلطنة عمان .
علي يحيى معمر ، الإباضية بين الفرق الإسلامية عند كتاب المقالات في القديم والحديث ، ج2 ، وزارة التراث القومي والثقافة ، سلطنة عمان ، مطبعة المدينة ، الخوض ، سلطنة عمان ، ط4: 1421هـ / 2000م .
علي يحيى معمر ، الإباضية في موكب التاريخ ، الحلقة (2) ، مكتبة الضامري ، السيب ، سلطنة عمان ، ط2 : 1993م .
عوض محمد خليفات ، نشأة الحركة الإباضية ، مطابع دار الشعب ، عمان ، الأردن ، 1978م .
(1/47)
مالك بن أنس ، الموطأ ، ج1، ت: د/ بشار عواد وآخر ، ط2: 1413هـ/1993م ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، لبنان .
محمد بن أحمد البنا المقدسي ، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، لبنان ، 1408هـ / 1988م .
محمد بن إدريس الشافعي ، الأم ، ج1 ، دار المعرفة ، بيروت .
محمد صالح ناصر ، منهج الدعوة عند الإباضية ، مكتبة الاستقامة ، مسقط ، سلطنة عمان ، 1418هـ / 1997م .
محمد علي دبوز ، تاريخ المغرب الكبير ، ج3 ، دار إحياء الكتب العربية ، ط1: 1383هـ / 1963م .
محمد عيسى الحريري ، الاتجاهات المذهبية في اليمن حتى نهاية القرن الثالث الهجري ، عالم الكتب ، بيروت ، لبنان ، ط2 : 1417هـ / 1997م .
(1/48)

هناك تعليقان (2):