الخميس، 20 مارس 2014

الحداثة و سؤال التغيير عند الجابري



الحداثة و سؤال التغيير عند الجابري

كيف ينظر الجابري إلى الحداثة و كيفية حدوثها في المجتمعات العربية و الإسلامية، فحديثه عن المنهج و كيفية نظرته إلى التراث  و قراءته له، تبرز، بل هي أساس مشروع الجابري،« ما فتئ الأستاذ محمد عابد الجابري يذكر أن مشروعه الفكري كان هو دوما خدمة لمسألة " الحداثة". إلا أن هذه "الخدمة" ما كانت هي لتمر عنده إلا بواسطة "التأصيل للحداثة في ثقافتنا العربية". و ما كان يمكن لهذا "التأصيل" أن يتم إلا "بتوسل تحديث التعامل مع التراث"  و توسطه»(1).
إن "سؤال الحداثة" عند الجابري هو سؤال موجه إلى "التراث"، و لذلك فهو قبل أن يبحث في الحداثة بحثا أولا في التراث، و استشكله و أعاد قراءته "قراءة معاصرة"، تلك القراءة التي تجعل من التراث معاصرا لنفسه، و معاصرا لنا في نفس الوقت ، و لذلك كانت المسألة عنده هي مسألة "التراث و الحداثة" بكليهما.
يعرف الجابري  الحداثة بأنها:« لا تعني رفض التراث و لا القطيعة مع الماضي بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسميه بـ"المعاصرة", أعني مواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمي»(2). أكيد أن الرجل في هذا التعريف يؤكد على ضرورة إعادة النظر في التراث سواء في المنهج و الرؤية و الهدف، فهو يدعو إلى "قراءة عصرية للتراث"، و بالتالي  «كان من متطلبات الحداثة، في نظرنا، تجاوز هذا "الفهم التراثي للتراث" إلى فهم حداثي، إلى رؤية عصرية له»(3)، لكن الجابري يجعل لنفسه نفس ثانية، تكلمه و تعترضه فتقول: أن الحداثة هي اهتمام لحاضرها و رؤية لخطابها المعاصر« و ليس في خطاب "الأصالة" الذي يُعنى بالدعوة للتمسك بالأصول و استلهامها»(4). يرد الجابري على هذا الاعتراض فيقول : « و لكن صحيح أيضا أن الحداثة في الفكر العربي المعاصر لم ترتفع بعد إلى هذا المستوى[ أي مستوى الاهتمام بخطاب عصرها و همومه],     فهي تستوحي أطروحاتها و تطلب المصداقية لخطابها من الحداثة الأوربية التي تتخذها " أصولا" لها»(5) .                                                                     
و إذا كنا نتحدث عن" حداثة عالمية" فإن "الحداثة" لا تخرج عن إطارها التاريخي الزمني الثقافي, و بالتالي فهي ,أي" الحداثة", تتنوع و تتعدد  و تختلف من مجتمع لآخر. فالحداثة ظاهرة تاريخية و فترة زمنية تحدها حدود جغرافية تنتهي مدة صلاحيتها. و لهذا نجد الرجل يتحدث عن "حداثات عالمية" وليست هناك حداثة واحدة أو نموذج  واحد يمكن الاقتداء به للوصول إلى" الحداثة" ، و لذلك فالحداثة الغربية، كنموذج تحاول المجتمعات العربية و الإسلامية أن تقتفي أثرها، لكن الجابري يرفض الأخذ بها واقتفاء أثرها, بل الأمر ليس في صالح الدول العربية       و الإسلامية، و إذا وقفنا في "الاستلاب" و" الاغتراب" و "الحجز" ، و "الوصاية", لأن هذه الحداثة الغربية النموذجية «لا تستطيع الدخول في حوار نقدي تمردي مع معطيات الثقافة العربية لكونها لا تنتظم في تاريخها»(6). فقد ثبت لدى الجابري إذن أن "الحداثة" ظاهرة تاريخية و مجتمعية، فلا يمكن فصل "الحداثة" عن "المجتمع", أي عن التراث، و لا وجود لحداثة عربية و إسلامية ما لم تنتظم في تاريخها, و لا وجود أيضا إذن لحداثة عالمية، يقول الجابري : « إنها [الحداثة العالمية الأوروبية] إذ تقع خارجها و خارج تاريخها [أي خارج الحداثة العربية] لا تستطيع أن تحاورها حوارا يحرك فيها الحركة من داخلها ، إنها تهاجمها من خارجها مما يجعل رد الفعل الحتمي هو الانغلاق و النكوص. و إذن فطريق الحداثة عندنا يجب، في نظرنا، أن ينطلق من الانتظام النقدي في الثقافة العربية نفسها و ذلك بهدف تحريك التغيير فيها من الداخل، لذلك كانت الحداثة بهذا الاعتبار تعني أولا و قبل كل شيء حداثة المنهج و حداثة الرؤية, و الهدف : تحرير تصورنا لـ"التراث" من البطانة الإيديولوجية و الوجدانية التي تضفي عليه داخل وعينا، طابع العام المطلق و تنزع عنه طابع النسبية و التاريخية»(7).                                                     
إن الحداثة إذن عند الأستاذ هي تستلزم أن تستنطق التاريخ الذي تنتمي إليه    و تنتظم فيه. و لذلك وجب أولا البحث في هذا التاريخ، و البحث في التاريخ هو بمثابة اشتغال في "التراث"، على هذا الأساس, نجد محمد عابد الجابري، خصص كل وقته للاشتغال و البحث في"تراث" الثقافة العربية الإسلامية، خصوصا في الآونة الأخيرة من خلال ثلاثيته النقدية للعقل العربي(8). و قبل هذه الثلاثية، كتب كتابه " نحن و التراث:قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي" الذي يعتبر بداية مشروعه في مسألة "التراث و الحداثة" ثم في كتابه أيضا "التراث و الحداثة: دراسات و مناقشات" و قد ذهب الجابري بعيدا في هذا المجال إلى أن أصدر في الآونة الأخيرة، ثلاثيته في محاولة لتفسير القرآن الكريم، بل إن الراحل كانت أحلامه، كما يقول ابنه الطبيب عصام، حسب ما نشره موقع (الجزيرة نت)، إثر وفاة محمد عابد الجابري، يقول الإبن أن والده رحل دون أحلام كبيرة، و بقلق فلسفي عظيم، و برغبة ملحة لإتمام مشروعين شغلا باله، و هما عبارة عن كتابين، يحاول الأول أن"يعيد قراءة الأحاديث النبوية من جديد"، و "ينتقد العقل الأوروبي" في الثاني. كل هذه الأمور تبين أن الرجل دائما حمل على عاتقه مهمة، بل هموم و مشاكل الدول العربية و الإسلامية، و يحاول أن يعطي الحلول من داخل التاريخ الذي يعيشون فيه.            
إن الراحل كان دائما يدعو إلى "حداثة عربية" يقول:« فقد ترتب عن هذا، أن" طريق الحداثة" عندنا لا يلزم أن يكون طريقا استكراهيا، و إنما يلزم أن يكون هو سبيلا حوارا نقديا، و هو طريق حواري و نقدي مع التراث»(9). إن "الحداثة" كما رأينا مع الجابري، لا يمكنها أن تأخذ طابع "المطلق" أو "العالمية" أو "الشمولية" أو"الكلية"، أو رسم نموذج واحد "للحداثة" و يستسري على جميع الشعوب و المجتمعات، بل إن لكل مجتمع حداثته الخاصة، و بالتالي يحق لنا الحديث عن"حداثة عربية " أصيلة بمعناها نابعة و متجدرة من تاريخ المجتمعات العربية، و يوضح الجابري هذا الأمرأكثر في قوله: « و الواقع أنه ليست هناك حداثة مطلقة، كلية و عالمية، و إنما هناك حداثات تختلف من وقت لآخر و من مكان لآخر، و بعبارة أخرى الحداثة ظاهرة تاريخية، و هي ككل الظواهر التاريخية مشروطة بظروفها، محددة بحدود زمنية ترسمها الصيرورة على خط التطور، فهي تختلف إذن من مكان لآخر من تجربة تاريخية لأخرى»(10) . و لذلك نجد مثلا الحديث عن "الحداثة الأوروبية" أو "الحداثة اليابانية" أو " الحداثة الصينية" بل أكثر من ذلك فإنه «في أوروبا يتحدثون اليوم عن "ما الحداثة" باعتبار أن الحداثة ظاهرة انتهت مع نهاية القرن التاسع عشر بوصفها مرحلة تاريخية قامت في أعقاب"عصر الأنوار"(القرن الثامن عشر) هذا العصر الذي جاء هو نفسه في أعقاب"عصر النهضة" (القرن السادس عشر ..)»(11) و هذا الأمر من حيث التحقيب، لن نجده في الثقافة العربية     و الإسلامية، فليس هناك اختلاف بين" النهضة " و " الأنوار" و "الحداثة" في العالم العربي و الإسلامي، فهذه المراحل متداخلة فيما بينها، و على هذا الأساس فإن فهمنا"للحداثة" و تصورنا لها سيختلف ، و إن في بعض الجوانب، عن التصور الذي يعطيها لها المجتمع الأوروبي، يقول الراحل «إن الحداثة عندنا، كما تتحدد في إطار وضعيتها الراهنة، هي النهضة و الأنوار و تجاوزهما معًا»(12).                         
إن تحقيق "النهضة العربية" التي طالما تنشدها المجتمعات العربية، و تحقيق"الحداثة التي طالما طمعت فيها الشعوب العربية، رهين بممارسة "العقلانية و الديموقراطية" في مجتمعاتنا. إن سمات الحداثة عند الجابري هي "العقلانية و الديموقراطية"، و لذلك فتحقيقها في المجتمعات العربية مرتبط بممارسة العقلانية في تراثنا، و نبش  لكل ما هو مسكوت عنه، و فضح لأصول الاستبداد و مظاهره. و إذا كانت الحداثة لا تستورد، و لكل مجتمع حداثته، فإن مقومات أو سمات الحداثة بدورها لا تستورد، أي أن العقلانية و الديموقراطية ليستا بضاعة تستورد، بل هما ممارسة حسب قواعد،« و نحن نعتقد أنه ما لم نمارس العقلانية في تراثنا و ما لم نفضح أصول الاستبداد و مظاهره في هذا التراث، فإننا لن ننجح في تأسيس حداثة خاصة بنا، حداثة ننخرط بها و من خلالها في الحداثة المعاصر "العالمية" كفاعلين   و ليس كمجرد منفعلين»(13).
"الحداثة" عند أستاذنا ليست موقفا فرديا، و بالتالي فهي ليست موقفا سلبيا، انعزاليا، ليست انكفاء على الذات. و لذلك فالراحل يرفض الطرح القائل و يعتبره خاطئا،  الذي يأخذ" الحداثة العالمية"، كما هي كحضور مستقل يكفي ذاته بذاته(...)[أي تكفي ذاتها بذاتها]»(14).                                                                                

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق