الأربعاء، 26 مارس 2014

القيم الابعاد الروحية والمادية للصيام

القيم الروحية والمادية للصيام
هي إصلاح النفس والسيطرة علي أهوائها

ومن مظاهر العبادة في رمضان الاعتكاف في العشر الأواخر منه. فرمضان شهر في العام. تركيزا للوقت، وإذكاء لعلاقة الإنسان بالله من أجل تقوية علاقة الإنسان بالعالم وبالناس. والعشر الأواخر منه قمة الزمن في رمضان، نوع من العزلة الروحية مرة في العام بعيدا عن هموم الدنيا بما في ذلك النساء. وقد كان الاعتكاف سنة جاهلية قبل الإسلام استمرت بعده وأقرها الرسول تواصلا مع الماضي. فقد سأل عمر النبي أنه كان قد نذر في الجاهلية أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام فأجابه الرسول (أوف بنذرك). فالوفاء بالنذر عبادة وقيمة إسلامية.

وقته العشر الأواخر من رمضان في الثلث الأخير من شهر الصوم حين يبلغ الصوم الذروة وقبل وداع الشهر الكريم. الاعتكاف راحة من مجموع العلاقات الاجتماعية، الأهل والأقارب والأصدقاء، رجالا ونساء، من أجل تقوية الذات وحتي لا تضيع في تشابك العلاقات الشخصية والاجتماعية وتضعف أمام الآخرين (من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر).

وفيه تتجلي الروح، وتكون أقدر علي الرؤية الصادقة نظرا لشفافية النفس وقدرتها علي قراءة المستقبل وارتياد المجهول (من كان اعتكف فليرجع إلي معتكفه فإني رأيت هذه الليلة ورأيتني أسجد في ماء وطين). فالبدن لا يستطيع إدراك إلا الحاضر من خلال الحواس في حين أن الروح تستطيع استدعاء الذكريات واستشراف المستقبل طالما كانت قادرة علي العمق الداخلي، والتحول من الخارج إلي الداخل حتي يتم التحول من الداخل إلي أعلي. تنعكف علي الذات فتسمو إلي الآفاق.
ولما اعتكف الرسول وأذن لعائشة بالاعتكاف بعد طلبها وأقامت خباء تعتكف فيه ثم قلدتها باقي زوجات الرسول، حفصة وزينب تساءل عن الدافع لذلك (ما حملهن علي هذا البر، أنزعوها فلا أراها). واعتكف في العشر الأواخر من شوال حتي تكون العزلة كاملة ويكون الاعتكاف تاما. وعندما زارته زوجه صفية في اعتكافه خشي الرسول مما قد يدور في قلوب الناس (إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا) متوجها إلي رجلين من الأنصار مرا علي باب المسجد. فالاعتكاف اكتشاف مطلق لعالم الذات وغوص فيها من دون شبهة أو إغراء.

قمة زمان السنة

إذا كان شهر رمضان هو قمة زمان السنة، شهرا من اثني عشر شهرا، وكان الاعتكاف في العشر الأواخر منه قمة زمان هذا الشهر فإن ليلة القدر هي قمة قمتي الزمان، وقت مركز للغاية، ليلة واحدة في العام يقوي فيها الاتصال بين العبد والرب، الاتصال الفكري والروحي. انزل فيها القرآن، بداية الاتصال بين السماء والأرض، في وعي الرسول وإبلاغه للناس.

وهي ليلة المغفرة إذا ما كان قيامها احتسابا لوجه الله وليس طلبا لغنم أو سؤالا لرزق أو استجداء لإحدي مطالب الدنيا. (ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه). هي ليلة الصفاء وعودة النفس إلي براءتها الأولي بعيدا عن هموم الدنيا وأهواء البشر، والمساومات علي الحق وحب المغانم وزيادة الأرزاق.

ووقتها محدد وغير محدد، محدد بالعشر الأواخر من رمضان، وغير محدد لأنها غير معينة اليوم حتي يظل جهد الإنسان قائما في بحبوحة من الزمان، وحرية من الفعل ومن دون ارتباط ضروري بين المنتظِر والمنتظَر، بين السؤال والجواب، أشبه بالتراخي في الوقت في الصلاة، لا هو علي الفور ولا هو قضاء. (تحرروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان). ومع ذلك فإنه يمكن تحديد وقت أيضا غير محدود. فهي ليلة وتر، في التاسعة أو السابعة أو الخامسة في العشر الأواخر (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقي في سابعة تبقي في خامسة). والوتر إشارة إلي التوحيد، وحدانية الله. وبالوتر كان القسم (والشفع والوتر) (3:89). وهو عدد غير قابل للقسمة مثل صفة الواحد
. (فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر).

ولا يكون الانتظار بالساعة واليوم المحددين فذلك انشغال للقلب، وخروج علي الاعتكاف. وليس انتظارا لشيء هابط من السماء يحمل الذهب والفضة والأرزاق. فتلك هموم الدنيا التي أبعدها الاعتكاف. ولا يكون الانتظار علي الأسطح أو من الشرفات والنوافذ بالنظر خلف كل كوكب وحول كل نجم. إذا لمع شاهد الناس جبريل. وإذا برق رأي الناس ملائكة السماء. إنما الانتظار داخلي، مع التركيز علي النفس ومزيد من الإخلاص والتجرد حتي تنفتح طاقة السماء في القلب.

إذا كانت الغاية من الصوم تطهير النفس وتخليصها من الذنوب يكون الصوم صدقة عليها وتكفيرا من الذنوب (فتنة الرجل في أهله وماله وجاره، تكفرها الصلاة، والصيام صدقة). الصيام إذن إصلاح للنفس واتقاء من الفتنة، فتنة الأهل، وحب النساء والأولاد أكثر من حب الحق، والسعي وراء المال غاية في ذاته من أجل جمعه طلبا للثراء وليس للإنفاق علي النفس والسعي في مصالح الناس، وفتنة الجار والصديق وجماعات الهوي التي تجعل الإنسان يؤثر تقليد الآخرين والتنازل لهم عن متطلبات الوعي الفردي.

السيطرة علي النفس

وإذا ما خرق الصائم صومه نظرا للضعف البشري، وواقع امرأته أثناء النهار فعليه عتق رقبة. فإن لم يستطع أن يخلص نفسه من إسار البدن وأسر الروح فعليه أن يخلص عبدا من إسار الرق. فخلاص الآخر يأتي تعويضا عن الضعف في خلاص الأنا. فإن لم يستطع تحرير العبيد مباشرة فإنه يصوم شهرين متتابعين تقوية لإرادته بعد أن ضعفت، ومرانا لنفسه علي السيطرة علي أهواء البشر وانفعالات النهار. ومن لم يستطع الصبر علي صوم نهار فإنه يكون في حاجة إلي مزيد من التدريب علي السيطرة علي النفس. فإن لم يستطع وكان فقيرا لا يملك تحرير رقبة أو ضعيفا لا يقوي علي صوم شهرين متتابعين فعليه إطعام الفقراء. وإذا لم يشعر بأن إحدي غايات الصوم هو الإحساس بالجوع فعليه أن ينمي هذا الإحساس بإطعام المساكين، ستين مسكينا في يوم واحد أو مسكينا كل يوم علي مدي ستين يوما. فإن لم يستطع وكان فقيرا مسكينا يستحق أن يُطعم وأن يتصدق عليه فإنه يعطي صدقة للتصدق بها علي الفقراء والمساكين مساعدة من الآخرين له، ومساعدة منه للآخرين. فإن تصدق بها علي نفسه فلا يوجد من هو أفقر منه عرف أن الإسلام به رحيم، وأنه كان به كريم مما قد يولد في نفسه الإحساس بالذنب ومقابلة السماحة بالسماحة، ومكافأة الكرم بالكرم، فتطهر النفس، وتقوي الإرادة، وتعظم المقاومة.

ليس الصوم جوعا أو عطشا بل هو إمساك عن الأهواء، وسيطرة علي الانفعالات، وتوجيه للحاجات. الصيام مسرة وفرح وابتهاج. فلا فحش في القول، ولا غضب علي أحد. فالسيطرة علي النفس علم، والتصدي علي الآخرين جهل. والصيام مبادلة الإساءة بالحسنة، والعدوان بالعفو. وأن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك لأنه يترك طعامه وشرابه من أجل طاعة الله. والله يجزي الحسنة بعشر أمثالها. هذه المعاني كلها هي التي حواها حديث الرسول (الصيام جُنــّة فلا يرفُث ولا يجهل. وإن امرئ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم مرتين. والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشاربه وشهوته من أجلي. الصيام لي وأنا أجزي به. والحسنة بعشر أمثالها).
وتزيد رواية أخري (للصائم فرحتان يفرحهما. إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه). فالصيام فرح وبهجة وسرور وليس غما وكربا وهما. يفرح الصائم بعدها بالإفطار أي بالحصول علي نتيجة السيطرة علي الأهواء والانفعالات والمرور في الامتحان بعد الاجتهاد والمثابرة. كما يفرح في الامتحان النهائي بعد لقاء الله وأداء الواجب وحسن التكليف.

الصيام وسيلة للسيطرة علي حاجات البدن، الطعام والشراب والنكاح. الصوم بديل عن الزواج للذين لا يجدون نكاحا وكإشباع بديل للروح. (من استطاع الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج. ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء). الوضع الأمثل هو الزواج، وهو الإشباع الطبيعي. فإن صعب ذلك نظرا لما يقتضيه من مصاريف تأسيس المنزل وإعداد البيت يكون الصيام بديلا مؤقتا عنه، تهذيبا للنفس وتشذيبا للبدن. الطبيعة قبل الصنعة، والإشباع قبل السمو.

والصيام أيضا هو صيام عن الرذائل، عن قول الزور والعمل به (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه). الصوم صدق مع النفس عن طريق التحكم في حاجات البدن وفي الوقت نفسه صيام عن الرذائل عن طريق التحكم في أهواء النفس والكذب علي الحق وشهادة الزور. الصوم إذن مدرسة في الصدق، الصدق مع النفس، والصدق مع الآخرين بعد الصدق مع الله. النفس تعود إلي نفسها، وتنظر في داخلها، وتقوي عالمها، وتعكف علي ذاتها فتكتشف التعالي فيها والمفارقة داخلها، التعالي نحو الله، والمفارقة في العالم نحو الآخرين.

ويظهر في السنة النبوية بوضوح موضوع التوقيت، معرفة بداية شهر رمضان وآخره، اتصالا مباشرا بالطبيعة، ورؤية مباشرة للهلال. (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له). ليس الأمر إذن مجرد حساب فلكي يتم قبل الشهر أو بعده بعام أو بعامين أو بعشرات السنين. إنما يتعلق الأمر بالفرح بمظاهر الطبيعة وبدوراتها نظرا لما في القرآن من توجه للتأمل في الكون والاعتبار بالشمس والقمر والكواكب والنجوم. فإن لم تتم رؤية الهلال هنا يأتي التقدير ولكن بعد الاتصال الحي المباشر بالطبيعة.


السنة تعد بالليالي وليس بالأيام
ثم يأتي بعد ذلك تحديد الشهر وعدد أيامه. وتعد السنــّة بالليالي وليس بالأيام، تسعا وعشرين ليلة.
فإن غم القمر ولم يتضح الهلال فإكمال العدة إلي ثلاثين يوما (الشهر تسع وعشرون ليلة. فلا تصوموا حتي تروه فإن غُم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين). فإذا كان الشهر العربي تسعا وعشرين يوما فإن شهرين لا ينقصان ويكملان ثلاثين يوما شهر رمضان وشهر ذي الحجة (شهران لا ينقصان، شهرا عيد رمضان وذو الحجة). فمن صام قبل ذلك وكان ينوي الصيام يوما أو يومين قبل رمضان فله ما أراد. (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم). فالبداية بشهر الصوم في أول يوم فيه فرح، فرح البداية والجدة والانتقال من حال إلي حال. والفرح بالنهاية في خاتمة الثلاثين، فرح النهاية والانتقال أيضا من حال الصيام إلي حال الفطر. ومن هنا أتت أهمية التركيز علي البداية والنهاية، أول يوم وآخر يوم، يوم الغرس ويوم الحصاد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق