الخسف
وهو من
العقوبات العظيمة الفظيعة التي عاقب الله بها بعض العباد والبلاد، فقال تعالى ذكره
مخبرا عما حلّ بقارون ومن معه:)فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ(([1]).
وأخبر النبي عن ذلك الرجل الذي غره ماله ولباسه، فجر ثوبه كبرا
وخيلاء ؛فخسف الله به الأرض، ففي الصحيحين عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أن
النبي قال:( بينما رجل يجر إزاره من
الخيلاء؛ خسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)([2])
وأمر الله نبيه r أن يقول للمشركين الذين يدعون مع الله آلهة
أخرى، فيخلصون العبادة لله في الضراء، ويشركون معه آلهة أخرى في السراء:) أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً(([3]) وقال تعالى:
)قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ(([4]). قال ابن زيد في قوله ) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ(. قال: كان ابن مسعود رضي اللع عنه قال يصيح - وهو
في المجلس أو على المنبر - ألا أيها الناس!
إنه نزل بكم إن الله يقول: ) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ( ، لو جاءكم عذاب من السماء لم يبق منكم أحدا، ) أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ( لو خسف بكم الأرض أهلككم ولم يبق
منكم أحدا، ) أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ(، ألا إنه نزل بكم أسوأ الثلاث. ([5]) وقال
أبو مالك، وسعيد ابن جبير، ومجاهد، رحمهم الله جميعا أن المراد بقوله ) أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ( أن يخسف بكم الأرض . ([6])
وحين أخبر النبي r قومه بقيام الساعة والبعث بعد الموت كذبوه،
واستهزؤا به، واستبعدوا ذلك، قال سبحانه وتعالى:) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء(([7])
ويقول تعالى ذكره:) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (45)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (46)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ(([8]). قال الشيخ
عبد الرحمن السعدي رحمه الله :(هذا تخويف من الله لأهل الكفر والتكذيب وأنواع
المعاصي، من أن يأخذهم بالعذاب على غرة، وهم لا يشعرون: إما أن يأخذهم بالعذاب من
فوقهم، أو من أسفل منهم بالخسف وغيره، وإما في حال تقلبهم وشغلهم وعدم خطور العذاب
ببالهم، وإما في حال تخوُّفهم من العذاب). ([9])
وهذا الوعيد الذي تهدد الله به
المشركين والمخالفين، بين النبي أنه سيكون في آخر هذه الأمة؛ إذا ظهرت فيهم المعاصي
والآثام، ولم ينكروها، كما في حديث أبي أمامة عن النبي قال:( يبيت قوم من هذه الأمة
على طعام وشراب ولهو؛ فيصبحون قد مسخوا خنازير، وليخسفن بقبائل فيها، وفي دور فيها،
حتى يصبحوا فيقولوا: خسف
الليلة ببني فلان، خسف الليلة بدار بني فلان، وأرسلت عليهم حصباء حجارة كما أرسلت على قوم لوط،
وأرسلت عليهم الريح العقيم، فتنسفهم كما نسفت من كان قبلهم؛ بشربهم الخمر، وأكلهم
الربا، ولبسهم الحرير، واتخاذهم القينات، وقطيعتهم الرحم، قال: وذكر خصلة أخرى،
فنسيتها) قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم. ([10])
وأخبر النبي عن وقوعه وتحققه، وأقسم على ذلك، وسئل الرسول متى يكون ذلك؟ وهل له من علامة؟ فقال:(والذي
بعثني بالحق، لا تنقضي هذه الدنيا حتى يقع بهم الخسف والمسخ والقذف. قالوا: ومتى
ذلك يا نبي الله! بأبي أنت وأمي؟ قال: إذا رأيت النساء قد ركبن السروج، وكثرت
القينات، وشهد شهادات الزور، وشرب المسلمون في آنية أهل الشرك الذهب والفضة،
واستغنى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء)([11]).
وأخبر النبي - أيضا - عن جيش يغزو الكعبة فيخسف الله بهم
الأرض، ففي صحيح ابن حبان عن عائشة
t قالت:
قال رسول الله e:( يغزو جيش
الكعبة، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض؛ خسف بأولهم وآخرهم. قالت عائشة:
يا رسول الله! وفيهم سواهم، ومن ليس منهم؟!. قال: يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون
على نياتهم).([12])
ولذا كان النبي يستعيذ بالله منه؛ عبودية لله، وإرشادا لأمته كما نقل ذلك ابن عمر رضي الله عنهما حيث يقول:
لم يكن رسول الله يدع هؤلاء الكلمات حين
يصبح وحين يمسي: (اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي،
اللهم استر عوراتي، وأمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن
شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي). يعني الخسف قال الحاكم: هذا
حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
([13])
وهذه الخسوف التي أخبر عنها النبي ليست هي الخسوف العظمى التي تكون بين يدي الساعة، بل
هي من العلامات العشر الكبرى التي تسبق قيام الساعة، كما في خبر حذيفة بن أسيد
الغفاري قال اطلع النبي e علينا، ونحن
نتذاكر، فقال:( ما تذاكرون؟ قالوا: نذكر الساعة. قال: إنها لن تقوم حتى تروا قبلها
عشر آيات: فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن
مريم عليه السلام، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد
الناس إلى محشرهم).([14])
وهذه الآيات القرآنية والأحاديث
النبوية مخبرة عما سلف وكان من الخسوف التي أهلكت من حلت بدارهم، ومؤذنة بخسوف
مقبلة تباغت أهل اللهو والمجون، فتأخذهم على حين غرة، فينادون ولات حين مناص،
ومنبئة عن خسوف عظيمة هي إحدى العلامات العشر الكبرى التي تكون إرهاصا لقيام
الساعة...وهذه الآيات العظيمة – أعني الخسوف – لا تنكرها العقول، ولا تستعظمها
النفوس، وهي أحداث جسام تهتز لها الأرض، وتضطرب من هولها، وتلتهم ما فوقها، ولعمر
الحق إن ذلك لأمر عظيم جلل، وإن مسخ الإنسان وتحويل صورته إلى صورة أخرى، أهون من
الخسف بالبقاع والبلاد، والكل هين على الله كما قال تعالى في شأن إعادة الخلق يوم
القيامة:)وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُو أَهْوَنُ عَلَيْهِ(([15]). ومع ذلك تجد من يستعظم المسخ، ويحاول أن يؤوله،
ويزعم أنه مسخ معنوي يمسخ فيه الخُلق ولا تتغير الصورة الخلْقية، والكل هين على
الله، والكل جاء فيه الخبر عن الله وعن رسوله ، والكل حادث وواقع فيما مضى، ومتوعد به فيما
بقي، فنسأل الله أن يجنبنا أليم سخطه، وعظيم عقابه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق