المسخ
من أصناف العذاب الأدنى: المسخ، وهو: تحويل صورة
إلى ما هو أقبح منها.([1]) أو هو كما قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: (تشويه
الخَلْقِ والخُلُقِ، وتحويلهما من صورة إلى صورة. قال بعض الحكماء: المسخ ضربان:
مسخ خاص يحصل في العينة وهو مسخ الخَلْق، ومسخ قد يحصل في كل زمان ومكان، وهو مسخ
الخُلق؛ وذلك بأن يصير الإنسان متخلقا بخُلق ذميم من أخلاق بعض الحيوانات، نحو أن
يصير في شدة الحرص كالكلب، وفي الشره كالخنزير)([2]).
ولقد عذب الله به بعض الأمم السابقة،
فمسخ بعضهم قردة وخنازير؛ بسبب مخالفة الأمر والاحتيال عليه، قال تعالى:) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ(([3]). وقال
تعالى:)واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)
فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (165)
فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ(([4]).
ذكر ابن جرير، وابن كثير، وغيرهما
عند تفسير هذه الآية أنهم لما لم ينتهوا عن فعلهم قال الناهون لهم: (يا أعداء الله!
والله لا نبايتكم الليلة في مدينتكم، والله ما نراكم تصبحون حتى يصبّحكم الله بخسف
أو قذف أو بعض ما عنده من العذاب، فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب، ونادوا فلم
يجابوا، فوضعوا سلما، وأعلوا سور المدينة رجلا، فالتفت إليهم، فقال: أي عباد الله!
قردة - والله - تعادى، تعاوى، لها أذناب، قال: ففتحوا فدخلوا عليهم، فعرفت القرود
أنسابها من الإنس، ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة، فجعلت القرود يأتيها نسيبها
من الإنس فتشم ثيابه وتبكي، فيقول: ألم ننهكم عن كذا؟ فتقول برأسها: أي نعم!) ([5])
فالآية مصرحة بأن الله عاقب هذه
الأمة بالمسخ جزاءً لها على عتوها وتمردها، وهو مسخ حقيقي حوّل الله صورهم من
الصورة الآدمية إلى الصورة الحيوانية، وكلام المفسرين على هذه الآية شاهد على هذا
.
وأمر الله نبيه r أن يحذّر أهل الكتاب – إذا كذبوه وخالفوا أمره - أن
يحل بهم ما حل بأسلافهم، قال تعالى:) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ(.([6])
وهذا العذاب البئيس الذي أحلّه
الله بالسابقين ؛ توعد الله به اللاحقين المخالفين من هذه الأمة، فقد أخرج البخاري
رحمه الله عن عبد
الرحمن بن غنم الأشعري، قال حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري- والله ما كذبني-
سمع النبي e يقول:(
ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى
جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم يعني الفقير لحاجة فيقولوا: ارجع إلينا
غدا، فيبيّتهم الله، ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة). ([7])
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ص قال:( أما
يخشى أحدكم، أو ألا يخشى أحدكم، إذا رفع رأسه قبل الإمام، أن يجعل الله رأسه رأس حمار، أو يجعل الله صورته صورة حمار). ([8])
ففي هذين الحديثين الوعيد الشديد
بالمسخ والتحويل إلى هذه الصورة البشعة، ففي الحديث الأول الوعيد على مقارفة
المعصية واستحلالها، وفي الثاني الوعيد على المخالفة للأمر الشرعي والتقصير في
أداء العبادة على الوجه المشروع.
وقد يتساءل متسائل: هل المسخ
المذكور يراد به المسخ المعنوي أو الحسي؟ فأقول: أورد ابن حجر رحمه الله أقوال
العلماء في ذلك، ورجح حمل الحديث على ظاهره وقال :(قال ابن بزيزة: يحتمل أن يراد
بالتحويل المسخ، أو تحويل الهيئة الحسية أو المعنوية، أو هما معا،
وحمله آخرون على ظاهره؛ إذ لا مانع من جواز وقوع ذلك، وسيأتي في كتاب الأشربة
الدليل على جواز وقوع المسخ
في هذه الأمة، وهو حديث أبي مالك
الأشعري في المغازي؛ فإن فيه ذِكْر الخسف، وفي آخره ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى
يوم القيامة، ويقوي حمله على ظاهره أن في رواية ابن
حبان من وجه آخر عن محمد بن زياد:( أن يحول الله رأسه رأس كلب) فهذا يبعد المجاز؛
لانتفاء المناسبة التي ذكروها من بلادة الحمار، ومما يبعده أيضا إيراد الوعيد
بالأمر المستقبل، وباللفظ الدال على تغيير الهيئة الحاصلة، ولو أريد تشبيهه
بالحمار لأجل البلادة لقال مثلا: فرأسه رأس حمار، وإنما قلت ذلك؛ لأن الصفة
المذكورة وهي البلادة حاصلة في فاعل ذلك عند فعله المذكور، فلا يحسن أن يقال له: يخشى
إذا فعلت ذلك أن تصير بليدا، مع أن فعله المذكور إنما نشأ عن البلادة).([9])
وورد عن النبي r حديث يحدد بعض الأماكن التي يكون فيها الخسف والمسخ
والقذف، فعن أنس بن مالك أن رسول الله e قال له:(يا
أنس! إن الناس يمصرون أمصارا، وإن مصرا منها يقال له: البصرة أو البصيرة، فإن أنت
مررت بها أو دخلتها فإياك وسباخها وكلاءها وسوقها وباب أمرائها، وعليك بضواحيها؛
فإنه يكون بها خسف
وقذف ورجف، وقوم يبيتون يصبحون قردة
وخنازير).([10])
وجاء عن النبي أحاديث تحدد علامة حلول المسخ، وذلك إذا فشت المعاصي
والذنوب وتكاثرت، وتغيرت معايير الناس، وتبدلت أحوالهم، فمن ذلك ما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله e:(إذا اتخذ
الفيء دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وتعلم لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته،
وعق أمه، وأدنى صديقه، وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلة فاسقهم،
وكان زعيم القوم أرذلهم، وأُكْرِمَ الرجل مخافة شره، وظهرت القينات والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها؛
فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء، وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا، وآيات تتابع كنظام بال
قطع سلكه فتتابع)، وروى أيضا عن عمران بن حصين أن رسول الله قال: (في
هذه الأمة خسف ومسخ وقذف. فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله! ومتى ذاك؟ قال: إذا
ظهرت القينات والمعازف، وشربت الخمور). ([11])
وروى ابن ماجه في سننه عن سيار عن
طارق عن عبد الله عن النبي قال:( بين يدي الساعة
مسخ وخسف وقذف). ([12])
وروى أبو نعيم في أخبار أصفهان
بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله r: (ليبيتن أقوام من هذه الأمة على طعام وشراب
ولهو؛ فيصبحوا قد مسخوا قردة وخنازير). ([13]) وقال
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :(فظهر بهذا أن القوم الذين يخسف بهم ويمسخون،
إنما يفعل ذلك بهم من جهة التأويل الفاسد الذي استحلوا به المحارم بطريق الحيلة،
فأعرضوا عن مقصود الشارع وحكمته في تحريم هذه الأشياء، ولذلك مسخوا قردة وخنازير،
كما مسخ أصحاب السبت بما تأولوا من التأويل الفاسد الذي استحلوا به المحارم، وخسف
ببعضهم كما خسف بقارون؛ لأن في الخمر والحرير والمعازف من الكبر والخيلاء ما في
الزينة التي خرج فيها قارون على قومه، فلما مَسَخوا دين الله مسخهم الله، ولما
تكبروا عن الحق أذلهم الله، وقد جاء ذكر المسخ والخسف عند هذه الأمور في عدة
أحاديث).([14])
وقال ابن القيم رحمه الله: (وتأمل
حكمته تعالى في مسخ من مسخ من الأمم في صور مختلفة مناسبة لتلك الجرائم، فإنها لما
مسخت قلوبهم وصارت على قلوب تلك الحيوانات وطباعها اقتضت الحكمة البالغة أن جعلت
صورهم على صورها؛ لتتم المناسبة، ويكمل الشبه، وهذا غاية الحكمة. إلى أن قال: وأما
الأخبار التي تكاد تبلغ حد التواتر بمسخ من مسخ
منهم عند الموت خنزيرا فأكثر من أن تذكر ها هنا، وقد أفرد لها الحافظ ابن
عبد الواحد المقدسي كتابا) ([15])
ولأن هذا الأمر مما قد تستثقله بعض
النفوس وتستبعده؛ فقد أكثرت النقول فيه؛ إقامة للحجة، وبيانا للمحجة ، وقطعا لأصل
الشبهة . وما تركته من النصوص وكلام أهل العلم أكثر من ذلك، ولكن يكفي من القلادة
ما أحاط بالعنق .
([12] ) سنن ابن ماجه، ح4059،2/1349، وقال الألباني : وهذا إسناد لا بأس
به في الشواهد، رجاله ثقات رجال مسلم، غير سيار هذا، إلى أن قال: ثم إن للحديث
شواهد كثيرة تشهد لصحته عن عائشة، وعمران بن حصين، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن
عمرو، وسهل بن سعد، وجابر بن عبد الله، وأبي هريرة، وسعيد بن راشد . سلسلة
الأحاديث الصحيحة ح1787، 4/392.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق