السبت، 1 مارس 2014

الإحداث في الدين



الإحداث في الدين

أتم الله الدين، وأكمل النعمة، وختم الرسالات بمحمد  ؛ فكل ابتداع في الدين، واستدراك على الشرع ؛ فهو افتراء على الله؛ وما ذاك إلا لأن المبتدع والمحدث يزعم بلسان حاله أو مقاله أن في الشرع نقصا يستدعي الإكمال، أو أن فيه خلالا يستوجب الاستدراك.
والمراد بالمحدثات: ما أُحْدِث، وليس له أصل في الشرع. ويسمى في عرف الشرع بدعة. وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة. ([1]) 
ولذا كان أئمة السنة متوافرين على إقامة السنة ورفع شعارها، وعلى ذم البدع وإنكارها؛ أخذا من توجيهات القرآن الكريم والسنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، فقد قال تعالى:} إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ{ ([2])، وقال رسول الله  :(من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ([3]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:( وكان أئمة السنة والجماعة كلما ابتدع في الدين بدعة أنكروها ولم يقروها؛ ولهذا حفظ الله دين الإسلام، فلا يزال في أمة محمد طائفة هادية مهدية ظاهرة منصورة، بخلاف أهل الكتاب، فإن النصارى ابتدعوا بدعا خالفوا بها المسيح، وقهروا من خالفهم ممن كان متمسكا بشرع المسيح، حتى لم يبق حين بعث الله محمدا من هو متمسك بدين المسيح إلا بقايا من أهل الكتاب) ([4]). وقال الشاطبي في الاعتصام محذرا من البدع والمحدثات، ومبينا عظيم مغبتها: (فليتق الله امرؤ ربه، ولينظر قبل الإحداث في أي مزلة يضع قدمه في مصون أمره، يثق بعقله في التشريع، ويتهم ربه فيما شرع، ولا يدري المسكين ما الذي يوضع له في ميزان سيئاته، مما ليس في حسابه، ولا شعر أنه من عمله، فما من بدعة يبتدعها أحد فيُعمل بها من بعده إلا كتب عليه إثم ذلك العامل زيادة إلى إثم ابتداعه أولا، ثم عمله ثانيا.وإذا ثبت أن كل بدعة تبتدع فلا تزداد على طول الزمان إلا مضيا حسبما تقدم، واشتهارا وانتشارا؛ فعلى وزان ذلك يكون إثم المبتدع لها، كما أن من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة - وأيضا - فإذا كانت كل بدعة يلزمها إماتة سنة تقابلها، كان على المبتدع إثم ذلك أيضا، فهو إثم زائد على إثم الابتداع؛ وذلك الإثم يتضاعف تضاعف إثم البدعة بالعمل بها؛ لأنها كلما تجددت في قول أو عمل تجددت إماتة السنة كذلك) ([5]).
والقرآن الكريم يدل على أن على مبتدعها إثم من عمل بها إلى يوم القيامة قال تعالى:}لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ{ ([6])، فهم يحملون وزر الضلال والإضلال، ويدل لذلك - أيضا - قوله عليه الصلاة والسلام:( ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء). ([7])   
ولما كان الإحداث في الدين والابتداع بهذه الهوة السحيقة من الضلال والهلاك فقد حذر منه الشارع أيما تحذير، وتوعد عليه بالعقوبات العاجلة والآجلة، ومن هذه العقوبات ما يلي :-
1-      أن يسلط الأشرار على الأخيار فيسومونهم سوء العذاب، كما روى أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله :( لا يزال هذا الأمر فيكم وأنتم ولاته ما لم تحدثوا أعمالا تنزعه منكم، فإذا فعلتم ذلك؛ سلط الله عليكم شرار خلقه فالتحوكم كما يلتحى القضيب).قال الحاكم في المستدرك هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ([8])
وقال ابن منظور: (هو من لحوت الشجرة إذا أخذت لحاءها وهو قشرها...واللحاء ما على العصا من قشرها، ولحاء كل شجرة قشرها، واللحاء: قشر كل شيء، ولحوت العود ألحوه، وألحاه إذا قشرته، والتحيت العصا، ولحيتها التحاء ولحيا إذا قشرتها).([9])
2-      اللعن، وألا يقبل منه صرف ولا عدل، فقد أخرج البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه قال:( ما عندنا شيء إلا كتاب الله وهذه الصحيفة عن النبي e المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا، من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل).([10])
 واللعن فى اللغة: هو الإبعاد والطرد.
 وفى الشرع: الإبعاد من رحمة الله تعالى.([11]) والمراد بلعنة الملائكة والناس: أي تلعنهم، فكما أن العالم يستغفر له كل شيء، فكذلك العصاة تلعنهم كل دابة على وجه الأرض، وقيل المراد به : المبالغة في الإبعاد عن رحمة الله. والمراد باللعن هنا: العذاب الذي يستحقه على ذنبه في أول الأمر، وليس هو كلعن الكافر ([12])
3-      الذلة في الدنيا، والعذاب في الآخرة قال تعالى:}إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ{([13]).قال الشاطبي رحمه الله معلقا على هذه الآية:( فهو عموم فيهم، وفيمن أشبههم من حيث كانت البدع كلها افتراء على الله حسبما أخبر في كتابه في قوله تعالى:}قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاء عَلَى اللَّهِ{([14]). فإذا كل من ابتدع في دين الله فهو ذليل حقير بسبب بدعته، وإن ظهر لبادي الرأي في عزه وجبريته، فهم في أنفسهم أذلاء)([15]).
4-      أن المبتدع يحمل وزره ووزر من تبعه يوم القيامة قال تعالى:}لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ{ ([16]).


([1]) فتح الباري 13/253.
([2]) سورة الأعراف الآية 152 .
([3]) متفق عليه من حديث عائشة، صحيح البخاري ح 2550، 2/959 ، وصحيح مسلم ح 1718 ، 3/ 1343 .
([4])  الجواب الصحيح 4/342 .
([5])الاعتصام 1/ 122.
([6]) سورة  النحل الآية25  .
([7]) صحيح مسلم 2/705 ح 1017 .
([8] )  المستدرك 4/548، والمسند1/458، 5 /247، ومصنف ابن أبي شيبة 7/526،والمعجم الأوسط 8/239،والمعجم الكبير17/262، ومسند الطيالسي1/86، ومسند أبي يعلى8/438. وقال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح. 5/193.
([9]) لسان العرب، مادة لحا 15/242،241.
([10])صحيح البخاري ح 1771، 2/661، واللفظ له، وصحيح مسلم ح 1366، 2/994 .
([11]) شرح صحيح مسلم للنووي 2/67 .
([12]) فتح الباري 4/84 . وانظر تفسير ابن كثير 1/200.
([13]) سورة الأعراف الآية 152 .
([14]) سورة الأنعام الآية 140 .
([15])الاعتصام 1/126
([16]) سورة  النحل الآية25  .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق