الخميس، 27 مارس 2014

التفسير الفقهي من تفاسير الاختصاص



                التفسير الفقهي من تفاسير الاختصاص
يعد التفسير الفقهي من بين ما يمكن تسميته بتفاسير الاختصاص ، وهو التحول الذي عرفه علم التفسير بالانتقال من الإحاطة والشمول إلى الاختصاص ولقد انعكس ذلك على العناوين التي عرفت بها هذه التفاسير .وهكذا وجدت كتب معاني القرآن و إعراب القرآن وغريب القرآن وأحكام القرآن… وهي كتب اختص كل واحد منها بجانب من جوانب القرآن في مقابل الكتب الجامعة مثل جامع البيان للطبري ونحوه. و هذا التطور يشير إليه السيوطي و هو يتحدث عن اهتمام كل ذي علم من العلوم الإسلامية بالتفسير و سعيه إلى إيجاد الحجة من القرآن الكريم لما يذهب إليه يقول :"ثم صنف بعد ذلك قوم برعوا في علوم فكان كل منهم يقتصر في تفسيره على الفن الذي يغلب عليه: فالنحوي ليس له هم إلا الإعراب و تكثير الأوجه المحتملة فيه و نقل قواعد النحو ومسائله و فروعه وخلافياته كالزجاج و الواحدي في البسيط و أبى حيان في البحر و النهر. و الإخباري ليس له شغل إلا القصص و استيفاؤها و الإخبار عمن سلف، سواء كانت صحيحة أو باطلة كالثعلبي. والفقيه يكاد يسرد فيه الفقه من باب الطهارة إلى أمهات الأولاد ،وربما استطرد إلى إقامة أدلة الفروع الفقهية التي لا تعلق لها بالآية، والجواب على أدلة المخالفين كالقرطبي " ومع ما يلاحظ على قول السيوطي من مبالغة إلا أنه يبقى مع ذلك محددا لخاصية من خصائص التفسير الفقهي وهي تناول القرآن الكريم من زاوية فقهية محضة على غرار تناول علماء آخرين القرآن من زاوية اختصاصاتهم العلمية ضمن ما أسميناه تفاسير الاختصاص.
الاختلاف في عدد آيات الأحكام
يختص التفسير الفقهي كما تقدم بآيات الأحكام وقد اختلف العلماء في تحديد عددها ، وتأتي إشارتهم لهذا الموضوع عند الحديث عن شروط المجتهد ومن ذلك ما قاله الغزالي في المستصفى :"لا يشترط معرفة جميع الكتاب بل ما تتعلق به الأحكام منه وهو مقدار خمسمائة آية" وتابع الغزالي في هذا العدد الرازي وابن العربي .
في حين ذكر غيرهم أنها لا تتعدى المائة والخمسين أو المائتين ومن أولئك صديق بن حسن القنوجي الذي يقول :" وقد قيل إنها خمسمائة آية وما صح ذلك و إنما هي مائتا آية أو قريب من ذلك وإن عدلنا عنه وجعلنا الآية كل جملة مفيدة يصح عن أن تسمى كلاما في عرف النحاة كانت أكثر من خمسمائة آية "
وممن تعرض لعدد آيات الأحكام وحددها في مائتين أحمد أمين الذي يسميها الآيات القانونية فيقول :"هذه الآيات القانونية أو كما يسميها الفقهاء آيات الأحكام ليست كثيرة في القرآن ، ففي القرآن نحو ستة آلاف آية ليس منها مما يتعلق بالأحكام إلا نحو مائتين وحتى بعض ما عده الفقهاء آيات أحكام لا يظهر أنها كذلك "
وفي مقابل الاتجاه إلى تحديد عدد آيات الأحكام إتجه فريق آخر من العلماء إلى عدم حصرها بعدد محدد ومن هؤلاء الشوكاني الذي يقول :" ودعوى الانحصار في هذا المقدار إنما هي باعتبار الظاهر للقطع بأن في الكتاب العزيز من الآيات التي تستخرج منها الأحكام الشرعية لأضعاف أضعاف ذلك بل من له فهم صحيح وتدبر كامل يستخرج الأحكام من الآيات الواردة لمجرى القصص والأمثال ، قيل ولعلهم قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام دلالة أولية بالذات، لا بطريق التضمن والالتزام"
ويؤكد نفس المعنى العز بن عبد السلام بقوله إن معظم آي القرآن لا تخلو من أحكام مشتملة على آداب حسنة و أخلاق جليلة وان الله جلت قدرته إنما ضرب الأمثال تذكيرا ووعظا فما اشتمل منها على تفاوت في ثواب أو على إحباط عمل ،أو على مدح أو ذم أو نحو ذلك فإنه يدل على الأحكام.
هذا ولعل السبب في الاختلاف في تعداد آيات الأحكام يرجع إلى نقطتين رئيسيتين :
الأولى :ما هو المراد بالحكم الفقهي ؟ إن كان المراد به كل شيء مأمور به أو منهي عنه يقرب من الله أو يبعد عنه فان عدد آيات الأحكام يكون كثيرا جدا مثلا قوله تعالى :"ولا تلبسوا الحق بالباطل " فمن نظر إلى التعميم في الحكم بأن جعله يشمل كل المأمورات وكل المنهيات جعل هذه الآية من آيات الأحكام . و بهذا المقياس تعتبر آيات القصص والأمثال وما يتعلق بالنفس الإنسانية وغيرها من آيات الأحكام .أما إذا استثني ما عدا ما هو صريح باشتماله على أحكام فقهية خالصة فإن عددا مهما من الآيات لا يلتفت إليها في التفسير الفقهي . فتضيق دائرة آيات الأحكام .
الثانية :اختلاف العصور وتعاقب المذاهب والنظرات المختلفة للفقه وللأصول وللأحكام جعل الأنظار تختلف والمقاييس تتعدد ، حيث إن كثيرا من الآيات التي يظن أنها مجرد قصة ربما أخذها فقيه وجعلها من آيات الأحكام . وذلك مثلا قوله تعالى في قصة شعيب مع موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام :" قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج ،فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين " استدل بها الفقيه على أن المهر يمكن أن يكون منفعة .
والذي أراه راجحا في هذه المسألة قول من قال بعدم حصر آيات الأحكام بعدد معين ما دام الأمر يرجع إلى ملكة العالم وطاقته وقدرته على الاستنباط،في ارتباط مع متطلبات كل عصر وما يجد فيه من القضايا والنوازل.
وهذه المسألة وإن بدت ثانوية فإن لها أهمية خاصة ، ويتأكد ذلك كلما استحضرنا من يحاول جاهدا نفي المقصد التشريعي من القرآن الكريم معتمدا في ذلك على عدد آيات الأحكام. التي يتجه إلى التقليل منها مستعينا بكل ما يخدم غرضه ومقصده مثل توظيف الناسخ والمنسوخ لتقليل العدد ما أمكن ! وهكذا وجدنا أحدهم يقول مثلا:"يجب اعتبار منظومة الناسخ والمنسوخ فمفعولها لا يكون إلا بالتخفيض في عدد آيات الأحكام…إن الآيات التشريعية …تبلغ 200 آية فقط نسخ (ألغي ) منها حوالي مائة وعشرين آية والباقي من الآيات التشريعية السارية حتى الآن مجرد ثمانين آية" وهكذا بحسب هذا الزعم ليس في القرآن أكثر من ثمانين آية تشريعية ! وهو قول بعيد كل البعد عن الصواب.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق