الاثنين، 3 مارس 2014

دور الاجتهاد في تطوير الفكر الإسلامي



دور الاجتهاد في تطوير الفكر الإسلامي

الاجتهاد مؤسسة إلهية إسلامية مستمرة إلى نهاية الدنيا فرضها الله على القادرين عليها من عباده ليتيح بها إعمال الفكر البشري لإغناء التشريعات والتنظيمات التي جاءت بها مصادر التشريع الإسلامي التي عُنيت بأصول الأحكام وبعض فروعها، ولمواجهة التطورات المستجدة في كل عصر ومكان بالإجابة الشرعية عليها باستنباط أحكامها من المصادر الشرعية، حتى لا تبقى في التشريع الفقهي ثغراث، وحتى لا تُطرح على المجتمعات المتعاقبة عبر القرون تساؤلات عن أحكام المستجدات تظل بدون جواب، أو مشاكل تضيق عن الحلول، ليبقى الإسلام بهذا الجهد الفكري المتواصل صالحا لكل زمان ومكان، مشرق الصورة، متصفا بالكمال الذي جاء التسليم به على لسان الحق في آخر ما نزل من القرآن في حجة الوداع : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا "(سورة المائدة 5 الآية 3)، وحتى يبقى الدين ما بقي الدهر: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون "(سورة الحِجْـر 15 الآية 9).

إن صلاح الإسلام لكل زمان ومكان، وقدرة علمائه على التوصل إلى معرفة أحكام المستجدات شرعا لا تضمنها بعد ختم الرسالة وانتهاء الوحي إلا مؤسسة الاجتهاد التي هي مؤسسة إلهية جعل منها الإسلام شعيرة تعبدية للمجتهد فيها أجران إن أصاب وأجر إن أخطأ. وهي ضمن استخلاف الله لعبده الإنسان في الأرض ليقوم بالحفاظ عليها وإصلاحها وتطويرها، وتهذيب سلوك المخلوقات الموجودة فوقها، وتربيتهم على المنهج الإسلامي المرتكز على نمط سلوك وقيم يرضى اللـه عنها ويثيب عليها.

إن المجتهد إذا أصاب فقد قام بدور النيابة عن اللـه فيما استنبط من أحكام شرعية بهدي من الله وتوفيقه." فمن يرد اللـه أن يهديه يشرح صدره للإسلام " (سورة الأنعام 6 الآية 125) إيمانا واعتقادا واجتهادا واستنباطا، "ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا" (سورة الأنعام 6 الآية 125) كفرا وغواية وضلالا وتحجرا فكريا وتقليدا.

وقد دعا النبي عليه السلام لعبد اللـه بن عباس أن يفقهه اللـه في الدين ويعلمه التأويل فاستجاب اللـه دعاء نبيه وشرح اللـه صدر ابن عباس لتفسير القرآن والتفقه في الدين وعلمه التأويل بالاجتهاد للتوصل لصائب الفهم.

وإن من أعظم ما يميز الإسلام عن سائر الأديان أنه جاء دين تحرير للبشرية : حررها من كل سلطة إلا سلطة الله، وأخضع الأرض لهذه السلطة العليا. فالله أكبر من كل سلطة. إليه تعنو الوجوه ويذل الأعزاء. وميز الله الإنسان عن سائر المخلوقات وكرمه فأودع فيه الفكر الثاقب والذهن النافذ، ليستعملهما فيما خلقهما الله له مطلقَيْن من كل حجر وقيد، وإنما في حدود تعاليم الإسلام القيّمة، وقيمه الخيرة المقدسة.

ولقد جاء الإسلام بتعاليم تسائل وتجيب، وقرنها بتقبل الفكر لها وإيمان القلب بها حتى وصل اجتهاد بعض الفقهاء إلى تكفير المقلد. كما حفل القرآن بتمجيد الفكر والعقل والاستنجاد بهما للتدليل على وجود الله والإيمان بانفراده بالخلق والأمر.كما فتح آفا ق التفكير واسعة للنظر في ملكوت اللـه من أرض وسماء وفضاء بحثا عن الحقيقة واكتشافا للمجهول، واهتداءا إلى الأرشد والأنفع. ولم يحفل كتاب سماوي بمثل ماحفل به القرآن الكريم من حث على فك الفكر من عقاله، واستعماله وتنشيطه وحفزه على إثراء المعلومات الحسية والمعنوية وإخصاب مشارب المعرفة والعلم، وانطلاقه للاجتهاد الدؤوب البناء، لتستمر قيم الإسلام مدى الدهر صالحة غضة نقية.

وإن عَلِم ونَظَر وبَصَر وعَقَل وفكَّر ومشتقاتها قد بلغت في القرآن عددا هائلا من الأفعال والأسماء والنعوت والمصادر مفردات وجمعا، ووردت جميعها في سياق الإشادة بالعقل والفكر وحسن البصيرة ودقة التبصر في ملكوت السماوات والأرضين، وترويض ملكات الإنسان على الفهم والاستنباط والاستنتاج. وقد اعتبر بعض مفسري القرآن أن الآيات الممجِّدة للعقل والـحَاثة على استعماله ومنها آية: "فاعتبروا يا أولي الأبصار" إشارة إلى الأخذ بالاجتهاد. فالاعتبار هو قياس الأشياء على نظائرها. وهذه هي قاعدة الاجتهاد الأساسية. واستدلوا بها على تحريم قطع الاجتهاد وإيقاف مؤسسته عن العمل.

2- الرسول مؤسس الاجتهاد

رغم الخلاف الذي ثار بين علماء الأصول والتشريع حول وقوع الاجتهاد من الرسول عليه السلام وعدمه، فإن الواقع يشهد بأنه قد اجتهد فيما لم ينزل به عليه وحي من القرآن، ولا ألهم إياه بالسنة، وذلك لسن القدوة به للمسلمين للأخذ بالاجتهاد واستنباط الأحكام للفروع، وإرجاع الجزئيات إلى قواعدها الكلية. وهذا هو ما عليه جمهور الفقهاء.

إن مؤسسة الاجتهاد سن قواعَدها الأولى الرسولُ نفسه، وكانت تواكب نزول الوحي وذلك بالنسبة للقضايا الفرعية الدنيوية، حتى يكون الإسلام مكتمل التشريع بالنسبة للدين والدنيا معا. أي أن مؤسسة الاجتهاد نشأت مع نشأة الدعوة الإسلامية في مطلع البعثة النبوية.

وكان النبي يربي في مدرسة الاجتهاد الصحابة المحيطين به، وخاصة من كان من بينهم قادرا على إبداء الرأي. كان يستشيرهم في بعض المستجدات فيشيرون عليه. فالله أمره بطلب مشورة المؤمنين في قوله:"وشاورْهُم في الأمر" (سورة آل عمران 3 الآية 159). وكان يرجّـح بين آراء صحابته ويعتمد منها ما يظهر له أفضل وأنسب وأقرب إلى المنهج الإسلامي أو ما يلبي حاجة المسلمين الظرفية.

ولا نحتاج إلى القول إن اجتهاد الرسول كان مقتصرا على شؤون دنيوية، فالوحي كان يغنيه عن الاجتهاد في أحكام الشرع التي جاء بها القرآن وأحصاها بعض العلماء وحصروها في خمسمائة آية، ورفعها بعضهم إلى تسعمائة أو تزيد. كما كانت السنة تغنيه عن الاجتهاد. وقد أوصل الفقهاء أحكامَ السنة الشرعيةَ إلى خمسة آلاف حديث.

واجتهادات الرسول فيها لم ينزل به وحي كثيرة ومفصلة في مراجعها المتعددة.

3- والرسول يشجع صحابته على الاجتهاد

وقد سجلت السيرة النبوية وقائع حية عن تشجيع الرسول للصحابة على ممارسة الاجتهاد بحضوره وغيابه والتفويض لبعضهم فيه. وكل ذلك مشروط بما يقبل الاجتهاد مما لم يُنص عليه بالوحي في القرآن ولم يرد في السنة.

وكان النبي يفوض لبعض أصحابه الاجتهاد عند الضرورة كوجودهم بعيدين عنه. ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في حواره مع مُعاذ بن جبل عندما عينه قاضيا على اليمن وسأله: " بم تقضي يا معاذ ؟ " فقال مُعاذ : " بما في كتاب اللـه " فسأله النبي : " فإن لم تجد في كتاب اللـه ؟ "فقال مُعاذ : " أقضي بما قضى به رسول اللـه ". فسأله النبي : " فإن لم تجد فيما قضى به رسول اللـه ؟ " فقال مُعاذ : " أجتهد برأيي ولا آلو ". فقال عليه السلام : "الحمد  للـه الذي وفق رسولَ رسول اللـه ".

ولنلاحظ هنا أن مُعاذا استعمل تعبير أجتهد الذي يشير إلى مصدر الاجتهاد الذي أصبح مصطلحا للبحث عن استنباط الحكم الشرعي من أصوله.

4- عصور الاجتهاد في تاريخ الإسلام

يُقسَّم تاريخ الاجتهاد في الإسلام إلى أربعة عصور :

الأول : هو عصر اجتهاد الرسول وصحابته طيلة عهد البعثة والرسالة. و ينتهي بوفاة الرسول. و قد تقدم الحديث عنه قبل.

و الثاني : هو عصر ما بعد وفاة الرسول وقيام خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة. و هي فترة ابتدأت بخلافة أبي بكر الصديق سنة 11 هجرية و استمرت إلى قيام عهد معاوية ابن أبي سفيان و تنازل الحسن بن علي له.

والثالث : هو العصر الأموي ويبتدئ بنهاية الخلافة الراشدة سنة 41 هجرية وينتهي بأوائل القرن الثاني الهجري.

والرابع : عصر المذاهب أو عهد التدوين. ويطلق عليه العصر الذهبي. ويبتدئ من أوائل القرن الثاني الهجري ويمتد إلى منتصف القرن الرابع.

وجاءت بعد ذلك فترة خامسة هي عصور توقف الاجتهاد والاكتفاء بالتقليد والاتباع. وهي فترة ما تزال مستمرة إلى قرننا هذا إذا ما استثنينا بعض الجهود المعاصرة لإغناء الفقه باجتهادات فردية أو جماعية محدودة لا تملك سلطة فرض اجتهاداتها على المجتمع الإسلامي عبر العالم ككل لا يتجزأ.

ولقد غني الفقه الإسلامي بمعالجته للنوازل والمستجدات التي واجهت الإسلام على طريق امتداده عبر المعمور. وهي مستجدات وضعت على الفكر الإسلامي تساؤلات عن حكمها الشرعي، فاهتدى بتخصيب الاجتهاد إلى معرفة أحكامها. ووجد المسلمون في اختلاف المذاهب حول أحكامها رحمة وسَعة، ولم تبق ثغرة في التشريع إلا سدها الاجتهاد، مما ظهر معه الإسلام بفضل هذا النشاط الفكري المبدع على أنه دين ودنيا، ونمط حياة كامل، دين يساير التطور ولا يعاكسه، قادر على الإجابات على التساؤلات المطروحة، دين لا يتجاوزه التطور، دين صالح لكل زمان ومكان مهما اختلفت التطورات، وتنوعت البيئات العالمية التي يحل بها.

كانت للأقطار التي دخلت في الإسلام خارج الجزيرة العربية ضمن الأمبراطوريتين الفارسية والرومانية تنظيمات متميزة في جميع المجالات والميادين : تنظيمات في الحكم والسياسة، وفي المجالات الزراعية والتجارية والاقتصادية والاجتماعية. وكان فيها الصالح المفيد والمعوج الفاسد، فكان هَمّ الاجتهاد الفقهي أن يتبنى حَسَنها ويجد له مبررا شرعيا في أصول الإسلام، وأن يقوِّم معوجّـها ليصبح صالحا مسايرا لتعاليمه، وحرَّم ما وجده منافيا لأصل الشريعة ومنطوقها وروحها فاستبعده، وأبقى على الأعراف والعادات التي لا تخل بالمنهج الإسلامي ولا تجافيه.

وبذلك تعمقت اجتهاداتُ الفقه شؤونَ الحكم والسياسة والزراعة والتجارة والمال والاقتصاد، وهي مجالات إن لم تكن كلها جديدة على التشريع فإن تقنيات تعاملها كان أكثرها جديدا بالنسبة للمسلمين الذين أصبحوا في مراكز الحكم والسلطة.

وبذلك بدا الفكر الاجتهادي الإسلامي وكأنه في مسابقة مع الزمن والتطور حتى لا يعطل جمودُه الإسلامَ عن اقتعاد مكانته كدين حضاري في المجتمعات التي التحقت به.

ولا بد لنا - ونحن نتحدث عن ازدهار الفقه بالاجتهاد - في هذا العصر أن نفرق بين الشريعة والفقه. فالشريعة هي الدين الإلهي الذي جاء في القرآن والسنة الثابتة عن الرسول. وهي أسمى تعاليم الإسلام. وتقتعد في المنهج الإسلامي القمة في سُلم التشريعات. وما يأتي بعدها يجب أن يكون تابعا لها ومتفقا مع أحكامها على غرار ما يسمى اليوم في القانون الدستوري بدستورية القوانين، فالقوانين كلها تخضع وتتبع التسلسل القانوني. والدستور أسمى قانون، والقوانين تابعة له وتُلغَى إذا ظهر عدم دستوريتها أي مطابقتها للدستور. والسنة هي أقوال النبي وأفعاله وتقريراته، ولا يمكن أن تكون مخالفة لمنهج القرآن (الدستور الإسلامي الأسمى) وما جاء به.

أما الفقه فهو فكر بشري اجتهادي يدرس ويستنبط الأحكام الشرعية من أصول الشريعة لتتقيد المجتمعات الإسلامية بها وتحكم بها وتُغني نظمها وتجعل حياتها منضبطة بضوابط، لكن هذه الأفكار قابلة للمراجعة وإعادة النظر في مضامينها، ولا كذلك مضامين الشريعة التي هي ثوابت لا تقبل التغيير.

5- عصر التقليد والاِتـِّباع

في منتصف القرن الرابع الهجري طُوي عصر المجتهدين والتدوين وعصر الفقه الذهبي، ودخل المسلمون في عهد تقليد المذاهب الفقهية التي كانت في العصر المتقدم، فاقتصروا على العمل بها ولا سيما المذاهب الأربعة التي انتشرت على طول دار الإسلام وساد كل منها قطرا أو أقطارا إسلامية.

وقد ورد في "كتاب الإنصاف في بيان سبب الاختلاف" للدَّهْـلوي وصف لما آل إليه وضع التقليد في زمانه مما حدث بعد المائة الرابعة واستمر بعدها فقال : "ثم بعد هذه القرون كان أناس آخرون ذهبوا يمينا وشمالا، وحدثت فيهم أمور، منها الجدل والخلاف في علم الفقه. ومنها أنهم اطمأنوا بالتقليد ودب التقليد في صدورهم دبيب النمل وهم لا يشعرون. ومنها إقبال أكثرهم على التعمقات في كل فن، فمنهم من زعم أنه يؤسس علم أسماء الرجال ومعرفة مراتب الجرح والتعديل، ثم خرج من ذلك إلى التاريخ قديمه وحديثه. ومنهم من تفَحَّص عن نوادر الأخبار وغرائبها، ومنهم من أكثر القيل والقال في أصول الفقه. واستنبط كلٌّ لأصحابه قواعد جدلية، وأورد فاستقصى، وأجاب فتقصَّى، وعَرَّف وقَسَّم فحرَّر، وطوَّل الكلام وتارة اختصر. ومنهم من ذهب يفرض الصور المستبعَدة التي لا يتعرض لها عاقل" (انتهى الاستشهاد).

إن هذا الحد الجامع المانع -كما يقول المناطقة- المشخِّص لوضع التقليد في عالم الإسلام تُغني شهادته الحية عن كل إضافة أو تعليق، لكنه يَغْنَى ويتعزز بشهادة أخرى جاءت من المؤرخ الاجتماعي عبد الرحمان ابن خلدون في مقدمته حيث كتب ما يلي : "ووقف التقليد في الأمصار عند الأئمة الأربعة. وسد الناس باب الخلاف وطـرْقه لمّا كثر تشعب الاصطلاحات في العلوم، ولمّـا عاق الوصول إلى رتبة الاجتهاد، ولمّا خُشِي من إسناد ذلك إلى غير أهله ومن لا يوثق برأيه ولا بدينه، فصرَّحوا بالعجز والإعواز وردوا الناس إلى تقليد هؤلاء، كلٌّ بما اختص به من المقلدين، وحظروا أن يُتداول تقليدهم لما فيه من التلاعب، ولم يبق إلا نقل مذاهبهم وعمل كل مقلد بمذهب من قلد منهم. لا محصول اليوم للفقه غير هذا. ومدعي الاجتهاد لهذا العهد مردود على عقبه مهجور تقليده" (انتهى الاستشهاد).

وينبغي أن نذكر أن الاجتهاد فرض كفاية وليس فرض عين على كل عالم بالدين وأحكامه. فإذا قام به عالم واحد أو جماعة من الفقهاء المجتهدين في جماعة إسلامية ما سقط التكليف به عن سائر الجماعة، وإن تخلى عن القيام به جميع القادرين عليه أثِموا جميعا لأنهم عطلوا رسالة ترسيخ تعاليم الإسلام وصرفوها بالجمود عن الامتداد عبر العصور وعلى طول المعمور. وبمقتضى ذلك قال فقهاؤنا : "لا يجوز خلو الزمان من مجتهد"، لتستمر مؤسسة الاجتهاد بدون انقطاع. وقد ذهب إلى منع توقف الاجتهاد الحنابلة وبعض الشافعية مستدلين على حكمهم هذا بقوله (ص) : "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله"، وأضافوا أن الاجتهاد لا يتوقف إلى يوم القيامة أو على الأقل إلى ظهور أشراط الساعة.

وهذا كله يؤكد الحرص على استمرار مؤسسة الاجتهاد وعدم التفريط فيها والتهاون بشأنها لأن عليها مدار بقاء الدين صالحا لكل زمان ومكان. وبصلاحه والتقيد بتعاليمه تصلح المجتمعات ويحقق الإنسان خلافته عن الله في الأرض.

باستمرار الاجتهاد اكتملت الحضارة الإسلامية. وهو الذي جعل منها حضارة مؤمنة عالمة أو حضارة الإيمان والعلم. وهو الذي جعل التقدم العلمي الذي خطت هذه الحضارة على مدارجه يتواءم معها ولا يشكل عرقلة في طريقها نحو التطور ومسايرة الزمن. ولا بد أن نوضح هنا أن الاجتهاد أمسى علما له قواعد  ومساطر وله آليات محددة يعمل بها من استنباط وقياس أي إعطاء نفس الحكم الشرعي للأشباه التي لا يختلف بعضها عن بعض. وهو ما يعني قياس بعضها على بعض والجمع بينها في الحكم الشرعي الواحد. ويدخل في قواعد الاجتهاد استلهام المجتهد حكمه عن روح الشريعة ومقاصدها والبحث عن العلل والأسباب التي تكمن وراء الحكم الشرعي لتطبيقه على النازلة إذا توفر لها نفس العلة والسبب. لذا يتطلب الاجتهاد من صاحبه معرفته بأحكام الشرع وعلوم القرآن. والاجتهاد لا يعني مطلقا العمل بكل رأي جديد، بل الاجتهاد  يجري في نصوص الدين ومرجعياته قرآنا وسنة لفهمها وقراءتها قراءة جيدة ثم لاستناط أحكام للمستجدات توافق روح رسالة الإسلام وتتقيد بتوابثه التي لا اجتهاد فيها، وإنما الاجتهاد في الأحكام الفرعية التي لم يرد بشأنها نص قطعي غير قابل للتأويل. 

6- الحـاجة إلى اجتهاد إسلامي معاصر لتطوير الفكر الإسلامي

انتكست الحضارة الإسلامية بانتكاسة مؤسسة الاجتهاد وجمدت بجمود الفكر، وتخلت عن مكانتها للحضارة الغربية التي استعمل الفكر الغربي لصنعها تقنيات الاجتهاد الإسلامي من استنباط واختراع وتجديد واستحسان وتحقيق المصلحة العامة، مما جعلها تمضي في طريق التقدم مخلفة فكر المسلمين وراءها، ومما جعل مسافة الخلف بين الحضارتين تتباعد، حيث سادت في العالم الإسلامي ثقافة القشور، وسادت الحضارةَ الغربية ثقافة اللباب والجوهر والعمق.

وإذا كان المسلمون في عصر ازدهار الاجتهاد قد اعترضتهم في زحفهم عبر أمبراطوريتين عظميين (الفرس والرومان) مستجدات اقتحموها وأوجدوا لها حلولها وأحكامها الشرعية، فإن عالم الإسلام يجد نفسه في المجتمع العالمي الراهن في نفس موقع السلف أمام مستجدات وتساؤلات مطروحة على الفكر للبحث عن أجوبتها، وأمام قيم جديدة فيها السليم الصالح الذي يفرض على الناس الأخذ به. وفي مواجهة هذه القيم يتجزأ الفكر الإسلامي في تصنيفها إلى ما لا يتعارض مع قيم الإسلام فيتبناه للحاجة إليه، وإلى صنف آخر يحار في شأن مطابقته أو مخالفته للدين، فيقف منه موقف الحذر والتهيب.

وشبابنا اليوم وقد انغمس في غمار الحضارة المادية ولا يعرف إلا القليل عن الحضارة الإسلامية يتوجه إليه بعض دعاة الإسلام بخطاب إسلامي لا يستسيغه الشباب ولا يُقنِعهم ولا يطمئنون إليه، لأن فيه حرجا مزعجا، أو لأنه يتجافى مع الفكر السليم، أو لأن بعض الدعاة يؤولون فيه تعاليم الدين على حرف وتطرف يمضيان على غير هدى، فيبدو تأويلهم في صورة متقوقعة في ماض جامد في مقابل منظومات معاصرة كلها حركة وتجديد.

واليوم والعالم -كما قيل عنه- أصبح قرية كونية ، فإن المستجدات تظهر كل يوم وتطرح على المسلمين تساؤلاتها فيكون جواب ثلة من شبابنا الذين شبوا على ثقافة الغرب هو الانغلاق على حضارة الغرب والارتماء الكامل في أحضان ثقافته ونبذهم لنداء الإسلام الذي لا يعطيهم البديل، بينما طائفة أخرى من شبابنا تنتابها الحيرة، ويخترقها الشك، وتظل تتساءل دون أن تهتدي إلى ما تريد.

7- أغراض الاجتهاد الإسلامي المعاصر

لذا أصبحت الحاجة أكثر إلحاحا إلى اجتهاد مجامعنا العلمية ومؤسساتنا الاجتهادية التي يجب دعم الموجود منها وتأسيس غيرها لقيادة تصور إسلامي صحيح، ينطلق من قراءة لنصوص الإسلام قراءة جديدة من لدن العارفين بأصول الشرع وأحكامه في سعي إلى الأخذ بالتيسير في الأحكام، وفي غير تحجر وانغلاق، حتى يُظهِروا حقيقة الإسلام المبني على اليسر، القائم على السماحة، المجاري للفطرة والعقل. والمطلوب من مجتهدي  الإسلام أن لا يعملوا لتغيير النصوص ذات الدلالات القطعية التي لا تحتمل التأويل والتي لا يجوز في الإسلام تغييرها أو تعديلها، وإنما ينبغي لهم أن  يجتهدوا في فهم النص الشرعي ليقرأوه قراءة متعمقة، ويستـنبطوا منه أحكاما تلبي حاجات العصر ومتـطلبات الحداثة سدا للفراغ التشريعي. والاجتهاد لا يعني لا تغيير الدين الذي جاء به القرآن وما صح وثبت من السنة، كما لا يعني إصلاح الدين الذي أكمله الله في آية "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" (سورة المائدة (5) الآية 3)

إن إكمال الدين لا يعني أنه لا يمكن أن يضاف إليه من الأحكام رصيد فقهي بشري في حالة حاجة المجتمعات إليه لاحتواء المستجدات، والإجابة على ما يطرحه وجودها من تساؤلات. وأعتقد أن هذا الفهم هو الذي أخذ به المجتهدون الذين زادوا في إكمال الدين بما استنبطوه من أحكام، وما أغنوا به التشريع الإسلامي من بحث علمي عن أحكام الجزئيات الفرعية التي لم يأت عنها حكم قاطع في الكتاب والسنة والإجماع. وبما اختلف فيه مفسرو القرآن الكريم عبر العصور ولم يتوحدوا معه على قراءة واحدة لما اختلفوا فيه.

وإني أفهم آية "اليوم أكملت لكم دينكم" - كما يفهمها غيري وهم كثير- على أن أحكام الدين الأساسية اكتملت بانقطاع الوحي ووفاة الرسول، لكن رسالة الدين يجب أن تظـل تـتـدرج على سُلّم الكمال في جميع العصور والعهود بإعمال الفكر الشرعي واستعمال آلية الاجتهاد التي استعملهاالرسول وصحابته والخلفاء الراشدون والمجتهدون الذي قال عنهم الرسول :"إن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يجدد للامة أمر دينها". وعلى ذلك فإن الدين يزداد كمالا بممارسة الاجتهاد ويتوقف عن النمو بتوقفه. وقد سن النبي سنة الاجتهاد ليقتدي به بعده العلماء القادرون على الاجتهاد.

وجاء في الحديث أيضا : "نحن معاشر الأنبياء لا نورَث ما تركناه صدقة"، لكن هذا إنما ينطبق على الأموال والممتلكات وليس على علم الشرع والهدي النبوي. فالعلماء هم ورثة الأنبياء. كما في الحديث الذي رواه  في السنن  أبو داود والترمذي :" إن العلماء ورثة الأنبياء. وإن الأنبياء لم يُـورِّثوا دينارا ولا درهما وإنما ورَّثوا العلم".

ولا مفهوم لعدد 100 عام الوارد في الحديث، فلا مفهوم للعدد في اللغة العربية، بل المراد هو تجديد أمر الدين في دورات تاريخية عندما تقتضي الحاجة ذلك. كما أن المراد  ليس هو اجتهاد الفرد بل الاجتهاد الجماعي الذي جاءت الإشارة  إليه بصيغة الجمع في أحاديث أخرى. ومن بينها حديث " إن الله لاينتزع العلم انتزاعا ولكن يقبضه بقبض العلماء حتى إذا لم يَبْقَ عالمٌ (وفي رواية لم يُبْقِ عالما ) اتخد الناس رؤساء جهالا فـسُـئلوا فأفتوا بغير علم". ويؤكد ذلك أيضا الحديث :"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون" ويُـستنبَـط من هذا الحديث أن الاجتهاد مستمر ولا يجوز أن يتوقف.

إن رسالة الاجتهاد اليوم تبدو في نظرنا في أمس الحاجة إلى رسم أهداف مضبوطة محكمة للاجتهاد نقتصر من بينها على خمسة أهداف رئيسة هي :

(1) تيسير الدين كما أمر به النبي مبعوثَيْه في حديث يسِّـرا ولا تعسِّـرا، بالأخذ بما لا يكلف ويرهق، وفاقا لقوله تعالى : "ما جعل عليكم في الدين من حرج"، (المائدة 5 الآية 6) وقوله : "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها". (البقرة 2 الآية 233)

(2)- الابتعاد بالدعوة الإسلامية ما أمكن عن أسلوب الترهيب إلا ما جاء الترهيب به في نص ثابت. وفي هذا الصدد يحسن في مجالي الدعوة والاجتهاد تغليب جوانب التيسير والترغيب والتسديد والمقاربة، واستبعاد أضدادها عملا بالحديث : "يسّـروا ولا تعسّـروا، وبشروا ولا تنفروا" وما جاء في حديث آخر: "سدِّدوا وقاربوا وأبشروا فإنه لن يُدْخِل أحدا الجنة عمله".

ويدخل في هذا النطاق رفض حركات التكفير والإقصاء، والاستئصال، والدعوة إلى الجهاد المسلح بدون توفر شروطه وإباحة قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق.

(3)- قيام الاجتهاد بالنظر الفاحص في التنظيمات الحديثة المعاصرة في جميع مجالات الحياة وإخضاع الحكم عليها لمقاييس الشرع، وإعلان تبني ما لا يتخالف منها مع قواعد الإسلام وتعاليمه، على أن يكون قصد المجتهدين -ما أمكن- الوصول إلى هذا التبني في نطاق مبادئ الإسلام في السماحة والتعايش والانفتاح.

(4)- اعتبار كل ما جاء في الاجتهادات الفقهية على عهد السلف عملا بشريا قابلا للنظر والمراجعة خاصة عندما يظهر في تلك الاجتهادات ما يشوش على صورة الإسلام المشرقة أو يعطي عنها صورة غير مقبولة، انطلاقا من أن ثوابت الإسلام هي الكتاب والسنة والإجماع، وأن الاجتهادات الفقهية البشرية خارج ذلك تدخل في المتغيرات التي تقبل إعادة النظر والمراجعة. فالفقهاء الذين أغنوا التشريع الإسلامي بأحكامهم الاجتهادية هم بشر، ويمكن لمجتهدين لاحقين بشر مثـلهم أن ينظروا فيها ويغيروها  باستعمال قواعد الاجتهاد المتفق عليها. فما يصدر عن البشر من أحكام لا يدخل في المقدس وأحكام الله هي التي تنفرد بالتقديس.

(5) الأحكام التي سيقوم الاجتهاد الجماعي باستنباطها لمعالجة المستجدات المعاصرة ينبغي للمجتهدين أن يستحضروا بشأنها القاعدة الشرعية في ضبط الأحكام من أن الأصل في الحكم الشرعي هو الحِلِّية فيما لم يرد فيه نص قطعي الدلالة والثبوت بالتحريم من الكتاب والسنة أو عن طريق الإجماع (كل شيء حلال إلا ما أثبت الشرع الإلهي أنه حرام) "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ؟". وبذلك يُـترك المجال واسعا لمنطقة العفو، عملا بقوله تعالى : "يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبدَلكم تسُؤْكم، وإن تسألوا عنها حين يُنزَّل القرآن تُبْدَلكم عفا الله عنها والله غفور رحيم". (سورة المائدة 5 الآية 10)، وطبقا لما جاء في الحديث الذي رواه الدارقطني : "إن الله فرض فرائض فلا تضَيِّعوها، وحدَّ حدودا فلا تعتدوها، وحرَّم أشياء فلا تنتهكوها، وعفا عن أشياء فلا تسألوا عنها".

أمثلة عن القضايا الملحة المطروحة للاجتهاد اليوم

نقترح أن يعالج الاجتهاد الجماعي القضايا المُـلحّة في المجالات السياسية، والاقتصادية والمالية، والشؤون الاجتماعية، والشؤون الصحية المعاصرة. وسنعطي أمثلة محدودة لهذه القضايا في الميادين التالية :




    الشؤون السياسية وشؤون الحكم والدولة والنظام الديمقراطي

. عولمة الحكم والنظم السياسية :

يمضي العالم اليوم على طريق العولمة الشاملة التي سيأتلف على قاعدتها النظام العالمي الجديد بدون حدود فاصلة ولا حواجز مانعة، وبدون هويات وجنسيات مختلفة.

وتقوم على ذلك كله الدولة مؤسسة المؤسسات التي يمكن أن تكون في شكلها إما ملكية أو إمارة أو جمهورية أو مجلسا جماعيا له رئيس منتخب. ويسود في ظل العولمة النظام الديمقراطي القائم على المشاركة الشعبية واختيار الحاكم ومراقبته من لدن الشعب.

ولذلك نرى أن يسلط الاجتهاد الإسلامي نظره الفاحص على نظام الديمقراطية، ويدرسه بجميع تفاصيله ودقائقه، ويتبنى منه كل ما يتفق ونظام الشورى الإسلامية المفتوح الذي اقتصر على أحكام عامة، ويسعى إلى أن لا يستبعد من النظام الديمقراطي  إلا ما يتنافى مع مبادئ الشورى الأساسية. وبذلك يصبح الإسلام يعيش العصر الحاضر محتفظا في الوقت نفسه بقيمه. وقد نشرتُ دراسة علمية عن ملتقيات ومفارقات نظامي الشورى والديمقراطية انتهت فيها إلى أن النظام الديمقراطي بما يعمل به من آليات الانتخاب والاقتراع والمجالس البرلمانية والمجالس المحلية والجهوية ومنح الثقة للحكم وحجبها ومساءلته من لدن نواب الأمة لا يتنافى في معظم قواعده مع روح الإسلام، وأحيانا يلتقي مع نصوصه القطعية الثابتة في الكتاب والسنة. وعلى ذلك يعلن الفكر الإسلامي عن موافقته عليه وتبنيه بعد أن يبدي على بعض آلياته ما يراه لا مناص عنه من التحفظات إن اقتضى الحال ذلك، حتى يظهر الحكم الإسلامي في صورة حكم مندمج في نظام الحكم العالمي الجديد مساير للتطور يوحي بالاطمئنان إليه كحكم حضاري. ولعل التحفظات على النظام الديمقراطي إذا ما وجدت ستكون إغناءا للاجتهاد القائم حول النظام العالمي تضيف إليه أو تصححه أو تهذبه.

حقوق الإنسان

يحكُم عالـمَـنا ميثاقُ حقوق الإنسان العالمي الذي أقرته الأمم المتحدة سنة 1945. وللإسلام نصوصه وتعاليمه المقدسة عن حقوق الإنسان التي نشأت مع نشأة الدعوة الإسلامية وانضافت بعدها إليها قيم أخرى مستمَدَّة منها مع امتداد الحكم الإسلامي.

ونحن نعتقد أن أكثر ما جاء به الميثاق الأممي من تركيز على كرامة الإنسان وضمان حرياته وتمتيعه بالحقوق الفردية والجماعية السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية سبق إليه الإسلام منذ أربعة عشر قرنا. لكن ما تزال بين الموقف الأممي والموقف الإسلامي من هذه الحقوق بعض المفارقات، فحقوق الإنسان في الإسلام منضبطة بحقوق الله على عباده، وحقوق العباد تابعة لحقوق الله. وهذه المفارقات يجب أن يبرزها الفكر الإسلامي بتوضيح ما بين مفهوم الحقوق في الإسلام ومفهومها الأممي من قواسم مشتركة، لتكون النتيجة اندماج عالم الإسلام في ميثاق الحقوق الأممي مع إبداء ما قد يكون على هذا الميثاق من تحفظات سيكون لها أثر إيجابي مثلما رأينا ذلك في التحفظات على شؤون الحكم والدولة الديمقراطية.

الشرعية الدولية

ينظر الاجتهاد الإسلامي في مفهومها الدولي الحاضر ويبدي رأي الإسلام في ضبط مفهومها ويركز على رفض الإسلام لنزعة ازدواجية المقاييس التي تقوم عليها في التطبيق والتعامل الدولي. والمطلوب من الاجتهاد أن يقيمها على قاعدة ضمان العدل والمساواة واحترام القيم ووحدة المقاييس.

الشؤون الاقتصادية والمالية

عولمة المال والاقتصاد والتجارة

دخل العالم اليوم في طور عولمة الاقتصاد والمال، وانتقل من عهد نظام الاقتصاد الحر إلى نظام أكثر تحررية يحمل اسم اقتصاد السوق. وقد امتد هذا النظام عبر العالم خاصة عندما تسارعت دول العالم إلى الانخراط في المنظمة العالمية للتجارة وهي تلقي على الدول مسؤولية فتح أسواقها للمنتوجات العالمية واستقبال رؤوس الأموال من كل جنسية، واستبعاد الحواجز والمعوقات عن حرية تنقلها، وتخفيض الرسوم على الصادرات والواردات موقتا بهدف إلغائها استقبالا، وإدخال خدمات التأمين والبنوك في مجال التجارة الحرة. وكل ذلك شكل الآليات التي تعمل لعولمة الاقتصاد والتجارة.

والمطلوب أن ينظر اجتهادنا المعاصر في نظام عولمة الاقتصاد والتجارة والمال ويبحث عن حكمه الشرعي في الممارسة والتطبيق، علما أنه من المستحسن أن يكون هدف اجتهادنا هو الوصول إلى التوصية بالتعامل مع هذا النظام، حتى لا يبقى العالم الإسلامي منعزلا عن العالم، ولأن انعزاله سيؤدي إلى شلل اقتصاده، مما سيزيد المسلمين تخلفا ويجعل تأثيرهم على العالم ضعيفا وحتى منعدما.

حكم التعامل مع البنوك وتحديد المحرم من أنواع الربا

لقد انقسم اجتهاد علماء السلف إلى فريقين في تحريم الربا. فأكثرهم حرمه بجميع أنواعه. وبعضهم فرق بين الربا الخفي فأحله وهذا هو ربا الفضل. وقال بهذا علماء معاصرون حرّموا من الربا فقط الربا الجلي أو وربا النسأ. والمطلوب من الاجتهاد المعاصر أن ينظر في التعامل مع البنوك التي تعمل بنظام الفوائد، لمعرفة ما هو المحرم منه وما هو المباح ؟

وينبغي استحضار المجتهدين حقيقةً أصبحت تفرض نفسها وهو أن لا غنى لاقتصاد المسلمين عن التعامل مع هذه البنوك التي يدعوها البعض بالربوية، والتي توفر لزبنائها خدمات لا تتوفر لهم بدونها مقابل عمولات تتقاضاها منهم كأجرة. والاقتصاد الذي يتحاشى التعامل مع هذه البنوك ويتباعد عنها يجمد ولا ينمو، والبنوك الإسلامية تبدو غير قادرة على تعويض هذه البنوك. ومجال نشاطها ما يزال محدودا وأكثرها مقتصر على المرابحة. وهي مصارف غير موجودة في جميع المعمور وحتى داخل العالم الإسلامي كله.





الشؤون الاجتماعية

. الزكاة والضرائب والرسوم

فرض الإسلام الزكاة على الموسرين وحدد الله مصارفها بنفسه في القرآن الكريم، وقرنها بالصلاة في الوجوب وجعلها أحد أركان الإسلام الخمسة. وسوّى أبو بكر الصديق في القتال بين تاركي الصلاة ومانعي الزكاة. وكانت الزكاة على عهد النبي (ص) تُجبى إلى بيت المال بواسطة السُّعاة إلى أن ترك عثمان بن عفان إلى من تجب عليهم الزكاة شأن دفعها لبيت المال تلقائيا مؤولا آية : "خذ من أموالهم صدقة" على أنها تنص على حق الإمام في أخذ الزكاة ولا تلقي عليه مسؤولية وجوب أخذها وجمعها. فالناس يدفعونها نيابة عنه. والقصد من الآية هو استحصال الزكوات لا قيام السلطة العليا نفسِها بجمعها.

واليوم استحدثت الدول في العالم (ومنها دول الإسلام) نظام الضرائب المباشرة  بالنسبة للأفراد والشركات، والرسوم غير المباشرة على الاستهلاك والمعاملات التجارية. وتصرف الدولة من ضرائبها على بعض مصارف الزكاة بتأويل مصرف "سبيل الله" على معناه الواسع فتبني المدارس والمطارات وتشيد الطرقات وتُقيم السدود وتُجيِّش الجيوش وتفتح السفارات في العالم، وتخلق المشاريع الاقتصادية لمحاربة الفقر والبطالة وتحسين مستوى عيش الفقراء والمساكين.

إن الاجتهاد المعاصر مطلوب منه النظر في مصارف الزكاة طبقا لما جرت عليه أعراف صرف الضرائب، والوصول إلى الحكم الشرعي بالجواب على التساؤلات التالية :

هل يعفي استخلاص الضرائب الدولة من جمع الزكوات ؟ وهل يُترك للواجب عليهم أداء الزكاة صرفها تلقائيا على مصارفها جامعين بين أداء الزكوات وأداء الضرائب ؟ أو هل تأخذ الدولة الزكاة من أصحابها وتضيفها للضرائب وتدمجها في بيت المال ويعفى بذلك المسلم من أداء الزكاة لادماجها في الضرائب ؟ وما هي مصارف الزكاة التي يمكن شرعا أن تكون من مصارف الضرائب والرسوم ؟ ومن يتكفل بالفقراء والمساكين والأقارب المحتاجـيـن إذا ما جمعت الـدولة الزكـاة وصرفـتها على شـؤون الدولة ؟ وأسئلة أخرى لا بد أن يطرحها الاجتهاد بعد أن ينظر المختصون في شؤون الضرائب والزكاة في طريقة الملاءمة بين نظاميهما:  الشرعي بالنسبة للزكاة والمدني بالنسبة للضرائب.

شؤون الأسرة

يتهم خصوم الإسلام ديننا الحنيف بأنه دين متخلف في مجال شؤون الأسرة، وخاصة في معاملته للمرأة وحرمانها من الحقوق. ويمثلون لذلك بإعطائه للرجل حق القوامة على المرأة، وجواز تعدد الزوجات، وضرب الزوج زوجته، وقبول الشهادة من رجل في مقابل امرأتين. وهذه أمور قـلَّ فيها الاجتهاد المعاصر الذي يجب إعماله لغاية رفع الشبهات عن الإسلام. وفي كتابي "حقيقة الإسلام" أشرتُ إلى هذه المحاور وأرجعتُ الحكم فيها إلى التشريع الإسلامي الذي يرفع عنها الالتباس ويضعها في سياقها، وأبرزت أن الإسلام لا يجيز ضرب الزوجة، وأن الإسلام لا يقبل الشهادة إلا من واحد، سواء كان الشاهد ذكرا أو أنثى، وأن المرأة  الثانية المذكورة في القرآن ليست شاهدة بل مذكرة فقط عند الاقتضاء. وأبرزتُ  في الكتاب أن القاعدة  في الإسلام  هي أحادية الزوجة، وأن التعدد استـثـناء يمكن أن يكون جائزا في حالات  خاصة وشرط الإذن به من القاضي.

كما يمثلون لهضم حقوق المرأة بترك حرية التطليق للرجل، وبالاختلاف القائم بين العلماء حول إعطاء المرأة متعة الطلاق أهي واجبة أو مندوبة فقط أم لا حق لها فيها بالمرة كما هو معمول به في بعض المجتمعات الإسلامية، وفرض الحجاب على المرأة بما يجعلها محرومة من المساهمة بجانب الرجل في بناء المجتمع، وما يترتب على ذلك في فهوم بعض الفقهاء من إجحاف بحق المرأة واعتبارها أقل قيمة وكرامة ودون الرجل.

إن الإصلاحات التي طرأت على مدونة 1957 جاءت بعد ممارسة اجتهاد معمق في قراءة النصوص الشرعية قراءة جديدة وما أصدرته لجنة المدونة من أحكام لا يـتعارض مطلقا مع ما جاء به القرآن الكريم والسنة النبوية. وعلى ذلك فالمدونة الجديدة انطلقت من روح رسالة الإسلام القائمة على العدل والرحمة ورفع الضرر، وعدم التكليف بما لا يطاق، وعلى مبدأ مساواة الرجال والنساء في الأحكام، واعتمدت فقه التيسير، ومنهج الوسطية الإسلامية بدون تطرف ولا غلو، مع الالتزام بالحفاظ على مقاصد الشرع التي لا يجوز الإخلال بها. والتعديلات التي أدخلت على المدونة سنة 1993 اخترقت آفاقا كانت مسدودة في وجه إنصاف الأسرة ورفع الضرر عنها بينما توَّجت إصلاحاتُ المدونة الأخيرة الاجتهاداتِ السابقة بإدخال تغييرات جوهرية على نص المدونة بإعمال الاجتهاد لقراءة النصوص قراءة جديدة واستحدات أحكام  للمستجدات ليس فيها ما يخالف الدين. وقد جاء في خطاب جلالة الملك محمد السادس أمام البرلمان وهو يعلن عن هذه الإصلاحات أنه لا يملك أن يُحِـل ما حرم الله، أويحرم ما أحلّ الله. 

كذلك ينبغي النظر في الحجاب المؤدي إلى حرمان المرأة من التعلم والتعليم والعمل في مكاتب الدولة لتسيير الإدارة، والنظر في حرمانها من الولاية الخاصة والولاية العامة. مع ملاحظة أن المرأة ارتقت اليوم في بعض أقطار الإسلام  إلى مكانة مرموقة في المعرفة والعلم تتفوق بها أحيانا على أخيها الرجل، ولم تعد تلك المرأة الجاهلة الضعيفة المحتاجة إلى سند الرجل . فالتطور دفع بالمجتمعات الإسلامية إلى تبني إكراهات المجتمع العصري، لكن بقي الفقهاء المتـزمتـون ينظرون إلى ذلك على أنه انحراف وفسوق.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق