الخميس، 20 مارس 2014

التراث بين القراءة و المنهج الفكر العربي المعاصر



التراث بين القراءة و المنهج
     يشكل مفهوم ''التراث'' من المفاهيم التي تناولها الفكر العربي المعاصر، ويرجع ذلك إلى الاهتمام الذي حظي به موضوع ''الحداثة'' كمفهوم و كإشكالية في الفكر العربي المعاصر. و إذا أردنا معرفة مفهوم ''التراث'' و اقتربنا إليه لفهمه نجده يزداد أكثر غموضا، و يُعزى ذلك إلى عدة عوامل جعلت من مفهوم التراث أكثر تعقيدا و غموضا؛ وتتحدد هذه العوامل أساسا في غياب تحديد دقيق للتراث كمفهوم حديث العهد. حيث أنه لم يتم تداوله إلا في مرحلة محددة و في ظروف معينة تاريخية و حضارية. ذلك أنه استدعى الأمر في تلك الفترة الحديث عنه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن التراث لم يتم حصره في إطاره الزمني الذي تشكل فيه، أي في حدوده التاريخية، من أين يبدأ، أو من أين ينتهي.لذلك سنحاول في هذا الفصل تحديد مفهوم التراث في زمنيته وتاريخيته، كما عرفه الفكر العربي القديم و الحديث والمعاصر عند بعض المفكرين. و سنعتمد على الجابري في عرضه لما عرفه مفهوم التراث سواء في الخطاب العربي القديم )المعاجم القديمة( أو في اللغات الأجنبية المعاصرة، ثم في الخطاب العربي الحديث و المعاصر،
     إذا رجعنا إلى الفكر العربي القديم، فإننا لن نجد من أي مؤلفاته أي لفظ للتراث و سنجد أيضا أنهم لم يعرفوا إشكالية العلاقة بين ''الحاضر'' و ''الماضي'' بالرغم لما عرفوه من صراعات بين ''القديم'' و ''الحديث''، ''التقليد'' و ''الاجتهاد''، ''الإتباع'' و''الإبداع''، و الذي تجلى في الشعر على الخصوص.
    ينظر محمد عابد الجابري في عرضه لمفهوم ''التراث'' من ثلاث زوايا:
      أ_ مفهوم ''التراث'' في اللغة العربية و المعاجم القديمة.) الخطاب العربي القديم(.
      ب_ مفهوم ''التراث'' في اللغات الأجنبية المعاصرة التي نستورد منها المصطلحات و المفاهيم.)الفرنسية و الانجليزية...(
      جـ_ مفهوم ''التراث'' في الخطاب العربي الحديث والمعاصر.
          أما فيما يخص التحديد الأول، أي في الخطاب العربي القديم، فإن الجابري يُقر أنه لا وجود لأي تعريفٍ للتراث في هذا الخطاب، سواء في المعاجم العربية،  أو في الثقافة الشعبية السائدة آنذاك، بل ذهب الجابري إلى حد القول بأن لفظ تراث لم تكن تستعمل و تتداول كثيرا عند العرب القدامى. وقد عرض الجابري لموقف اللغويين الذين يقولون بأن أصل حرف "التاء" في لفظ تراث هو "واو" أي أنها كانت تقرأ وُراث ثم قُلِبت الواو تاءً لِثقل الضمة على الواو كما جرى النحاة علـــى القول(1). أما حمولتها الدلالية فهي كانت تعني ''المال'' أو ''الحسب'' و لذلك فهي لم تستعمل قديماً بمعنى الموروث الثقافي و الفكري...كما تستعمل الآن في الخطاب العربي المعاصر. و يُورد الدكتور لبعض الكلمات التي كانت تدل على هذا المعنى في الخطاب العربي القديم: "ورث"،"يرث"،"توريث"،"الوراث"،"الورثة"،"الميراث"،"الإرث"...كما يُشيرالمفكر المغربي أيضاً إلى أن "تراث" وردت في القرآن الكريم مرة واحدة في سياق قوله تعالى:﴿ كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيم وَ لاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَاِم الْمِسْكِين, و تأْكُلُونَ التُّرَاث أَكْلاً لمًّا، وَ تُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جمًّا﴾ (القرآن الكريم:"سورة الفجر" الآية 17_18). كما وردت كلمة "مِيراث" في القرآن مرَّتين في عبارة ﴿والله مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَ اللأَرْض﴾ (القرآن الكريم:"سورة آل عمران" الآية180.ثم"سورة الحديد" الآية 10).
          أمّا فيما يخُص التحديد الثاني, فإنَّ مفهوم ''التراث'' في اللغات الأجنبية الحية المعاصرة التي نستورد منها المفاهيم و المصطلحات (الفرنسية و الإنجليزية...), فإنّها لا تحمل نفس الحمولة الدلالية التي تحملها كلمة ''التراث'' في الخطاب العربي الحديث و المعاصر, بل إن لكلمتي Héritage  و Patrimoine «معناهما لا يكاد يتعدَّى حدود المعنى العربي القديم للكلمة و الذي يُحيل أساساً إلى تركة الهالك إلى أبنائه»(2)، و
يُضيف قائِلاً «إن الشحنة الوجدانية و المضمون الإديولوجي الموافقِيْن لمفهوم "التراث"
كما نتداوله اليوم تخلو منهما تماماً مقابلات هذه الكلمة في اللغات الأجنبية المعاصرة التي نتعامل معها»(3).
     أمّا فيما يخُص الخطاب العربي الحديث و المعاصر، فإن لفظ "تراث" قد اكتسى «معنى مختلفاً مبايناً، إن لم يكن متناقضاً، لمعنى مرادفه ''الميراث'' في الإصطلاح القديم. ذلك أنه بينما يفيد لفظ "الميراث" التركة التي توزَّع على الورثة, أو نصيب كل منهم فيها, أصبح ''التراث'' يُشير اليوم إلى ما هو مشترك بين العرب, أي التركة الفكرية و الروحية التي تجمع لتجعل منهم جميعاً خلفاً لسلف»4.
          يُعرِّف الجابري ''التراث'', و هو نفس المعنى الذي تحمله هذه الكلمة داخل الخطاب العربي المعاصر, بأنه: «الموروث الثقافي و الفكري و الديني و الأدبي           و الفنِّي»5. و من هذا المنطلق, فإنه «يُنظر إلى التراث (في الخطاب العربي الحديث       و المعاصر) لا على أنه بقايا ثقافة الماضي, بل على أنه "تمام" هذه الثقافة و كليتها.إنه العقيدة و الشريعة, و اللغة و الأدب, و العقل و الذهنية, و الحنين و التطلُّعات.و بعبارة أخرى إنه في آنٍ واحد: المعرفي و الإيديولوجي و أساسهما العقلي وبطانتهما الوجدانية في الثقافة العربية و الإسلامية»6.                         
         إذا نظرنا إلى التحديدات و التعريفات التي أعطاها بعض المفكرين العرب الحداثيين و المعاصرين ''للتراث'', فإننا نجدهـا لا تخرج عن المعنى الذي حدده له الجابري.
          يُعرِّف الدكتور حسن حنفي في كتابه « التراث و التجديد:موقف من التراث القديم« ''التراث'' بقوله: «التراث هو كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السَّائِدة, فهو إذن قضية موروث و في نفس الوقت قضية معطى حاضر على العديد من المستويات»7. و يقول أيضا في محاولة لمقارنته ''التراث و التجديد'': «التراث هو نقطة البداية كمسؤولية ثقافية و قومية, و التجديد هو إعادة تفسير التراث طِبقاً لحاجات العصر, فالقديم يسبق الجديد, و الأصالة أساس المعاصرة, و الوسيلة تؤدي إلى الغاية. التراث هو الوسيلة, و التجديد هو الغاية و هي المساهمة في تطوير الواقع. و حلّْ مشكلاته, و القضاء على أسباب معوقاته, و فتح مغاليقه التي تمنع أي محاولة لتطويره. و التراث ليس قيمة في ذاته إلا بقدر ما يُعطي من نظرية علمية في تفسير الواقع و العمل على تطويره, فهو ليس متحفاً للأفكار نفخر بها و ننظر إليها بإعجاب, و نقف أمامها في انبهـار و ندعو العالم معنا للمشاهدة و السياحة الفكرية بل هو نظرية للعمل, و موجَّه للسلوك, و ذخيرة قومية يمكن اكتشافهــا و استغلالها و استثمارها من أجل إعادة بناء الإنسان و علاقته بالأرض و هما حجرا العثرة اللَّتان تتحطَّم عليهما كل جهود البلاد النَّامية في التطور و التنمية»8. و هكذا يكون "للتراث" عنده مستويان: المستوى الأول:ف_"للتراث" "وجود مادِّي", «فهو مكتوب, مخطوط أو مطبوع»9. و نجد هذا النوع في المكتبات و المخازن و المساجد و الدّور الخاصَّة. أما المستوى الثاني: فإن "للتراث" "وجود صوري", فهو «مخزون نفسي عند الجماهير.فالتراث القديم ليس قضية دراسة للماضي العتيق فحسب, الذي ولَّى و طواه النسيان, و لا يُزَارُ إلاّ في المتاحف, و لا يُنقب عنه إلاّ علماء الآثار بل هو أيضاً جزءٌ من الواقع و مكوناته النفسية»10. هكذا إذن يكون "التراث" عند حسن حنفي له وجود مادي و صوري, إنه مكوِّن من مكوِّنات الواقع. و لذلك لا يأنف حسن حنفي يُؤكد أن «التراث قضية وطنيَّة لأنها جزءٌ من واقعنا.نحن مسؤولون عنه كما أننا مسؤولون عن الشعب و الأرض و الثروة, و كما أننا مسؤولون عن الآثار القديمة و المأثورات الشعبية»11.
          نجد أيضاً, حسين مروّة,فإن «معرفة التراث[عنده] تقوم على الفكر العلمي,لا على الفكر الغيبي. أي تقوم على النظر إلى التراث في واقعيته, أي في تاريخيته,أي في
كونه واقعاً تاريخياً تكوَّن و تطوًّر و تمظهر بفعل قوانين واقعيته, مادِّية, موضوعيـة,      و كونية, ضمن قوانين "الخصوصية" التاريخية للمجتمع المعين الذي ينسب إليه»12.
           إن هذا الكلام يُلخِّص,كما يتبين لنا، موقف حسين مروّة في التراث.و نحن سنلخِّص كلامه هذا في جملة واحــدة تشمل ما يريد أن يقوله, وهي: أن معرفة "التراث" و كيفية تطوره رهينة بمعرفة سياقه و مساره التاريخي و بعــده المكاني. و لهذا نجده يؤكد  أن المهم عنده ليس هو معرفة "التراث", معرفة بذاتها لذاتها, بل ما يهمه هو كيفية معرفة هـذا "التراث". و هذا هو وجه قوله: «إن معرفة التراث,دون, "كيفية" ما, أي دون انتماء فكري معيَّن, ودون منهجــية تستمد "شرعيتها" من هذا الانتماء, إنما هو معرفة مستحيلة»13. على هذا الأساس كانت "معرفة التراث" عنده, لأي باحث كان, لا تخرج, بل و "تتكيَّف" مع البناء الفكري و المنطلقات الإيديولوجية للباحث.و لذلك قال: «التراث هو التراث نفسه, لا يتكرر و لا يتعدد... لكن معرفته هي المتعددة بقدر ما تتعدى البنى الفكرية التي بها يُقرأُ التراث...»14.
          إن رؤية حسين مروّة هاته "للتراث" تتوافق, بالنسبة لنا, مع رؤية جابر عصفور و محمد عابد الجابري. و كما يرى خالد سليكي في المقال* الذي نشره تحت عنوان " التراث بين مفهومي القراءة و الخطاب" بأن جابر عصفور و المرحوم الجابري تتوافق رؤيتهما حول "التراث". حيث يقول أن الباحث في التراث يجب أن يحدد الإطار المفاهيمي و التاريخي الذي يشتغل فيه. على عكس الذين اهتموا بِ"التراث" من حيث هو زمن أو ركام, أو معرفة تاريخية. فالبحث في "التراث" يستدعي استحضار علاقته بالحاضر «و هو ما حاول جابر عصفور طرحه من خلال ثلاث زوايا, و هي: ما التراث؟ لماذا نقرأ التراث؟ كيف نقرأ التراث؟». و يشير خالد سليكي إلى أن جابر عصفور أشار إلى «أن الذين مارسوا قراءة التراث لم يمارسوا هذه  الأسئلة بل مارسوا سؤالاً آخر و هو ماذا في التراث؟»15, أي أنهم اهتموا فقط بما يمكن أخذه من "التراث"ولِما يخدم مصالحهم.
          أما عند الجابري, فنجد رؤيته, بالنسبة لنا, تطابق رؤية حسين مروة, وتطابق أيضاً رؤية جابر عصفور, كما نرى مع خالد سليكي,عندما طرح مجموعة من الأسئلة تلامس و تقارب "التراث" بجملته من قبيل:"كيف نستعيد مجد حضارتنا..؟ كيف نحيي تراثتا..؟", "كيف نعيش عصرنا؟ كيف نتعامل مع تراثنا؟", "كيف نحقق ثورتنا...كيف نعيد بناء تراثنا؟"16.
          إن الحديث عن مفهوم "التراث" يقول سليكي, هو حديث عن العودة إلى هذا "التراث"؛ و العودة إليه لابد أن تتضمن آليات تفضي بالدارس في النهاية إلى الكيفية التي ينبغين تتعدد قراءته؛ لأن تعدد القراءة سيفضي بنا إلى التأويل, و البحث في الخطاب. وهو في جانب آخر, بحث في سلطة الخطاب, ومن ثم, فإن البحث عن التراث هو بمثابة بحث في خطاب هذه السلطة17.
          نَخْلص إلى أن مفهوم "التراث" في الفكر العربي  الإسلامي, قد مرَّ بمجموعة من المراحل, قد لا تبدو لنا واضحــة و متجلِّية, وقد لا تفرض نفسها, ولكن مع ذلك يمكن أن نرصد المسار الذي تشكَّل فيه مفهوم "التراث", ليصل إلى كما هو الآن في الفكر العربي الحديث و المعاصر, ابتداءً من الدَّلالات التي كانت تُعطى لها و يحملها. فقد ثبُت لنا مما سبق, أنه كان ينظر إلى كلمة "تراث" في البداية على أنها تعني المال و الحسب, بل إن لفظ "تراث" لا نجدها في الفكر العربي القديم, و أشرنا أيضا إلى أن هذا المعنى هو نفسه الذي تحمله كلمة "تراث" في اللغات الحية, التي نستورد منها المفاهيم و المصطلحات, و انتهينا إلى أن مفهوم "التراث" لم يعد يحمل نفس الدلالة التي كانت سائدة؛ حيث أصبح يُنظر إليه, ليس فقط على أنه المال و الحسب, بل كإرث ثقافي و روحي و ديني و أدبي, و هذا هو المعنى الذي أُعطيَ له في الفكر العربي الحديث و المعاصر, كما رأينا مع النماذج التي أوردنا من المفكرين..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق