الخميس، 20 مارس 2014

خطوات قراءة الجابري للتراث العربي



خطوات قراءة الجابري للتراث العربي
          و باختصار فإن قراءة الجابري "للتراث" تعتمد على "الفصل و الوصل", فصل "التراث" عنا, و وصله بنا. و لتحقيق هذا الأمر يضع الجابري الخطوات التالية:
       ضرورة القطيعة مع "الفهم التراثي للتراث" 19.بمعنى أنه يجب علينا أن نقطع الصلة مع القراءات الثلاث التي ذكرناها من قبل. فالجابري يدعو إلى "قراءة عصرية للتراث", فكان من متطلبات الحداثة عنده تجاوز هذا الفهم إلى فهم حداثي, إلى رؤية عصرية له.20.
       فصل المقروء عن القارئ, وهنا تطرح مشكلة الموضوعية, التي تعني عنده
فصل الذات عن الموضوع و الموضوع عن الذات. والذات هنا هي القارئ
و الموضوع هو "التراث". فيجب إذن فصل القارئ عن "التراث" و "التراث" عن القارئ21. و يبرر الجابري إتباع هذه الخطوة, لأن القارئ العربي المعاصر مؤطر بتراثه, مثقل بحاضره. مؤطر بتراثه بمعنى أن "التراث" يحتويه احتواءً يُفقده استقلاليته و حريته (...) و لذلك فعندما يقرأ القارئ العربي نصاً من نصوص تراثه يقرأه متذكرًا لا مكتشفًا و مستفهمًا, ومثقل بحاضره لأنه يطلب السند في تراثه و يقرأ فيه آماله و رغباته إنه يريد أن يجد فيه "العلم" و "العقلانية" و "التقدم"...22.
 
       وصل القارئ بالمقروء, وهنا تطرح مشكلة الإستمرارية23. فبعد أن نفصل "التراث" عنا, مما يُخول لنا استكشافه و معرفته كما هو بدون تدخل الذات القارئة فيه  أو تأثير "التراث" في الذات, يلزم أن يتم وصله بنا و إلحاقه إلينا و جعله معاصرًا لنا.
          إن الأمر يتعلق إذن "بإعادة تأصيل الأصول" و رفعها إلى ''مستوى متطلبات عصرنا'' و بالتالي « استيفاء الشروط التي يشترطها عصرنا في كل من يريد أن يتعامل معه من موقع الفاعل و ليس من موقع المنفعل الهارب»24. وهكذا يكون عنده طرح سؤال ''كيف نتعامل مع تراثنا؟'' يقتضي طرح سؤال آخر, قد يكون مقابلا له, بل إنه ملازم له, وهو ''كيف نتعامل مع عصرنا؟''. إن هذا السؤال الأخير هو كالأول له بعدين: بعد فكري و بعد عملي. فهو من جهة يطرح مسألة الانخراط الواعي النقدي في الفكر العالمي المعاصر, وهو من جهة أخرى يطرح الشروط العلمية التي يقتضيها الإنخراط في الحضارة المعاصرة من إقامة مؤسسات ديمقراطية و اعتماد تنمية مستقلة و غرس للعلم و التكنولوجيا...25.
    
      حاول الجابري أن يجد مبرره حتى في استعماله لعبارة "قراءة عصرية
     للتراث" و أسباب صياغتها على هذا الشكل, في تحليلها من بنيتها السطحية ثم بنيتها العميقة. و نحن لا يهمنا هنا الحديث عن البنية السطحية, بقدر ما يهمنا الحديث عن الكيفية التي وظف الجابري  هذه العبارة على "التراث", وهذا ما وظفه في إطار حديثه عن البنية العميقة لهذه العبارة, لدى سنكتفي فقط بإبراز الكيفية التي قام بها بذلك. حيث أنه قام بإعطاء بنية أو منظومة للعلاقات القائمة بين العناصر الثلاثة المكونة لعبارة "قراءة عصرية للتراث" و هي, أولاً: نجد الصيغة الأصلية للعبارة "قراءة عصرية للتراث" التي تنفي الصيغة الثانية وهي "قراءة تراثية للتراث" وهذه الصيغة بدورها تنفي الصيغة الثالثة وهي "قراءة تراثية للعصر". يتبين لنا إذن أن الصيغة الأولى تنفي الصيغة الثانية من أجل تجنب الوقوع في الصيغة الثالثة,
و باختصار, كما يقول الجابري, '' نريد قراءة عصرية للتراث تجنبا للوقوع في قراءة تراثية للعصر''26. و هذا, فإننا نجد الأستاذ يتحدث أيضا عن الأصالة و المعاصرة, حيث أنهما عنده لا تنفصلان, و ''أن من ينشد الأصالة بدون المعاصرة كمن ينشد المعاصرة بدون الأصالة: الأول مقلد و الثاني تابع, بل كلاهما تابع  ومقلد. و الشرط الضروري لتجديد العقل العربي و تحديث الفكر العربي و تغيير الوضع العربي هو كسر قيود التقليد و قطع خيوط التبعية. إنه "الاستقلال التاريخي" الذي لا ينال إلا بممارسة النقد المتواصل للذات و للآخر, أيًّا كان هذا الآخر. و النقد لا يعني الرفض الميكانيكي, بل هو أساسًا تفكيك للسلطة التي يمارسه الخطاب على المخاطب. الواعظ الديني و الخطيب السياسي و المبشر الإيديولوجي...''27. و هكذا يلزم علينا, في البداية أن نضع بيننا و بين "التراث" مسافة, و بعدها نوصله بنا و نجعله معاصرا لنا. ''فلابد إذن من الكشف عن المسميات التي يراد أن تنوب عنها أسماؤها, و لابد من إعادة تسمية الأشياء, التي تقدم نفسها كمسميات مجردة, بأسمائها التي تكشف عن جانب الانحياز فيها. إنه بذلك نتمكن من جعل المقروء معاصرا
          لقد ثبت إذن عند الجابري أنه يجب الدخول مع "التراث" في حوار نقدي وعقلاني. ''فالمطلوب من هو استيعاب هذا التراث استيعابا عقلانيًا'', ويعني بالعقلانية أنه ينبغي علينا أن نسعى '' أولا وقبل كل شيء لإضفاء المعقولية على تاريخنا, السياسي و الفكري''29. فيجب الرجوع إلى "التراث", لا رجوعًا تراثيا, و إنما رجوعا نقديًا, فلا يجب أن نفهم "التراث" ''كصندوق عجائب, منه نستمد الأصيل منه نستمد القوة'' وهذا ما يقصده عندما يقول بأن "التراث" يجب أن يمر من لحظة الفصل و لحظة الوصل ''أن نفصل عنا هذا التراث ونضعه في مكانه التاريخي و ننتقده و نرتبه في نظام الحياة التي عاشها, ولكن أيضا أن نعيده كشيء لنا''30. ولئن كان الحال هكذا, فإن قراءة "التراث" قراءة عصرية تجعلنا من أن نكون منتجين وليس كمستهلكين.
          هذا, ونختم كلامنا في هذا الفصل بأن الجابري أعتبر أن ما كتبه إلى حد الآن* يمكن تصنيفه في خانة "الفصل", يقول:«عندما استعدت في يوم من الأيام الأخيرة هذه القضية, قضية الفصل و الوصل, تبين  لي أن المسألة لا تخص منهجية التعامل مع النص وحده, لقد بدأت أشعر, بل أنا واعٍ فعلاً, بأن ما قمت به إلى حد الآن يندرج كله في لحظة "الفصل" أما لحظة "الوصل" فلم أبدأ فيها بعد''. إن لحظة الفصل تنتهي عندما ينتقد العقل السياسي العربي و في جانبه الأخلاقي أيضا, حينئذ ''نكون قد حققنا لحظة الفصل, أي أننا سنكون قد "تحرَّرنا" من التراث كشيء يملكنا, كشيء نحن مندمجون فيه, لنجعل منه شيئًا نمتلكه»31. وهذا ما فعله الجابري عندما أصدر الجزء الثالث من كتاب "نقد العقل العربي" و سماه " العقل السياسي العربي: محدداته و تجلِّياته" (بيروت: مركز دراسة الوحدة العربية,1990).
(*)- نشير هنا إلى أن الجابري في هذه الفترة ما زال لم يصدر "العقل السياسي العربي: محدداته و تجلياته",كما نشير إلى أن هذا الكلام قاله الجابري في الندوة التي نظمتها مجلة الوحدة العربية تحت عنوان:''نقد العقل العربي في مشروع الجابري'' بمشاركة مجموعة من الأساتذة: محيي الدين صبحي, سعيد بن سعيد,محمد وقيدي, سالم يفوت, كمال عبد اللطيف, محمد نور الدين أفاية. و قد أعاد الجابري نشرها في "التراث والحداثة..." في القسم الثالث الذي خصّه الجابري للمناقشات التي قام بها مع مجموعة من الأساتذة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق