الاثنين، 24 مارس 2014

التجربة و التجريب


التجربة والتجريب
ألأطروحة المتضمنة في السؤال هي أطروحة كلود برنار والتي تقول بان العالم يجب أن يجمع بين الملاحظة الأمينة التي تتولد عنها الفكرة القابلة للاختبار، والتجربة التي تفحص (الفرضية) أو الفكرة وتخضعها للتجريب للتأكد من صحتها،وذلك وفق خطوات منهجية ضرورية تشكل منهج التجريب العلمي.
البناء الحجاجي للأطروحة:
المنهج العلمي أو التجريب العلمي يقوم على خطوتين أساسيتين وضروريتين هما الملاحظة العلمية التي تنشا عنها الفكرة أو الفرضية التفسيرية للظاهرة الملاحظة ثم التجربة التي يقوم العالم من خلالها بالتأكد من مدى مطابقة فرضيته للواقع،باعتبارها وقائع صحيحة ومنتظمة( تؤدي إلى قانون يفسر الظاهرة ويتيح التنبؤ). وهذا يعني أن العالم يكون في نفس الوقت ملاحظا ومجربا.
والملاحظة التي يقوم بها العالم يجب أن تكون دقيقة مما يفرض عليه استخدام كل الأدوات التي تتيح ملاحظة شمولية للظاهرة المدروسة. ويشترط فيها أن تكون ملاحظة أمينة للواقع لا يسمح فيها للعالم بالتدخل أي عليه مواجهة الواقع دون أفكار مسبقة( دون أي نظرية سابقة على الملاحظة)إذ عليه الإنصات لإملاءات الطبيعة والتصوير الفوتوغرافي لها. أما الفكرة أو الفرضية( النظرية) فهي من إيحاء الملاحظة وناتجة عنها أي أن العقل يتدخل هنا فقط للتفسير والقيام بالاستدلال الذي يوحي به الواقع. وهذه الفكرة أو الفرضية يجب أن تكون قابلة للاختبار ،وعلى العالم أن يخضعها للتجربة للتأكد من صحتها أو استبدالها بفرضية أخرىأكثر ملائمة للواقع، وهذه التجربة يجب أن تكرر في ظروف مختلفة ويتم تنويعها بشكل كبير حتى يتم الوثوق فيها( ومع ذلك لا يمكن اعتبارها حقيقة نهائية ومطلقة). هكذا يمكن القول –حسب كلود برنار – أن المنهج العلمي يتمثل في أربع خطوات هي:
1-    الملاحظة الدقيقة والأمينة للواقع.
2-    الفرضية  التفسيرية  الناتجة عن المعاينة للواقع.
3-    التجربة التي خطط لها العالم فكريا والتي يتم انجازها في المختبر بطريقة متكررة في ظروف مختلفة ويتم تنويعها بشكل كبير.
4-     ملاحظة الظواهر الجديدة التي تنتج عن ذلك والتي يجب تقديم فرضيات جديدة وهكذا دواليك.
     هكذا يجعل كلود برنار من الملاحظة بداية المنهج العلمي ونهايته.
    إن هذا التصور- الذي يقوم على النزعة الاستقرائية - وإن يشير إلى ضرورة الجمع بين النظرية والتجربة إلا انه يركز على كون النظرية ليست إلا نتاجا للملاحظة ، وليست سابقة عنها ،فالعالم يجب عليه مواجهة الواقع دون أفكار سابقة ، ومهمة النظرية أو الاستدلال العقلي هنا فقط تقديم تفسير للوقائع الملاحظة ، مما يجعل العقل فقط يسجل ويستجيب لإملاءات الطبيعة وهذا هو التصور التجريبي الكلاسيكي ( المذهب التجريبي الكلاسيكي يعتبر العقل صفحة بيضاء تملؤها أو تكتب عليها معطيات التجربة).
-       المناقشة:
ولكن ألا يعني الفول بان العالم ينصت إلى الطبيعة  ويلتزم الصمت و يقوم بالنقل الأمين والتصوير الفوتوغرافي للطبيعة تهميشا لدور العقل وللنظرية؟وبالتالي فالعقل ليس  إلا  متلق يسجل إملاءات الطبيعة؟ وهل هذا التصور ينطبق فعلا على المنهج التجريبي؟ أليس للعقل وللنظرية دورا أكبر مما ينسبه إليه كلود برنار؟
كانط : العقل يحتل الصدارة في المنهج العلمي: 
يبدو تصور برنار لدور النظرية والعقل في المنهج التجريبي ، تصورا كلاسيكيا (هذا التصور أصبح اليوم متجاوزا ). فكانط( الذي عاش قبل كلود برنار ببضع سنوات) مثلا لا يتفق مع هذا التصور ، لأن العقل في عملية المعرفة العلمية ليس منفعلا ولا متلقيا بطريقة سلبية كما وصفه برنار بل على العكس من ذلك فهو الذي يحتل الصدارة في عملية المعرفة العلمية وهذا ما يتبين من خلال قولة كانط في إطار حديثه عن العلماء ، حيث يقول أن العلماء: " فهموا أن العقل لا يرى إلا ما ينتجه هو وفق خططه الخاصة ، وان عليه أن يتقدم بالمبادئ التي تحدد أحكامه وفق قوانين ثابتة. وان عليه أيضا أن يرغم الطبيعة على الجواب عن أسئلته، وان لا يترك نفسه ينقاد بحبال الطبيعة وحدها…" فالعقل هنا ليس متلق ( كما قال برنار)  ولا ينصت كما ينصت التلميذ إلى المعلم بل يستجوب الطبيعة كما يستجوب القاضي الشهود…
الخيال والتجريب : روني طوم : 
ويقدم روني طوم تصورا معاصرا يتجاوز التصور الذي قدمه برنار( وكذلك كانط)  هذا التصور المعاصر للمنهج التجريبي يعطي أهمية متعاظمة للنظرية وللعقل هكذا يتحدث طوم عن التجربة العقلية الخيالية التي تكمل ماهو واقعي منتقدا بذلك التصور الكلاسيكي الذي لم يعد يعكس واقع التجربة العلمية التي لابد فيها من إكمال الواقعي بالخيالي ، هذه العملية الذهنية التي لايمكن لأي آلة تعويضها .
فالواقعة التجريبية في تصور روني طوم لكي تكون علمية لابد  أن يتضافر فيها شرطين أساسيين هما قابلية التجربة العلمية للتكرار وإعادة صنعها في  أزمنة وأمكنة مختلفة ، وان تستجيب لتطبيقات عملية تلبي حاجات إنسانية من جهة واهتمامات نظرية أي دخولها ضمن إشكالية علمية قائمة من جهة  أخرى. فالهدف من التجريب العلمي هو التحقق من الفرضية التي هي نظرية تتضمن إلى جانب ماهو واقعي ماهو خيالي ( على سبيل المثال إضافة مفهوم السببية كما أن هذا التصور يستمد شرعيته من الفيزياء المعاصرة الكوانتية والتي تعالج العالم الميكروسكوبي الذي لا يمكن ملاحظته بشكل مباشربل فقط من خلال بعض الآثار الناتجة عن حركات مكونات الذرة مما يستوجب تدخل التجربة الخيالية التي يلعب فيها العقل دورا كبيرا) وهذا ما يتيح ملأ الفراغ والنقص الناتج عن عجز الملاحظة وبالتالي اكتمال البناء النظري وإضفاء طابعا شموليا عليه ، ويمكن العقل من استباق تفاعلات الواقع والتعبير عنها بشكل رياضي، لهذا يرى روني طوم أن هذه القفزة الخيالية لايمكن لأي آلة أن تعوض فيها العقل. من هنا تبرز الأهمية الكبرى للعقل وللخيال إذ يشكلان عملية لايمكن الاستغناء عنها رغم انفلاتها من كل رتابة وعن كل منهج.
هكذا يتبين لنا أن دور العقل والنظرية في المنهج العلمي اكبر بكثير مما تصوره المنهج الكلاسيكي كما عبر عنه كلود برنار ، إذ انتقل من دور المتلقي والمنفعل إلى دور الفاعل والمبدع وهذا الدور الإبداعي هو ما سيوضحه بشكل أكبر أينشتاين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق