الخميس، 20 مارس 2014

المنهج الذي سلكه محمد عابد الجابري لدراسـة التراث العربي الإسلامي



المنهج الذي سلكه محمد عابد الجابري لدراسـة التراث العربي الإسلامي
         
المنهج الذي يقترحه الجابري في تعامله مع التراث
إن المنهج الذي توسّل به الرّجل لدراسة "التراث" لم يكن اختيارا منهجيا, بل إن طبيعة الموضوع هي التي فرضت عليه أن يتبع منهجا و أن يترك آخراً. يقول: «و أنا لم أختر هذا الإختيار, بل أجبرت عليه, لقد فرضته عليّ المادة التي أتعامل معها»25. و يشبه الجابري هذا الأمر «بربان الطائرة فهو يتصرَّف حسب المعطيات الجوِّية أكثر من اهتمامه بما إذا كان الرُّكاب يشعرون باهتزاز الطائرة أم لا يشعرون»26. فالطريقة الملائمة "للتعامل" مع "التراث" عند محمد عابد الجابري لا تكمن في اختيار هذا المنهج أو رفض ذاك من المناهج الجاهزة. بل فحص العملية الذهنية التي سيتم بواسطتها ومن خلالها تطبيق المنهج, أي منهج. المسألة الأساسية هي نقد العقل لا استخدام العقل بهذه الطريقة أو تلك
          إن إشكالية اختيار المنهج الكفيل و المناسب لقراءة و دراسة "التراث" تكمن في «مشكلة الوسيلة التي تمكن من فصل الذات عن الموضوع و الموضوع عن الذات حتى يصبح في الإمكان إعادة العلاقة بينهما على أساس جديد». إذن مشكلة المنهج  ليست في اختيار منهج ما أو رفض لآخر, بل أن المناهج «جميعا لا تصلح إلا عندما يكون الموضوع منفصلا عن الذات» 28.
          إن أي منهج عند الراحل هو نسبي و يسقط هذا الأمر أيضا على منهجه و لكن رغم ذلك فيعتبر منهجه إجرائيا لما يتوخاه من تحقيق الموضوعية و المعقولية. ولذلك نجده  عندما يريد الحديث عن المنهج فإنه يطرح دائماً السؤال التالي « كيف نتعامل مع تراثنا بموضوعية و معقولية»29. ويعني "بالموضوعية": « جعل التراث معاصرا لنفسه الشيء الذي يقتضي فصله عنا», و يعني "بالمعقولية": «جعل التراث معاصرا لنا أي إعادة وصله بنا»30. ويشرح الجابري هذا الأمر بشكل واضح في وجه قوله: « فإن الهدف الذي ترمي إليه هو جعل التراث معاصرا لنفسه على صعيد الإشكالية النظرية و المحتوى المعرفي و المضمون الإيديولوجي, الشيء الذي يتطلب معالجته في محيطه الخاص, المعرفي و الإجتمـاعي و التاريخي, و هذا هو معنى الموضوعية وفي الوقت نفسه جعله معاصرا لنا بنقله إلينا ليكون موضوعا عاقلا لأن نمارس فيه و بواسطته عقلانية تنتمي إلى عصرنا, و هذا هو معنى المعقولية»31.

  الخطوات التي رسمها الجابري لمنهجه وهي ثلاثة:
     _ المعالجة البنيوية: هذه الخطوة الأولى تهدف إلى دراسة "التراث" انطلاقا من النصوص الأصلية كما هي معطاة لنا, ووضع جميع الدراسات السابقة جانباً و بين قوسين «و الاقتصار على التعامل مع النصوص»32.فعندما «يقدم التراث نفسه إلينا بصورة منظومة أو مركبة, لابد أن نفككه لكي نفهمه, وحين يقدم نفسه مفككا (...) لابد لنا أن نكتشف بنيته لنفهمه ثم نفككه فيما بعد»33. إن الأمر يتعلق إذن بـ« محورة فكرة صاحب النص حول إشكالية واضحة تستوعب جميع التحولات التي
يتحرك بها ومن خلالها فكر صاحب النص»34. وعلى هذا الأساس تصبح «القاعدة الذهبية في هذه الخطوة الأولى هي تجنب قراءة المعنى قبل قراءة الألفاظ (كعناصر في شبكة من العلاقات و ليس كمفردات مستقلة بمعناها): يجب التحرر من الفهم الذي تؤسسه المسبقات التراثية أو الرغبات الحاضرة»35.
     _ التحليل التاريخي: إن هذه الخطوة التحليلية هي التي تؤكد "صحة" أو "كذب" ما جاء في الخطوة الأولى ( المعالجة البنيوية). فالتحليل التاريخي يقوم «بربط فكر صاحب النص الذي أعيد تنظيمه في المعالجة البنيوية بمجاله التاريخي بكل أبعاده الثقافية و السياسية و الاجتماعية. إن هذا الربط ضروري من ناحيتين: ضروري لفهم تاريخية الفكر المدروس و جينيالوجيته, وضروري لاختبار صحة النموذج (البنيوي) الذي قدمته المعالجة السابقة»36. وعندما يتحدث الجابري عن الصحة فإنه يقصد بذلك "الإمكان التاريخي" و ليس الصدق المنطقي. «الإمكان الذي يجعلنا نتعرف على ما يمكن أن يقوله النص و ما لا يمكن أن يقوله, وما كان يمكن أن يقوله ولكن سكت عنه»37.
     _ الطرح الإيديولوجي: تأتي هذه المرحلة الأخيرة في منهج الجابري غرضها «الكشف عن الوظيفة الإيديولوجية الاجتماعية السياسية التي أداها الفكر المعني.أو كان يطمح إلى أدائها داخل الحقل المعرفي العام الذي ينتمي إليه.إن الكشف عن المضمون الإيديولوجي للنص التراثي هو في نظرنا الوسيلة الوحيدة لجعله معاصرا لنفسه لإعادة التاريخية إليه»38.
          يتبين لنا إذن أن الرَّاحل  في منهجه حاول المزج بين "المنهج البنيوي و المنهج التاريخي و الطرح الإيديولوجي-الواعي-" بهدف تحقيق "الموضوعية" و "المعقولية" على أساس "الفصل" و "الوصل". و يشير الجابري إلى أن هدف هذه
الخطوات الثلاث متداخلة فيما بينها, لكنها يجب, كما يقول, أن تتعاقب بالترتيب الذي
 وضعه لها في ممارسة البحث39.كما يتبين لنا أن المنهج عند الدكتور ليس أمرا اختياريا, بل إن طبيعة الموضوع هي التي تحدد نوعية المنهج الملائم. «فالمنهج مهما كان علمياً, ومهما كانت درجة الضبط فيه, يتوقف النجاح في الاستفادة منه على مدى مطاوعته للموضوع ومدى قدرته على تطويعه»40. وتبقى الإشارة إلى أن هناك من يقول بأن الجابري في منهجه حاول أن يمزج بين ميشيل فوكو (المنهج الأركيولوجي) و باشلار وبياجي (القطيعة الإيبستيمولوجية) و دريدا (المنهج التفكيكي).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق