إذا كان الرسول الله بعث
رحمة، فكيف يقول المسلم: إن الآيات التي يسلطها الله على الخلق تعّد عذابا لهم؟!
فأين رحمة المسلم لغيره من البشر؟! .
من كمال رحمة الله سبحانه
وتعالى بخلقه أن أرسل إليهم الرسل، وأنزل إليهم الكتب، فكانت رسالات الرسل تجمع بين
الدلالة على الخير، والتحذير من الشر، ترغيبا وترهيبا، بشارة ونذارة، قال تعالى:) رُّسُلاً
مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ
لِئَلاَّ يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى
اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ
الرُّسُلِ وَكَانَ
اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا(([1]).
وكانت رسالتهم هداية للناس ورحمة، قال تعالى عن موسى عليه السلام -كما قال
عن غيره-: )وَمِن
قَبْلِهِ كِتَابُ
مُوسَى إَمَامًا
وَرَحْمَةً ( ([2]). وقال عز من قائل عن عيسى عليه السلام: )وَلِنَجْعَلَهُ
آيَةً لِلنَّاسِ
وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ
أَمْرًا مَّقْضِيًّا
( ([3]).
ومع كونهم أرسلوا رحمة للعالمين، فكل
رسول قال لقومه: إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم، فهذا نوح عليه السلام يقول كما
أخبر الله عنه:)يَا قَوْمِ
اعْبُدُواْ اللَّهَ
مَا لَكُم مِّنْ
إِلَـهٍ غَيْرُهُ
إِنِّيَ أَخَافُ
عَلَيْكُمْ عَذَابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ(([4]) .
وهذا شعيب يقول لقومه: )يَا
قَوْمِ اعْبُدُواْ
اللَّهَ مَا لَكُم
مِّنْ إِلَـهٍ
غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ
الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ
إِنِّيَ أَرَاكُم
بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ
عَلَيْكُمْ عَذَابَ
يَوْمٍ مُّحِيط
(.([5])
وكذلك هود خاف على قومه فقال:) إِنِّي
أَخَافُ عَلَيْكُمْ
عَذَابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ ( ([6]). ودعا الخليل أباه إلى الله، وخوفه مما يعلم،
فقال: )يَا أَبَتِ
إِنِّي أَخَافُ
أَن يَمَسَّكَ
عَذَابٌ مِّنَ
الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ
وَلِيًّا(.([7]) وهذا إمام الأنبياء والمرسلين يخاف عذاب ربه، إن هو عصاه، ويأمره ربه أن يقول
لقومه - كما ذكر الله عنه-:) قُلْ
إِنِّيَ أَخَافُ
إِنْ عَصَيْتُ
رَبِّي عَذَابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ(([8]). ويأمر قومه بالاستغفار، ويخبرهم أنهم إن
تولوا عن طاعة ربهم فإنه يخاف عليهم العذاب الكبير، فقال عز من قائل:) وَأَنِ
اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ
تُوبُواْ إِلَيْهِ
يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا
حَسَنًا إِلَى
أَجَلٍ مُّسَمًّى
وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي
فَضْلٍ فَضْلَهُ
وَإِن تَوَلَّوْاْ
فَإِنِّيَ أَخَافُ
عَلَيْكُمْ عَذَابَ
يَوْمٍ كَبِيرٍ (([9]).
فكل الأنبياء – ما عدا
الخليلين – عليهم السلام لما كُذّبوا دعوا على قومهم بالعذاب وبالاستئصال، فقال
نوح عليه السلام، كما أخبر الله عنه:) وَقَالَ
نُوحٌ رَّبِّ
لا تَذَرْ
عَلَى الأَرْضِ
مِنَ الْكَافِرِينَ
دَيَّارًا(([10]).
وقال جلّ ثناؤه عن موسى عليه السلام :)وَقَالَ
مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ
آتَيْتَ فِرْعَوْنَ
وَمَلأهُ زِينَةً
وَأَمْوَالاً فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا
لِيُضِلُّواْ عَن
سَبِيلِكَ رَبَّنَا
اطْمِسْ عَلَى
أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى
قُلُوبِهِمْ فَلاَ
يُؤْمِنُواْ حَتَّى
يَرَوُاْ الْعَذَابَ
الأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ
أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا
فَاسْتَقِيمَا وَلاَ
تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ
الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ(. ([11])
وأخبر النبي قال أن الله سبحانه وتعالى جعل
لكل نبي دعوة مستجابة، وأن كل نبي تعجل دعوته، وأنه من رحمته بأمته ادخر دعوته شفاعة لأمته يوم
القيامة، فعن أنس عن النبي e قال:( كل نبي سأل سؤلا، أو قال: لكل نبي دعوة قد
دعا بها؛ فاستجيب، فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) ([12]) وفي رواية أبي
هريرة قال: قال رسول الله e:( لكل نبي دعوة
مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة
لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة - إن شاء الله - من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا).
([13])
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله :(ومحمد وإبراهيم أفضل الرسل؛ فإنهم إذا علموا الدعوة حصل المقصود، وقد
يتوب منهم من يتوب بعد ذلك، كما تاب من قريش من تاب، وأما حال إبراهيم فكانت إلى
الرحمة أميل، فلم يسع في هلاك قومه لا بالدعاء، ولا بالمقام ودوام إقامة الحجة
عليهم، وقد قال تعالى:)وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُواْ
لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم
مِّنْ أَرْضِنَآ
أَوْ لَتَعُودُنَّ
فِي مِلَّتِنَا
فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ
رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ
الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ
مِن بَعْدِهِمْ (([14])....والخليلان هما أفضل الجميع، وفي طريقتهما من الرأفة والرحمة ما ليس
في طريقة غيرهما).([15])
فنبينا محمد رحمة للعالمين من كل وجه، باعتبار ما حصل من
الخير العام به، وما حصل للمؤمنين به من سعادة الدنيا والآخرة، وباعتبار أنه في
نفسه رحمة، فمن قَبِلَها وإلا كان هو الظالم لنفسه، وباعتبار أنه قمع الكفار
والمنافقين، فنقص شرهم، و عجزوا عما كانوا يفعلونه بدونه.([16])
فالرسول رحمة للخلق في دعوته وفي سلمه وفي حربه، يقول
ابن القيم رحمه الله:( وأما نبي الرحمة فهو الذي أرسله الله رحمة للعالمين؛ فرحم
به أهل الأرض كلهم مؤمنهم وكافرهم، أما المؤمنون فنالوا النصيب الأوفر من الرحمة،
وأما الكفار: فأهل الكتاب منهم عاشوا في ظله وتحت حبله وعهده، وأما من قتله منهم
هو وأمته فإنهم عجلوا به إلى النار، وأراحواه من الحياة الطويلة التي لا يزداد بها
إلا شدة العذاب في الآخرة).([17])
والعذاب والنكال الذي
توعدت به الرسل أقوامهم لم يكن مجرد تهديد ووعيد؛ بل إذا تنكبت الأقوام عن الصراط،
وعاندت المرسلين، واستكبرت على رب العالمين؛ فحينئذ يحق القول، وينزل بهم ما كان
أنذرهم إياه رسولهم، كما قال تعالى:) فَكُلاًّ
أَخَذْنَا بِذَنبِهِ
فَمِنْهُم مَّنْ
أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ
حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ
أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ
وَمِنْهُم مَّنْ
خَسَفْنَا بِهِ
الأَرْضَ وَمِنْهُم
مَّنْ أَغْرَقْنَا
وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ
وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ(.([18])
وبين سبحانه وتعالى أن
هذا العذاب الذي يصيب به أعداءه، إنما هو عذاب خزي لهم في الحياة الدنيا، وهو عذاب
هوان لهم، قال تعالى:) فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ رِيحًا
صَرْصَرًا فِي
أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ
لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ
فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ
الآخِرَةِ أَخْزَى
وَهُمْ لا يُنصَرُونَ
(16) وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا
الْعَمَى عَلَى
الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ
صَاعِقَةُ الْعَذَابِ
الْهُونِ بِمَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ
( ([19]). وأخبر
الحق سبحانه وتعالى أن هذا العذاب المهين مستمر لكل من استكبر وطغى، فقال جل
ثناؤه:)وَلَوْ
تَرَى إِذِ
الظَّالِمُونَ فِي
غَمَرَاتِ الْمَوْتِ
وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ
أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ
أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ
تُجْزَوْنَ عَذَابَ
الْهُونِ بِمَا
كُنتُمْ تَقُولُونَ
عَلَى اللَّهِ
غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ
عَنْ آيَاتِهِ
تَسْتَكْبِرُونَ ( ([20])
والرسول لم يكن بدعا من
الرسل، فكما خاف على قومه المعاصرين له، وأنذرهم وخوّفهم؛ فقد خوف اللاحقين من
أمته، وحذرهم من المعاصي والذنوب عموما، وحذرهم من معاص معينة محددة بعينها،
وأخبرهم بما يترتب عليها من العذاب العاجل،([21]) فإخباره أمته، وتحذيره إياها لا يتعارض مع كونه أرسل
رحمة للعالمين، فمن كمال رحمته إنذاره، ومن كمال رحمته أنه سأل ربه أن لا يهلك
أمته بسنة بعامّة، ، حيث قال :(سألت ربي ثلاثا، فأعطاني اثنتين، ومنعني
واحدة: سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق
فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها)([22]).
بل لما بلغ به الأذى من قومه ما بلغ، وجاءه ملك الجبال يستأذنه في أن يطبق عليهم
الأخشبين، قال مقالته الرحيمة المشهورة:( بل أرجو أن يخرج
الله من أصلابهم من
يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا).([23])
ومن واجبه إبلاغ أمته بما ينتظرها، إن هي
خالفت الأوامر الربانية، ومن كمال رأفته ورحمته أن يبين لأمته أسباب العذاب الذي
يوشك أن يقع بها .
وحَمَلَة رسالته يقتدون بهديه، ويستنون
بسنته، فيبشرون بما بشر به من سعة رحمة الله، وعظيم مغفرته،وفرحه بتوبة عبده،
وينذرون بما أنذر به من أسباب الهلاك المترتب على مقارفة الذنوب والمعاصي. ولو لم
يفعلوا لكان ذلك خيانة منهم لأمتهم، ومعصية لرسولهم .
فإذا وقع ما حذر منه
الرسول ، فهذا مصداق نبوته ، ثم إذا قام العلماء بواجب التنبيه والتذكير
فلا يتجه إليهم اللوم والتعنيف بسبب
تحذيرهم وإنذارهم، ولا يعدّ عملهم هذا من باب
الشماتة بمن وقعت عليهم هذه الأحداث، كما لا يعدّ قولهم هذا تزكية لأنفسهم
ومجتمعهم، بل الجميع عرضة للخطأ، وعرضة لنزول العذاب إذا قارفوا أسبابه، وتعرضوا
لما يسخط الجبار، سبحانه وتعالى .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق