الصدق في
الظاهر والباطن : الصدق
بمعناه الضيق مطابقة منطوق اللسان للحقيقة ، وبمعناه
الأعم مطابقة الظاهر للباطن ، فالصادق مع الله ومع الناس ظاهره كباطنه ، ولذلك
ذُكر المنافق في الصورة المقابلة للصادق ، قال تعالى : (لِيَجْزِيَ اللَّهُ
الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِين..َ)الآية (الأحزاب/24) لا
صدق إلا بإخلاص : والصدق التزام بالعهد ، كقوله تعالى : (مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)(الأحزاب/23) ،
والصدق نفسه بجميع معانيه يحتاج إلى إخلاص لله عز وجل ، وعمل بميثاق الله في عنق
كل مسلم ، قال تعالى : (وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً * لِيَسْأَلَ
الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ )(الأحزاب/7 ، 8) ، فإذا كان أهل الصدق سيُسألون ،
فيكف يكون السؤال والحساب لأهل الكذب والنفاق ؟ والصدق من الأخلاق
الأساسية التي يتفرع عنها غيرها يقول
الحارث المحاسبي : واعلم - رحمك الله - أن الصدق والإخلاص : أصل كل حال فمن الصدق يتشعب الصبر والقناعة والزهد والرضا
والأنس وعن الإخلاص يتشعب
اليقين والخوف والمحبة
والإجلال والحياء والتعظيم ،
فالصدق في ثلاثة أشياء لا تتم إلا به : صدق القلب بالإيمان تحقيقـًا وصدق النية في الأعمال وصدق اللفظ في الكلام . الصدق مرتبط
بالإيمان : ولما للصدق من رابطة قوية بالإيمان ، فقد جوّز رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - أن يقع من المؤمن ما لا يُحمد من الصفات ، غير أنه نفى أن
يكون المؤمن مظنه الوقوع
في الكذب ؛ لاستبعاد ذلك منه وقد سأل الصحابة فقالوا: (يا رسول الله أيكون
المؤمن جبانـًا ؟ قال : نعم ، فقيل له :
أيكون المؤمن بخيلاً ؟ قال : نعم ، قيل له : أيكون المؤمن كذَّابـًا ؟ قال :
" لا " ))(رواه الإمام مالك) . قد يجانب الصدق من يحدث بكل ما سمع : والأصل
في اللسان الحفظ والصون لأن زلاته
كثيرة وشرّه وبيل فالحذر منه والاحتياط في استعماله أتقى
وأورع فإذا وجدت الرجل لا يبالي ، ويكثر
الكلام ، فاعلم أنه على خطر عظيم ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ((كفى بالمرء كذبـًا أن
يحدث بكل ما سمع))(رواه مسلم) ؛ لأن كثرة الكلام مظنة الوقوع في الكذب ، باختراع
ما لم يحدث حين لا يجد كلامـًا ، أو ينقل
خبر كاذب وهو يعلم فيكون أحد الكذَّابين . يُنال الصدق بالتحري : وكل خلق جميل يمكن
اكتسابه بالاعتياد عليه ، والحرص على التزامه ، وتحري العمل به ، حتى يصل صاحبه
إلى المراتب العالية ، يرتقي من واحدة إلى الأعلى منها بحسن خلقه ، ولذلك يقول صلى
الله عليه وسلم: ((عليكم بالصدق ؛ فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى
الجنة ، وما يزال الرجل يصدق ، ويتحرى الصدق ، حتى يُكتب عند الله صدِّيقا)) ،
وكذلك شأن الكاذب في السقوط إلى أن يختم له بالكذب : ((وإياكم والكذب ؛ فإن الكذب
يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى
النار وما يزال الرجل يكذب ، ويتحرى الكذب
، حتى يُكتب عند الله كذَّابا))(رواه البخاري ومسلم) . الصدق = الطمأنينة والثبات
: ومن آثار الصدق ثبات القدم ، وقوة القلب ، ووضوح البيان ، مما يوحي
إلى السامع بالاطمئنان ، ومن علامات الكذب الذبذبة ، واللجلجة ، والارتباك ،
والتناقض ، مما يوقع السامع بالشك وعدم الارتياح ، ولذلك : ((… فإن الصدق طمأنينة
والكذب ريبة))(رواه الترمذي) كما جاء في الحديث . الصدق نجاة وخير: وعاقبة
الصدق خير - وإن توقع المتكلم شرًا - قال تعالى : (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ
لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ)(محمد/21) ، وفي قصة توبة كعب بن مالك يقول كعب بعد أن
نزلت توبة الله على الثلاثة الذين خلفوا : " يا رسول الله إن الله تعالى إنما
أنجاني بالصدق ، وإن من توبتي أن لا أحدّث إلا صدقـًا ما بقيت " ، ويقول كذلك
: فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط ، بعد أن هداني للإسلام ، أعظم في نفسي من
صدقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا أكون كذبته ، فأهلك كما هلك الذين
كذبوا … "(رواه البخاري) . وروى ابن الجوزي في مناقب أحمد أنه قيل
له : " كيف تخلصت من سيف المعتصم وسوط الواثق ؟ فقال : لو وُضِع الصدق على
جرح لبرأ . ويوم القيامة يقال للناس : ( هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ
صِدْقُهُم)(المائدة/119) . الصادق جريء : والصدق
يدعو صاحبه للجرأة والشجاعة ؛ لأنه ثابت لا يتلون ، ولأنه واثق لا يتردد ، ولذلك
جاء في أحد تعريفات الصدق : القول بالحق في مواطن الهلكة وعبر عن ذلك الجنيد بقوله : حقيقة الصدق : أن
تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب . لا تكثر من المعاريض : ولكي
تكون حياتك كلها صدقـًا ، ولتحشر مع الصديقين فاجعل مدخلك صدقـًا ، ومخرجك صدقـًا
، وليكن لسانك لسان صدق ، لعل الله يرزقك قدم صدق ، ومقعد صدق ، ولا تترك فرصة
للشيطان ليستدرجك بالاستكثار من المعاريض ، فالصدق صراحة ووضوح ، والميل عنه
التواء وزيغ ، وحال المؤمن الصدق ، و(إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُون)(النحل/105) . درر من أقوال الصالحين والعلماء في الصدق: قال علي بن
أبي طالب رضي الله عنه: من كانت له عند الناس ثلاث وجبت له عليهم ثلاث ، من إذا
حدثهم صدقهم ، وإذا ائتمنوه لم يخنهم ، وإذا وعدهم وفى لهم ، وجب له عليهم أن تحبه
قلوبهم ، وتنطق بالثناء عليه ألسنتهم ، وتظهر له معونتهم ".أنشد محمود
الوراق: اصدق حديثك إن في الصـدـق والخلاص
من الدنس ودع الكــذوب لشــأنه خير مـن الكـذب الخرس وقيل للقمان
الحكيم: ألست عبد بني فلان؟ قال بلى. قيل: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: تقوى الله عز
وجل ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وترك مالا يعنيني. وقال بعضهم :من لم يؤد
الفرض الدائم لم يقبل منه الفرض المؤقت.قيل: وما الفرض الدائم؟ قال: الصدق. فنسأل
الله الكريم أن يرزقنا الصدق وأن ينزلنا منازل الصديقين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق