السيرة منذ البعثة
حتى الهجرة إلى الحبشة
في
هذه الفترة تثبت لنا الوقائع التاريخية التالية
:
1
-نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم مستحياً : لما تم للنبي صلى الله عليه
وسلم مستحياً أربعون سنة .
نزل عليه جبريل بالوحي في يوم الاثنين لسبع عشر من
رمضان، ويحدثنا الإمام البخاري رضي الله عنه في " صحيحه " بالسند المتصل إلى عائشة أم المؤمنين
رضي الله عنها عن كيفية نزول الوحي عليه ، فتقول
:
" أول ما بدئ به رسول الله صلى الله
عليه وسلم مستحياً الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق
الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه ، وهو التعبد ـ
الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة ،
فيتزود لمثلها ، حتى جاء الحق وهو في غار حراء ن فجاءه الملك فقال له : إقرأ ،
فقال : ما أنا بقارئ قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : إقرأ
، فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ،
فقال : إقرأ فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة ، ثم أرسلني فقال : (
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنء عَلَقٍ اقْرَأ
وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ، الذِي عَلَّمَ بِالقَلَم ، عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ
يَعْللَمْ ) [ العلق : 1ـ6 ]
،
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي
الله عنها ، فقال : زملوني ، زملوني ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة
وأخبرها الخبر : لقد خشيت على نفسي ، فقالت خديجة
: كلا والله
لا يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ،
وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف
، وتعين على نوائب الحق ، فالنطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن
عبد العزى ،وكان ابن عم خديجة ، وكان أمرءاً تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب
العبراني فيكتب من الانجيل بالغبرانية ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخاً كبيراً قد
عمي ، فقالت له خديجة : يا ابن عم ، اسمع من ابن أخيك ، فقال له ورقة : يا ابن أخي
ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى ، فقال له ورقة : هذا
الناموس ـ صاحب الوحي وهو جبريل ـ الذي نزل على موسى ، ياليتني فيها جذعاً ـ شاباً
ـ ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو مخرجي
هم ؟ قال : نعم ، يأت رجل ق يمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك
نصراً مؤزراً ، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي
" .
وفي
رواية ابن هشام عن ابن إسحاق : أن جبريل جاءه وهو نائم في غار حراء بنمط وعاء من
ديباج فيه كتاب ، فقال ، اقرأ .. الخ قال : فقرأتها ، ثم انتهى فانصرف عني وهببت
من نومي ، فكأنما كتبت في قلبي كتاباً ، قال : فخرجت حتى إذا كانت في وسط من الجبل
سمعت صوتاً من السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله ، وأنا جبريل ، قال : فرفعت
رأسي إلى السماء أنظر . فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول : يا
محمد أنت رسول الله ، وأنا جبريل ، قال : فوقفت أنظر إليه ، فما أتقدم وما أتأخر ،
وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رايته كذلك ، فما
زلت واقفاً ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي ، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي .. الخ
.
2-
كان أول من آمن به ودخل في الإسلام زوجة خديجة رضي الله عنها ، ثم أبن عمه علي رضي
الله عنه وهو أبن عشر سنين ، ثم مولاه زيد بن حارثة ، ثم أبو بكر الصديق رضي الله
عنه ، وكان اول من أسلم من العبيد بلال بن أبي رباح الحبشي وعلى ذلك تكون خديجة
أول من آمن به إطلاقاً ، وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معها آخر يوم الاثنين
وهو أول يوم من صلاته ، وكان الصلاة ركعتين بالغداة ، وركعتين بالعشي .
3
- ثم فتر الوحي بعد ذلك فترة من الزمن اختلف الروايات في تقديرها ، فأقصاها ثلاث
سنوات ، وأدناها ستة أشهر وهو الصحيح
.
وقد
شق انقطاع الوحي على الرسول صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،وأحزنه ذلك كثيراً ،
حتى كاد يخرج إلى الجبال فيهم بأن يتردى من رؤوسها ، ظنا منه أن الله قلاه بعد أن
أختاره لشرف الرسالة ، ثم عاد الوحي إليه بعد ذلك كما يروي الإمام البخاري في
" صحيحه " عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي صلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم بينما أناأمشي إذا سمعت صوتاً من السماء ، فرفعت بصري فإذا الملك الذي
جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فرعبت منه ، فرجعت فقلت : زمولني ،
فأنزل الله تعالى : ( يَا أيُّهَا المُدَّثِر ، قُمْ فَأنذِر ) إلى قوله : (
وَالرِّجْزَ فَاهْجُر ) فحمي الوحي وتتابع
.
4-
بدأ رسول الله صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يدعو إلى الإسلام من وثق
بعقله ثلاث سنوات كاملة ، حتى اسلم عدد من الرجال والنساء ممن عرفوا برحجان الرأي
وسلامة النفس
.
5-
أمر الله رسوله صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بلغ عدد الداخلية في الاسلام
نحواً من ثلاثين أن يبلغ الدعوة جهراً ، وذلك في قوله تعالى: ( فَاصْدَعْ بِمَا
تُؤْمَرْ وَأعْرِضْ عَنْ المُشْرِكِين ) [ الحجر : 94
] .
6 - ابتدأت بذلك مرحلة الإيذاء للمؤمنين الجدد
ولرسول الله صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد هال المشركين أن يسفه الرسول
احلامهم ، ويعيب آلهتم ن ويأتيهم بدين جديد يدعو إلى إله واحد لا تدركه العيون
والأبصار ، وهو يدرك الأبصار ،وهو اللطيف الخبير
.
7-
كان الرسول صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة يجتمع بالمؤمنين سراً
في دار الأرقم بن أبي الأرقم الذي دخل في الإسلام أيضاً ، وكان الرسول يتلو عليهم
ما ينزل عليه من آيات القرآن الكريم ، ويعلمهم من أحكام الدين وشرائعه ما كان ينزل
حينئذ .
8
- أمر الرسول صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بأن ينذر عشيرته الأقربين .
فوقف على الصفا ن ونادى بطون قريش بطناً بطناً . ودعاهم إلى الإسلام ، وترك عبادة
الأوثان ، ورغبهم في الجنة ، وحذرهم في النار ، فقال له أبو لهب : تباً لك ، ألهذا
جمعتنا ؟
9-
رغبت قريش في أن تنال من الرسول ، فحماه عمه أبو طالب ، وامتنع عن تسليمه اليهم ،
ثم طلب بعد ذهابهم أن يخفف من دعوته ، فظن أن عمه خاذله ، فقال كملته المشهورة :" والله لو وضعوا الشمس في يمني ،
والقمر في يساري على أن اترك هذا الأمر حتى يظهره الله أن أهلك دونه ، ما تركته ".
10-
إشتد أذى المشركين بعد ذلك للرسول وصحابته ، حتى مات منهم من مات تحت العذاب ،
وعمي من عمي
.
11- لما رأت ثبات المؤمنين على عقيدتهم ، قررت
مفاوضة الرسول على أن تعطيه من المال ما يشاء ، أو تملكه عليها ، فأبى ذلك كله .
12-
لما رأى الرسول تعنت قريش واستمرارها في تغذيب أصحابه ، قال لهم : " لو خرجتم
إلى أرض الحبشة ، فإن فيها ملكاً لا يظلم أحداً عنده حتى يجعل الله لكم فرجاً
ومخرجاً مما أنتم فيه " فهاجروا للمرة الأول أثنا عشر رجلا ، وأربع نسوة ، ثم
عادوا بعد أن علموا باسلام عمر وإظهار الاسلام ، لكنهم ما لبثوا أن عادوا ومعهم
آخرون من المؤمنين ، وقد بلغ عددهم في الهجرة الثانية إلى الحبشة ثلاثة وثمانين
رجلاً ، ومن النساء إحدى عشرة
.
13-
مقاطعة المشركين لرسول الله صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبني هاشم وبني
المطلب أن لا يبايعوهم ، ولا يناكحوهم ، ولا يخالطوهم ، ولا يقبلوا منهم صلحاً
أبداً ، واستمرت المقاطعة سنتين أو ثلاثاً ، لقي فيها الرسول ومن معه في هذه
المقاطعة جهداً شديداً ، ثم انتهت المقاطعة بمسعى عقلاء قريش .
ب
ـ الدروس والعظات
1-
إن الله إذا أراد لعبد أن يوجهه لدعوة الخير والإصلاح القى في قلبه كره ما عليه
مجتمعه من ضلال وفساد
.
2-
إن محمداً عليه الصلاة والسلام لم يكن يستشر للنبوة ولا يحلم بها ، وإنما كان
يلهمه الله الخلوة للعبادة تظهيراً ، وإعداداً روحياً لنحمل أعباء الرسالة ، ولم
كان عليه الصلاة والسلام يستشر للنبوة ، لما فزع من نزول الوحي عليه ، ولما نزل
إلى خديجة يستفسرها عن سر تلك الظاهرة التي رآها في غار حراء ، ولم يتأكد من أنه
رسول الا بعد رؤية حبريل يقول له : يا محمد أنت رسول الله ، وأنا جبريل ، وإلا بعد
أن أكد له ولخديجة ، ورقة بن نوفل أن ما رآه الغار هو الوحي الذي كان ينزل على
موسى عليه الصلاة والسلام
.
3-
إن دعوة الإصلاح إذا كانت غريبة على معتقدات لجمهور وعقليته ، ينبغي أن لا يجهر
بها الداعية حتى يؤمن بها عدد يضحون في سبيلها بالغالي والرخيص ، حتى أذا نال صاحب
الدعوة أذى ، قام أتباعه المؤمنون بدعوته بواجب الدعوة ، فيضمن بذلك استمرارها .
4-
إن رسول الله صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فاجأ العرب بمالم يكونوا
يألفونه، وقد استنكروا دعوته أشد الاستنكار ، وكان كل همهم القضاء عليه وعلى
أصحابه ، فكان ذلك رداً تاريخياً على بعض دعاة القومية الذين زعموا أن محمداً عليه
الصلاة والسلام إنما كان يمثل في رسالته آمال العرب ومطامحهم حينذاك ، وهو زغم
مضحك ترده وقائع التاريخ الثابتة كما رأينا . وما حمل هذا القائل وأمثاله على هذا
القول إلا الغلو في دعوى القومية وجعل الاسلام امراً منيثقاً من ذاتيه العرب
وتفكيرهم ، وهذا إنكار واضح لنبوة الرسول وخفض عظيم لرسالة الاسلام .
5-
إن ثبات المؤمنين على عقيدتهم بعد أن ينزل بهم الأشرار والضالون أنواع العذاب
والاضطهاد ، دليل على صدق إيمانهم وإخلاصهم في معتقداتهم ، وسمو نفوسهم وأرواحهم ،
بحيث يرون ما هم عليه من راحة الضمير واطمئنان النفس والعقل ،وما يأملونه من رضى
الله جل شأنه أعظم بكثير مما ينال أجسادهم من تعذيب وحرمان وأضظهاد .
إن
السيطرة في المؤمنين الصادقين والدعاة المخلصين ، تكون دائما وأبداً لأرواحهم لا
لأجسامهم ، وهم يسرعون على تلبية مطالب أرواحهم من حيث لا يبالون بما تتطلبه
جسومهم من راحة وشبع ولذة ، بهذا تنتصر الدعوات ، وبهذا تتحرر الجماهير من الظلمات
والجهالات
.
6-
إن في قوم الرسول صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك القول لعمه ابي طالب ، وفي
رفضه ما عرضته عليه قريش من مال وملك ، دليل على صدقه في دعوى الرسالة ن وحرصه على
هداية الناس ، وكذلك ينبغي أن يكون الداعية مصمماً على الاستمرار في دعوته مهما
تألب عليه المبطلون ، معرضاً عن إغراء المبطلين بالجاه والمناصب ، فالمتاعب في
سبيل الحق لدى المؤمنين راحة لضمائرهم وقلوبهم . ورضي الله وجنته أعز وأغلى عندهم
من كل مناصب الدنيا وجاهها وأموالها
.
7-
إن على الداعية أن يجتمع بأنصاره على فترات في كل نهار أو أسبوع ، ليزيدهم إيماناً
بدعوتهم ، وليعلمهم طرقها وأساليبها وآدابها ، وإذا خشي على نفسه وجماعته من
الاجتماع بهم علناً وجب عليه أن يكون اجتماعه بهم سراً لئلا يجمع المبطلون أمرهم
فيقضوا عليهم جميعاً ، أو يزدادوا في تغذيبهم وأضطهادهم
.
8- إن على الداعية أن يهتم بأقرابائهم ، فيبلغهم
دعوة الأصلاح ، فإذا أعرضوا ، كان له عذر أمام الله والناس عماهم عليه من فساد
وضلال .
9-
إن على الداعية إذا وجد جماعته في خطر على حياتهم أو معتقداتهم من الفتنة ، أن
يهيئ لهم مكاناً يأمنون فيه من عدوان المبطلين ، ولا ينافي ذك ما يجب على دعاة
الحق من تضحية ، فإنهم إذا كانوا قلة استطاع المبطلون أن يقضوا عليهم قضاءاً
مبرعاً ، فيتخلصوا من دعوتهم ، وفي وجودهم في مكان آمن ضمان لاستمرار الدعوة
وانشارها
.
10-
إن في أمر الرسول أصحابه أولاً وثانياً بالهجرة إلى الحبشة ، ما يدل على أن رابطة
الدين بين المتدينين ولو اختلفت دياناتهم هي أقوى وأوثق من رابطتهم مع الوثنين
والملحدين ، فالديانات السماوية في مصدرها وأصولها الصحيحة متفقة في الأهداف
الاجتماعية الكبرى ، كما هي متفقة في الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر ، وهذا ما
يجعل وشائج القربى بينما أوثق من أية وشيجة من قرابة أو دم أو موطن مع الإلحاد
والوثنية والكفر بشرائع الله
.
11
- إن المبطلين لا يستسلمون أمام أهل الحق بسهولة ويسر ، فهم كلما أخففت لهم سيلة
من وسائل المقاومة والقضاء على دعوة الحق ، ابتكروا وسائل أخرى ، وهكذا حتى ينتصر
الحق انتصاره النهائي وبلفظ الباطل أنفاسه الأخيرة
.
المصدر:
السيرة
النبوية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق