الخميس، 26 ديسمبر 2013

مسألة التدرج في تطبيق الشريعة



مسألة التدرج في تطبيق الشريعة : الناس فيها ثلاثة فرقاء: فريق جنح للإفراط؛ يريد تطبيق الشريعة كاملة من يومه، ومن غير مراعاة لما هو ممكن، وما هو غير ممكن ..!
وفريق ثانٍ جنح للتفريط؛ فهو بذريعة التدرج في تطبيق الشريعة .. تملص .. وتخلف عن الممكن والمقدور عليه من أحكام الشريعة .. وهذا والفريق الذي قبله يُخالفان السنن، وصحيح المنقول، وصريح المعقول معاً .. فحظهما من تطبيق الشريعة، الوقوف عند الشعار وحسب! 
وفريق ثالث، وهو وسط بينهما، من غير إفراط ولا تفريط، وهو الحق الذي لا ريب فيه الذي يوافق صحيح المنقول، وصريح المعقول .. وصفته تكمن في مراعاة التدرج بحسب الإمكان، والقدرة .. فما كان مقدوراً عليه أنجز من فوره من غير إرجاء .. وما تم العجز والقصور عن إدراكه وتحقيقه .. يُنشَطُ للعمل والإعداد بجد وإخلاص ـ قدر المستطاع ـ من أجل تحقيقه وإنفاذه فور تحقق القدرة والاستطاعة على إنفاذه.
وذلك أن أحكام الشريعة كلها منوطة بالاستطاعة .. وأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها وطاقتها، كما قال تعالى:) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم (التغابن:16. وقال تعالى:) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا (البقرة:286. قال ابن كثير في التفسير: أي لا يُكلَّف أحدٌ فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم ا- هـ. 
كذلك قوله تعالى:) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (الحج:41. فعلى قدر التمكين يكون الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر .. فالأمر، والنهي ـ كمّا ونوعاً ـ مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بالتمكين، ودرجة التمكين. 
وفي الحديث فقد صح عن النبيr  أنه قال:" وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم "متفق عليه.
والقاعدة الفقهية، تنص على أن:"الميسور لا يسقط بالمعسور".
قال الإمام الشافعي رحمه الله: فالله تعالى يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه، فيثيبه، وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه، فيعذبه، فإنما يعذبه لأنه لا يفعل مع القدرة، وقد علم الله ذلك منه، ومن لا يستطيع لا يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطيعه[[1]].
وقال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام 2/5: إن من كلف بشيءٍ من الطاعات فقدر على بعضه وعجز عن بعضه، فإنه يأتي بما قدر عليه، ويسقط عنه ما عجز عنه ا- هـ. 
وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى المسلمين في الأمصار: إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص. البخاري.
فقوله t:" فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها "، يعني إلى تاريخ كتابة كتابه هذا لم يكن قد بينها كلها لهم .. كما لم يكن للمسلمين قد عملوا بمجموعها .. وهو الخليفة العادل والعام على المسلمين.
كذلك يُروى عن ولده عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز أنه قال لأبيه عمر: يا أبتِ، مالك لا تنْفُذُ في الأمور، فوالله لا أبالي في الحقِّ لو غلَت بي وبك القُدور؟! قال له عمر: لا تعجَل يا بُني، فإنَّ الله تعالى ذمَّ الخمرَ في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وأنا أخافُ أن أحمل الناسَ على الحق جملة، فيدفعوه وتكون فتنة[[2]].
هذا الفقه ـ بضابطه ـ نحتاجه في سعينا نحو التغيير، وإقامة دولة الإسلام، وفي تعاملنا مع الشعوب .. وأخذهم بالرفق والحكمة ما أمكن لذلك سبيلاً ـ فمن استعجل شيئاً قبل أوانه أفسده وعُوقِب بحرمانه ـ وبخاصة في مرحلة ما بعد الثورات العربية الإسلامية المعاصرة .. حيث قد مضى على الناس عقوداً تحت حكم الطاغوت، يحكمهم ويسوسهم بالكفر، والتجهيل، والتركيع، والإذلال، والقهر، والخوف، والفقر .. إذ لا بد من أن يمروا ـ بعد التحرير ـ بمرحلة نقاهة وعلاج .. وتعليم، وتدريب .. كأي مريض يحتاج إلى فترة نقاهة بعد مرضه .. حيث لا يمكن أن تحمله على ما تحمل عليه الصحيح من أول يومٍ يمتثل فيه للشفاء .. كما لا ينبغي للصحيح أن يستعلي على السقيم، فيُصدر بحقه أحكاماً بغير حق، ولا تثبت، وليتذكر أنه كان يوماً من الأيام سقيماً مثله، فشفاه الله، وهداه للإيمان، كما قال تعالى:) وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (النساء:94.
ونعيد ما ذكرناه من قبل: من أن الشريعة لا يجوز حصرها وقصرها على تنفيذ بعض الحدود الشرعية المنوطة بالسلطان كما يظن البعض .. بل هي تشمل العمل بجميع أحكام وتعاليم الإسلام، الخاصة والعامة، ما ظهر منها وما بطن .. فالشريعة تشمل جميع شعب الإيمان الواردة في الحديث الصحيح:" الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان " مسلم . فكل هذه الشعب ـ بما في ذلك إماطة الأذى عن الطريق ـ هي الشريعة، والعمل بها من العمل بالشريعة .. وهي منها ما هو منوط بالسلطان، كتنفيذ القِصاص والحدود الشرعية .. ومنها ما يمكن للأفراد، والجماعات أن يقوموا به من تلقاء أنفسهم .. في بيوتهم .. وتجارتهم .. ومعاملاتهم .. وبالتالي لا ينبغي أن يُعطلوا الميسور، والمقدور عليه من الشريعة .. لكون السلطان أو الحاكم قد قصر فيما يجب عليه .. فالميسور لا يسقط بالمعسور.
أقول ذلك: لأن هناك وللأسف من يتكلم عن الشريعة، ويُقاتل لأجلها " كشعار " وحسب .. بينما هو في سلوكه .. وأخلاقه .. وحياته الزوجية والأسرية .. وبيعه وشرائه .. في متجره، ومصنعه .. ومؤسسته .. وتعامله مع الآخرين، وتحديد مواقفه منهم سِلماً وحرباً .. حباً وكرهاً، رِضىً وسخطاً، ولاءً وعداءً .. موافقة ومخالفة .. لا يلتزم بكثير من أحكام الشريعة .. مع قدرته على فعل ذلك لو أراد .. وهؤلاء أنَّى لهم أن يحكموا الناس بالشريعة .. لو أتيحت لهم الفرص .. وهؤلاء حظهم من كتاب الله تعالى قوله تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ .كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (الصف:3.

* * * * *








[1]  عن شرح العقيدة الطحاوية، ط المكتب الإسلامي، ص271.
[2]  العقدُ الفريد: 1/39.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق