الخميس، 26 ديسمبر 2013

الشعوب الاسلامية في الحكم




       ثالثاً: الشعوب المسلمة: هم الأصل، وهم ملح البلد .. هم مصدر السلطات التنفيذية كلها .. وهم الغاية من الحكم .. وهم غاية الإسلام؛ الذي جاء للحفاظ على مقاصده فيهم " الدين، والنفس، والعقل، والعِرض، والمال "، وبالتالي للشعوب كامل الحق في المراقبة، والمحاسبة لكل من يخل بواجبه نحوهم .. أو يُفرّط بحقهم، ولم يراعِ مقاصد الإسلام فيهم.
       ليس من العدل .. أن يُطالبوا بسداد ما عليهم من حقوق نحو الدولة، والحاكم .. ثم لا تؤدّى لهم حقوقهم من قبل الحاكم، والدولة .. أو يُغيبوا عن المشهد السياسي .. وعن المشاركة في حكم البلاد وإدارتها.
       إن غفلة الشعوب عن الحكام .. وعن دورهم الريادي في المشاركة، والمراقبة، والمحاسبة .. يترتب عليه محظوران كبيران: أولهما: تفريخ وتصنيع الطغاة المستكبرين في المجتمع المسلم .. فالحاكم ـ مع غفلة الشعوب عن مراقبته ومحاسبته ـ يتحول إلى طاغية كبير، وإن لم يكن في الأصل طاغية،
أو لم يبتدئ كطاغية!
       ثانيهما: عندما تتخلى الشعوب عن دورها الريادي القيادي .. وعن مراقبتها ومحاسبتها للحكام .. وعن مسؤولياتها العامة .. وتدع مهمة تقدم البلاد وإدارتها لشخص الحاكم وحسب .. تُصاب البلاد بالتخلف .. والشلل الفكري .. والاقتصادي .. وعلى جميع المستويات!  
       من هنا جاء الإسلام ليؤكد تأكيداً جازماً على قيمة وأهمية دور الشعوب .. في نهضة وإدارة شؤون البلاد على جميع المستويات .. كما قال تعالى:) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ (؛ كل المؤمنين والمؤمنات، بدون استثناء ) بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ (التوبة:71. ) يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ (؛ كل المعروف؛ المعروف المتعلق بالحاكم والمحكوم، وواقع البلاد سواء ) وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ (؛ كل المنكر؛ المنكر المتعلق بالحاكم والمحكوم سواء .. وهذا يستدعي نوع مراقبة يقظة للشؤون العامة والخاصة سواء .. من المؤمنين والمؤمنات؛ كل المؤمنين والمؤمنات.
وفي الحديث فقد صح عن النبي r أنه قال:" كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته " البخاري. لا يوجد في المجتمع المسلم شخص غير مسؤول ولا راعٍ .. فكلكم راعٍ بحسب موقعه ومكانته .. وكلكم مسؤول ومحاسب عن رعيته .. وعما استرعاه الله إياه .. في الدنيا والآخرة.
وقال r:" الدينُ النصيحة " قلنا: لمن؟ قال:" لله، ولكتابِه، ولرسولِه ، ولأئمة المسلمين، وعامتهم " مسلم.    
وقال صلr:" ثلاثٌ لا يغلُ عليهنَّ قلبُ المؤمن: إخلاصُ العملِ لله، والنَّصيحةُ لولاة الأمر .."[[1]]. والنصيحة للأئمة وولاة الأمر .. تتضمن العدل في الأمر، والنهي .. وإرادة الخير لهم .. وأطرهم إلى الحق .. ومنعهم عن الظلم .. وهذا لا يتحقق إلا بعد حسن مراقبة ومتابعة من الأمة كلها .. كل بحسبه، وموقعه. 
وقد تقدم معنا قوله r:" أفضلُ الجهادِ كلمةُ عدلٍ عندَ سلطانٍ جائرٍ "[[2]].
وفي رواية:" أفضلُ الجهادِ كلمةُ حقٍّ عند سلطانٍ جائر ".
وفي رواية:" إنَّ من أعظمِ الجهادِ كلمةُ عدلٍ عندَ سلطانٍ جائرٍ "[[3]].
وفي رواية" أحبُّ الجهادِ إلى اللهِ؛ كلمةُ حقٍّ تُقال لإمامٍ جائرٍ "[[4]].
وقال r:" سيدُ الشهداء حمزةُ بن عبد المطلب، ورجلٌ قامَ إلى إِمامٍ جائرٍ فأمرَه ونهاهُ فقتلَهُ "[[5]].
فأعطى النبيُّ r لمقام رقابة الشعوب لسلاطين الجور، ومحاسبتهم، ومساءلتهم، والصدع بالحق في وجوههم .. درجة أفضل الجهاد .. وأحب الجهاد .. وأعظم الجهاد .. وأنه شهيد، مع سيد الشهداء في الجنة .. لمن يُقتل منهم على يد الظالمين بسبب موقفه هذا!   
وقال r:" سيكونُ أُمراءُ من بعدي؛ يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤمَرون، فمن جاهدَهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدَهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدَهم بقلبه فهو مؤمِن، لا إيمانَ بعدَه "[[6]]. وهذا خطاب للأمة كلها .. للخاصة من الشعوب، وعامتهم.
وقال r:" اسمعوا، هل سمعتهم أنه سيكون بعدي أمراءٌ فمن دخلَ عليهم فصدَّقَهم بكذبِهم، وأعانهم على ظُلمِهم فليسَ مني ولستُ منه، وليس بواردٍ عليَّ الحوض، ومن لم يَدخُلْ عليهم ولم يُعِنْهُم على ظلمِهم ولم يُصدقهم بكذِبهم فهو مني وأنا منه، وهو واردٌ عليَّ الحوض"[[7]].
وقال r:" ألا إنَّها ستكون بعدي أُمراء يظلمون ويَكذبون، فمن صدَّقَهُم بكذبهم، ومالأهم[[8]] على ظُلمِهم، فليس مني، ولا أنا منه، ومن لم يُصدِّقهم بكذبِهِم، ولم يُمالئهم على ظُلمِهم، فهو مني وأنا منه "[[9]].
وقال صلى الله عليه وسلم:" إن النَّاس إذا رأَوا الظالمَ فلم يأخذوا على يدَيْهِ أوشَكَ أن يَعُمَّهم اللهُ بعقابٍ "[[10]]. وغيرها عشرات الأحاديث النبوية التي تعزز لدى الأمة والشعوب عنصر الرقابة، والمحاسبة للحكام والأمراء .. وكل بحسبه، وحسب موقعه. 
ولمَّا وُلي أبو بكر الصديق رضي الله عنه خليفة، قام خطيباً بين الناس، فكان مما قال:" أيُّها الناس، فإنّي قد وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركُم، فإن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوموني .. أطيعوني ما أطعتُ اللهَ ورسولَه، فإن عصيتُ اللهَ ورسولَه فلا طاعة لي عليكم ". فها هو أبو بكرٍ الصديق ـ رضي الله عنه ـ وهو، هو .. هو [ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ]، يُطالب الناس، بأن يُراقبوه، ويُتابعوه .. وسيرته في الحكم .. فإن أساء أن يُقوموه .. وإن عصى اللهَ ورسولَه ـ حاشاه ـ أن لا يُطيعوه .. فأي معنى لمراقبة الأمة والشعوب لحكامها .. ومن ثم محاسبتهم لو بدر منهم أي تقصير .. يوازي هذا المعنى العظيم .. الذي أشار إليه الصّدِّيق .. وحَضَّ عليه الناس!
أما الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه .. صاحب شعار ومبدأ " من أين لك هذا؟! ـ فحدث عنه ولا حرَج ... فقد جاءت عمر برود من اليمن، ففرقها على الناس بُرداً بُرداً، ثم صعد المنبر يخطب وعليه حلّة منها (أي بردان) فقال: اسمعوا رحمكم الله. فقام إليه سلمان، فقال: والله لا نسمع، والله لا نسمع. فقال: ولم يا أبا عبد الله؟ فقال: يا عمر! تفضلت علينا بالدنيا، فرّقت علينا برداً برداً، وخرجت تخطب في حلّة منها؟ فقال: أين عبد الله بن عمر؟ فقال: ها أنذا يا أمير المؤمنين! قال: لمن أحد هذين البردين اللذين عليّ؟ قال: لي. فقال لسلمان: عجلت عليّ يا أبا عبد الله، إني كنت غسلت ثوبي الخلق، فاستعرت ثوب عبد الله. قال: أما الآن فقُلْ، نسمع ونطع[[11]].
انظروا في التاريخ كله؛ القديم والحديث منه سواء .. وفي جميع الأنظمة السياسية الديمقراطية وغيرها .. هل تجدون نموذجاً يجسد مراقبة الشعوب ومحاسبتهم لحكامهم يرقى إلى مستوى هذا النموذج أعلاه .. ثم انظروا هل تجدون حاكماً يُصغي لآحاد رعيته .. وهو في خطاب له على الملأ .. يحاسبه ويُسائله .. ويقول له: لا سمع ولا طاعة لك من أجل ثوب .. لماذا عليك بُردين .. بينما لكل واحدٍ من رعيتك برد واحد؟!
أبعد ذلك يجوز أن يُرمى الإسلام ـ حاشاه ـ بتجاهل الشعوب، وحقوقهم السياسية، والإدارية وغيرها .. ودورهم الفعال في مساءلة الحكام ومحاسبتهم؟!
فإذا الشعوب المسلمة ـ في مرحلة من مراحل التاريخ ـ قد غفلت عن حقوقها .. ودورها الفعال في إدارة البلاد .. والمحاسبة والمساءلة .. والمراقبة .. فهو بسبب من عند نفسها .. وليس بسببٍ من دين الله.
هذا هو موقف الإسلام من الشعوب .. وهذه هي مكانة الشعوب في الإسلام .. فما هو موقف الأنظمة الأخرى من الشعوب؟


[1] رواه ابن أبي عاصم في السنة، وصححه الشيخ ناصر في التخريج: 1085.
[2] صحيح سنن أبي داود: 3650.
[3] صحيح سنن الترمذي: 1766.
[4] أخرجه أحمد وغيره، صحيح الجامع: 168.
[5] أخرجه الحاكم، السلسلة الصحيحة: 491.
[6] صحيح موارد الظمآن: 1298.
[7]  صحيح سنن الترمذي: 1843.
[8] أي طاوعهم ووافقهم.
[9] أخرجه أحمد، صحيح الترغيب: 2244.
[10] رواه أبو داود وغيره، صحيح سنن أبي داود: 3644.
[11]  أخبار عمر، علي الطنطاوي، المكتب الإسلامي، ص161.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق