الخميس، 26 ديسمبر 2013

مسألة اشتراط القرشية في الإمامة



ـ مسألة اشتراط القرشية في الإمامة: هل القرشية شرط صحة للإمامة، تنتفي الإمامة وتبطل بانتفائها .. أم أنها واجبة من غير شرط .. أم أنها مندوبة؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين. المسألة فيها خلاف، والراجح أن صفة " القرشية " في الإمامة ليست شرط صحة؛ تنتفي الإمامة وتبطل بانتفائها، وإنما العمل بها واجب، بشروط وضوابط.
أما أنها ليست شرطاً؛ فهو لقوله r:" إن أُمِّرَ عليكم عبدٌ مُجدَّع ـ أي مقطوع الأطراف ـ يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا " مسلم.
ولقوله r لأبي ذر:" اسمع وأطع ولو لحبشيٍّ؛ كأن رأسه زبيبة " البخاري.
وفي رواية:" اسمع وأطع، ولو لعبدٍ مجدّع الأطراف " مسلم.
وهنا ليس المراد العبد المملوك المجدع الأطراف .. لما تقدم أن إمامة العبد المملوك المجدع الأطراف لا تصح .. وإنما المراد المبالغة في الطاعة للحاكم والأمير المسلم ـ بغض النظر عن عشيرته وقبيلته أو نسبه ـ ما دام يحكمكم ويقودكم بكتاب الله U، وسنة نبيه r.
وقال r:" اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُملوا، وعليكم ما حُمّلتم " مسلم. فجاء الأمر بالسمع والطاعة للحاكم المسلم عامّاً من غير تحديدٍ لقبيلة أو عشيرة دون عشيرة أو قومية دون أخرى.
وفي الأثر عن عمر بن الخطاب t قال:" إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حي استخلفته، فإن أدركني أجلي، وقد مات أبو عبيدة، استخلفت معاذ بن جبل "[[1]]. ومعاذ بن جبل ليس من قريش، وإنما هو أنصاري، خزرجي.
وقد نُقِل عن كثير من أهل العلم أن الإمام المتغلب بالقوة .. تنعقد له البيعة .. وإن لم يكن قرشياً، قال ابن حجر في الفتح 13/131:" وأما لو تغلب عبد حقيقةً بطريقة الشوكة فإن طاعته تجب إخماداً للفتنة، ما لم يأمر بمعصية "ا- هـ.
قلت: لو كانت القرشية شرطاً .. كشرط الإسلام .. لا تُقبل ولاية غير القرشي، حتى لو تغلّب عن طريق الشوكة.
كذلك الخلافة العثمانية .. استمرت عدة قرونٍ .. ولم نعرف من أهل العلم من قال ببطلان خلافة العثمانيين الأتراك .. لكونهم غير قرشيين. بل ورد في الحديث ثناء النبي r على الجيش الذي يفتح القسطنطينية وعلى أمير ذلك الجيش، فقال r:" لتفتحنّ القسطنطينية، ولنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش "[[2]]. وكان أمير ذلك الجيش الذي به فتحت القسطنطينية كما هو مشهور ومعلوم، المجاهد " محمد الفاتح " الخليفة العثماني، وهو غير قرشي .. فالقسطنطينية قبل محمد الفاتح غُزيت .. لكنها لم تُفتَح إلا في عهده وعلى يديه .. ولو كانت القرشية شرطاً لما أثنى النبي r خيراً على محمد الفاتح، والله تعالى أعلم.
وعليه فإن مجموع ما تقدم من أدلة، أعتقد أنها ترقى إلى درجة صرف القرشية كشرط لصحة الإمامة والخلافة، والله تعالى أعلم.
أما أنها واجبة؛ أي يجب أن تكون الإمامة العامة في قريش، فهو لقوله r:" لا يزال هذا الأمر ـ أي أمر الخلافة ـ في قريش، ما بقي منهم اثنان " متفق عليه. ولقوله r:" إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحدٌ إلا كبّه الله في النار على وجهه، ما أقاموا الدين " البخاري. وقد جرى العمل بهذا التوجيه النبوي الذي يفيد الوجوب، في عهد الخلفاء الراشدين، ومن جاء بعدهم من خلفاء بني أمية والعباسيين .. حيث كلهم كانوا من قريش.
فإن قيل: لماذا في قريش دون غيرها من القبائل ..؟
أقول: لدورها البارز والمميز في نصرة الدين، والدعوة .. ولما لقريش من مكانة رفيعة بين القبائل والعشائر ما ليس لغيرها .. ولأن الاختلاف على قريش أقل بكثير من الاختلاف على غيرها من القبائل .. فما يتحقق على يديها من التوحد واجتماع الكلمة لا يتحقق على يد غيرها .. والتوحد والاجتماع مطلب عظيم من مطالب الشريعة .. والسياسة الشرعية، والله تعالى أعلم. 
أما أنها ـ أي القرشية ـ واجبة بشروط وضوابط، وقيود .. فنعم:
منها: أن صفة " القرشية " واجبة في الإمامة والخلافة العامة فقط، دون الخاصة .. فالولايات الخاصة، كالولاية على إمارة أو قطر أو دولة ـ دون الخلافة العامة ـ لا يجب أن يكون الحاكم أو الرئيس فيها قرشياً .. لأن النبي r، ومن بعده الخلفاء الراشدين .. قد انتدبوا ولاة وأمراء على الأمصار ليسوا قرشيين، وهو أمر معلوم لا خفاء فيه.
ومنها: أن يوجد القرشي الذي تتوفر فيه الكفاءة، وشروط الولاية الآنفة الذكر .. فالقرشية خصلة من جملة الخصال والشروط التي ينبغي أن تتوفر في الإمام العام .. وليست كل الشروط، والصفات .. فإن لم تتوفر فيه مجموع الشروط، آلت عنه إلى غير القرشي، ولا بد .. إذ لا يجوز أن تتوقف الإمامة، وتتعطل الخلافة ـ وفيها مصالح جميع المسلمين ـ لمجرد غياب القرشي الكفء.  
ومنها: أن يُقيم الدين، ويحكم بما أنزل الله .. فإن لم يُقم الدين وأحكامه، ولم يحكم في الرعية بالسوية، والعدل، وبما أنزل الله .. نُزِعت عنه الإمامة وصُرِفت إلى غير القرشي، الذي يُقيم أحكام الدين وشعائره، ويحكم بما أنزل الله.
ومنها: أن لا يوجد في الأمة من هو أفضل من القرشي ـ ديناً، وأمانة، وعلماً وعملاً ـ للإسلام والمسلمين .. فإن وجد الأفضل، لا يجوز حينئذٍ أن تُصرَف الولاية والإمامة للقرشي المفضول .. لمجرد كونه قرشياً .. لكن إن استوى القرشي مع غيره في خصال وشروط الإمامة .. قُدم القرشي ولا بد .. فالقرشيّة هنا عنصر مرجح عند التساوي في الخصال والصفات .. وليس عند تفاضل غير القرشي على القرشي.
            وإليك بعض الأدلة الدالة على ما تقدم ذكره أعلاه، قال تعالى:) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات:13. فميزان التفاضل عند الله تعالى، وعند عباده التقوى .. أياً كانت قبيلة وعشيرة هذا الأتقى. 
         وفي الحديث، فقد صح عن النبي r أنه قال:" يا أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى، [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ]، ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله "[[3]].
         وفي رواية:" لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض، إلا بالتقوى، الناس من آدم، وآدم من تراب ".
         وقال r:" ليس لأحدٍ فضلٌ على أحدٍ إلا بالدين أو عملٍ صالح "[[4]]. هذا هو ميزان التفاضل بين الشعوب والقبائل ـ والذي على أساسه يُقدم فلان أو يُؤخر ـ الدين والعمل الصالح .. [ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ]الكهف:7. وليس شيئاً آخر. 
         وقال r لأبي ذرٍّ:" انظر! فإنَّك لستَ بخيرٍ من أحمرٍ ولا أسودٍ، إلا أن تفضله بتقوى "[[5]].
وقال r:" انتسب رجلان على عهد موسى، فقال أحدهما: أنا فلان بن فلان، حتى عدّ تسعة، فمن أنت لا أم لك؟ قال: أنا فلان بن فلان ابن الإسلام، فأوحى الله إلى موسى أن قل لهذين المنتسبين: أما أنت أيها المنتسب إلى تسعة في النار، فأنت عاشرهم في النار، وأما أنت أيها المنتسب إلى اثنين في الجنة فأنت ثالثهما في الجنة "[[6]].
         وعن معاذ بن جبل قال: لما بعثه r إلى اليمن خرج معه يوصيه، ثم التفت رسول الله r إلى المدينة، فقال:" إن أهل بيتي هؤلاء يرون أنهم أولى الناس بي، وليس كذلك، إن أوليائي منكم المتقون، من كانوا، وحيث كانوا "[[7]]. فلا ولاء على أساس الانتماء إلى قبيلة أو عشيرة أو بيت .. وإنما على أساس التقوى والعمل الصالح .. فحيثما توجد التقوى والأتقى فثمّ الولاية والولاء " من كانوا، وحيث كانوا ".
         وقال r:" الأمراء من قريش ـ ثلاثاً ـ ما فعلوا ثلاثاً: ما حكموا فعدلوا، واستُرحموا فرحِموا، وعاهدوا فوفَوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين "[[8]]. فقوله r " ما فعلوا ثلاثاً "؛ أي ما التزموا بثلاثة خصال، ألا وهي " ما حكموا فعدلوا، واستُرحموا فرحِموا، وعاهدوا فوفَوا "  فإن لم يلتزموا بها فلا إمرة لهم .. بل عليهم حينئذٍ " لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ".  
ونحوه عن عبد الله بن مسعود قال: بينا نحنُ عند رسولِ الله r في قريب من ثمانين رجلاً من قريش، ليس فيهم إلا من قريش .. قال r:" أمّا بعد يا معشر قُريش! فإنَّكم أهلُ هذا الأمرِ ما لم تعصوا الله، فإذا عصيتموه بعثَ إليكم من يَلْحَاكُم[[9]] كما يُلحى هذا القضيب "؛ لقضيبٍ في يده، ثم لحى قضيبَه فإذا هو أبيض يصلد[[10]]. فهي لهم خالصة ما لم يعصوا الله .. فإذا عصوا الله بعث الله من ينزعها منهم، ولا حرج عليه.
       وعن معاوية قال: سمعتُ رسولَ الله r يقول:" إنَّ هذا الأمرَ في قريشٍ لا يُعاديهم أحدٌ إلاَّ كبَّهُ اللهُ في النار على وجههِ؛ ما أقاموا الدينَ " البخاري. فأمر الإمامة في قريش مشروط بإقامة الدين وشعائره في الأمة .. فإن لم يفعلوا ذلك .. تخرج الإمامة عنهم إلى غيرهم؛ ممن يقيمون دين الله في الناس.
       وعن ابن عباس مرفوعاً:" من استعمل رجلاً وهو يجد غيره خيراً منه وأعلم بكتاب الله وسنة نبيه، فقد خان الله ورسوله، وجميع المؤمنين "[[11]]. والحديث وإن كان في سنده ضعف .. إلا أن معناه حق .. وفي نصوص الشريعة ما يصدقه.
       قال تعالى:) إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا (النساء:58. ومن الأمانات الحكم والولايات .. يجب أن تُصرف إلى أهلها الذين يستحقونها .. ويكونون كفأ لها.
       قال عمر بن الخطاب t:" من ولي من أمر المسلمين شيئاً، فولّى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان اللهَ، ورسوله، والمسلمين "[[12]].
       قال ابن تيمية رحمه الله:" فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره لأجل قرابة بينهما، أو ولاء عتاقة، أو صداقة، أو موافقة في بلد، أو مذهب، أو طريقة، أو جنس؛ كالعربية والفارسية والتركية والرومية، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة، أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن في قلبه على الأحق، أو عداوة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، ودخل فيما نُهِي عنه في قوله تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (.[[13]].
       قلت: وقد وجد في التاريخ ـ ولا يزال ـ من أساء فهم شرط أو صفة " القرشية " للإمام أو الخليفة العام للمسلمين .. فاستغلوا القرشية استغلالاً خاطئاً، وفهموا التوجيه النبوي فهماً خاطئاً .. فجردوا القرشية من القيود والشروط الأخرى .. وجعلوها مطلباً مستقلاً لذاتها .. بعيداً عن شروطها، ومتطلباتها .. وكأن القرشية هي الغاية من الحكم .. وكل ما يُطلب ويُرجى من الحاكم .. فإن وجد القرشي فثم هو .. على عجره وبجره .. ومهما كان منه من خلق والتزام .. وإلا فلا!
       هذا الغلو في الفهم للمسألة ـ والذي أصّل له بعض الفقهاء ـ سلّط على الأمة حكاماً فاسقين وظالمين .. لا يملكون من خصائص الحكم ومتطلباته سوى أنهم قرشيون .. فاقتاتوا بالقرشية في الحرام وعلى حساب الملة والأمة .. فضلوا وأضلوا، وأفسدوا .. والحبيب r قد أشار إلى شيء من ذلك عندما قال:" هلاكُ أُمَّتي على يَدَيْ غِلْمةٍ من قُريش "[[14]]. والأمة قد رأت أولئك الغلمان .. ونحن في زماننا لا نزال نعايش بعض أولئك الغلمان من الطواغيت المجرمين الذين لا يحكمون بما أنزل الله .. الذين يقتاتون لظلمهم وخياناتهم وفسقهم بالقرشية .. وأن نسبهم ينتهي إلى قريش .. وبالتالي لا بد للأمة أن تقبل بهم على عجرهم، وبجرهم، ومهما بدر منهم!


[1]  قال ابن حجر في الفتح 13/127: أخرجه أحمد بسند رجاله ثقات.
[2]  أخرجه الحاكم في المستدرك 4/422، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
[3] رواه البيهقي، صحيح الترغيب والترهيب: 2964.
[4] رواه أحمد، والبيهقي وغيره، صحيح الترغيب: 2962. 
[5]  رواه أحمد، صحيح الترغيب والترهيب: 2963.
[6] رواه أحمد، وغيره، صحيح الجامع: 1492.
[7] أخرجه ابن أبي عاصم في السنّة، رقم 212، وقال الشيخ ناصر في التخريج: إسناده صحيح، رجاله كلهم ثقات.
[8] أخرجه أحمد وغيره، صحيح الترغيب والترهيب: 2189.
[9] يلحى؛ أي يقشر ويُزيل .. ومن الفوائد المستخرجة من هذا الحديث: أن النبي r لم يذم من يلحاهم عن الإمامة والإمارة بسبب معصيتهم لله .. وإنما سكت عنه .. مما يدل على مشروعية عمله، والله تعالى أعلم.
[10] أخرجه أحمد، السلسلة الصحيحة: 1552. يصلد؛ أي يبرُق ويشع بياضاً.
[11] قال الشيخ ناصر في الصحيحة 3/18: سنده ضعيف.
[12] السياسة الشرعية، لابن تيمية.
[13] السياسة الشرعية، ص 28. أقول: مما تقدم ذكره أعلاه تعلم خطورة ما اقترفته بعض الجماعات الإسلامية المعاصرة ـ التي آلت إليها مهمة اختيار الحاكم في بعض الأمصار ـ عندما عدلت عن اختيار الحاكم المسلم، لتختار الحاكم العلماني المحارب لله ولرسوله .. بزعم الانفتاح .. والمشاركة .. وتقسيم غنائم الحكم .. وحتى لا يُرموا بالانغلاق .. والديكتاتورية .. والاستئثار بالمناصب السيادية الفاعلة دون غيرهم .. وهذا كله على حساب سلامة البلاد، ودين العباد .. وهؤلاء ـ بصنيعهم هذا ـ قد جمعوا بين الغباء السياسي والعقائدي، وبين الخيانة لله ولرسوله، والمسلمين!
[14] أخرجه أحمد والبخاري، صحيح الجامع: 7038.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق