الخميس، 26 ديسمبر 2013

آليات تسهل إقالة الحاكم، وإنهاء حكمه



ـ آليات تسهل إقالة الحاكم، وإنهاء حكمه: الحاكم موظّف ومستأمَن، ومُستخلَف من قبل الأمة .. وفق عقدٍ بينهما، وبشرط طاعة الله ورسوله، وأن لا يخل بمهام وشروط عمله ووظيفته .. فإن أخلَّ .. استقال أو استُقِيل .. ولكي يتم ذلك بسلاسة ويسر .. ونتفادى أزمات الثورات والخروج المسلح .. وما يترتب على ذلك من مضار، وفتن، ودماء .. لا حرج شرعاً وعقلاً .. من أن توضع الآليات التي تُلزم الحاكم بما تم التعاقد عليه بينه وبين الشعوب .. كما تلزمه ـ بسهولة وسلام ـ بالإقالة في حال أخل بشروط العقد .. إذ لا يجوز أن نستسلم لأحد الخيارين إما شر الحاكم وفساده، وإما شر قتاله والخروج عليه بالقوة .. وكأنهما فرضاً لا فكاك للأمة من أحدهما .. فالشريعة الإسلامية جاءت بتحقيق العدل، وجلب المصالح، ودفع المفاسد، وكل ما هو ضار .. كما جاءت بقاعدة " سد الذرائع " لكل ما يؤدي إلى ظلم وفتنة وفسادٍ في الأرض .. فإذا وجدت الآليات التي تدفع عن الأمة الشرين الآنفي الذكر معاً .. فثمّ شرع الله.
       أخرج مسلم في صحيحه: قال المستورد القرشي عند عمرو بن العاص، سمعتُ رسولَ الله r يقول:" تقومُ الساعةُ والروم أكثر الناس "، فقال له عمرو: أبصر ما تقول؟ قال: أقول ما سمعتُ من رسول الله r، قال:" لئن قلت ذلك، إنَّ فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة، وأمنعهم من ظلم الملوك ".
       وقوله " وأمنعهم من ظلم الملوك "؛ أي يمنعون الشعوب من ظلم حكامهم وملوكهم .. فيحيطون الحكام والملوك بجملة من القيود، والقوانين، والآليات .. التي تمنعهم من ظلمهم الشعوب .. فضلاً عن أن يستمر ظلمهم للشعوب .. وهذه صفة يقول عنها الصحابي عمرو بن العاص t بأنه " حسنة جميلة ".
       وإذا كان روم النصارى قد هدتهم عقولهم، وتجاربهم .. إلى هذه الآليات التي تمنع الملوك والحكام من ظلم شعوبهم ـ فسادوا بذلك البلاد والعباد ـ فما الذي يمنعنا نحن المسلمين من الاهتداء إلى هذه الآليات، ونحن نملك النقل، والعقل، والتجارب ـ وإرث ضخم من سيرة الخلفاء الراشدين المهديين ـ وبخاصة أن دفع الظلم عن الشعوب، مطلب عظيم من مطالب ديننا وشريعتنا .. وغاية من غايات بعث الأنبياء والرسل .. كما قال تعالى:) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ (النحل:36. وقال تعالى:) فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (البقرة:256.
       وقال ربعي بن عامر t لرستم قائد الفرس: إنّ الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سَعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. 
       فإن قيل: ما هذه الآليات ..؟
       أقول: كل آلية سلمية تمنع الحكام من ظلم الشعوب، واستمرار ظلمهم .. يمكن اعتمادها وتفعيلها .. فعلى سبيل المثال لا الحصر: كإصدار قانون مُلزم يمكّن ممثلي الأمة من أهل الحل والعقد، أن يقيلوا الحاكم لو اجتمعوا على إقالته، وفقدان شرعيته.
       ومنها: إيجاد آلية تمكن من عرض الحاكم على الشعوب المسلمة، والتصويت عليه؛ من يريده، ومن لا يريده .. ثم تكون الأكثرية ملزمة .. وهذا من الشورى والعمل بها. 
       ومنها: تحديد فترة زمنية لحكمه .. تقدر بخمس سنوات أكثر أو أقل .. ثم بعد ذلك .. يُعرَض على الأمة والشعوب لتقول رأيها فيه وفي عمله .. من يريد أن يجدد له الولاية ومن لا يريد، بناء على ما قدم من عمل.
       ومنها: إيجاد الهيئات والنقابات الحقوقية المستقلة التي تراقب الحاكم وطريقة أدائه .. وتُسائله لو فرط بحقوق الشعوب، أو بشروط ولايته!
       ومنها: نزاهة القضاء واستقلاليته .. الذي يملك القدرة على محاسبة الحاكم ـ لو قصّر أو أخل بشروط الحكم ـ كما يحاسب المحكوم.
       ومنها: التظاهرات السلمية المرشّدة ـ الخالية من الشغب والعنف والتخريب ـ التي تمكن الشعوب من التعبير عن إرادتهم، ومشاعرهم، وآرائهم تجاه الحاكم وسياساته.
       ومنها: تفقيه الشعوب بدورهم الرقابي على أداء وسياسة الحكام .. وبالتالي دورهم الرئيسي في المحاسبة وتقويم المنكر والاعوجاج، العام والخاص سواء. 
       فهذه الآليات وغيرها .. تحد من ديكتاتورية وظلم واستبداد الحاكم .. وتسهل على الأمة محاسبة الحاكم، وإقالته لو اقتضى الأمر ذلك .. من غير ضرر أو مفسدة.
       والخبراء من العلماء والساسة، والمثقفين .. عليهم أن يبدعوا الوسائل والآليات ـ التي لا تتعارض مع تعاليم وقيم الإسلام ـ التي تعين على تحقيق هذا الهدف .. وتجنب الأمة ويلات وشرور الصبر على فساد وظلم الطغاة، وفساد وشر الخروج عليهم بالسلاح[[1]].
       ـ طاعة مرَشَّدة واعية: طاعة الحاكم المسلم ليست طاعة سلبية مطلقة ـ في الحق والباطل سواء ـ كما يفهم البعض .. بل هي طاعة مرشّدة واعية، تقوم على ركنين:
       أولهما: أن تكون الطاعة في المعروف، وفيما يوافق الحق .. وما سوى ذلك فلا طاعة له في معصية الله، كما في الحديث، فقد صح عن النبي r أنه قال:" مَن أمركُم من الولاة بمعصيةٍ فلا تُطيعوه "[[2]].
       وقال r:" طاعةُ الإمامِ حقٌّ على المرءِ المسلم، مالم يأمر بمعصيةِ الله U، فإذا أمرَ بمعصيةِ الله فلا طاعةَ له "[[3]].
       وقال r:" لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف " متفق عليه.
       وعدم طاعة الحاكم المسلم ومتابعته فيما فيه معصية لله U .. لا يلزم منه نزع مطلق الطاعة منه، أو الخروج عليه بالقوة .. كما أن القول بوجوب طاعته في المعروف، وعدم الخروج عليه بالقوة .. لا يلزم منه طاعته في الباطل وفيما فيه معصية لله.
       ثانيهما: المراقبة، والمناصحة، والمحاسبة .. فعدم الخروج على الحاكم المسلم .. لا يعني أن تترك مراقبته، ونصحه، ومحاسبته .. ومساءلته .. أو أن تصدع بالحق في وجهه .. لو وقع في الباطل، وأصر عليه، كما في الحديث، فقد صح عن النبي r أنه قال:" أحب الجهاد إلى الله كلمة حقٍّ تُقال لإمام جائر "[[4]]. وقال r:" أفضل الجهاد كلمة حقٍّ عند سلطان جائر "[[5]].
       وقال r:" سيد الشهداء حمزةُ بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمامٍ جائرٍ فأمره ونهاهُ فقتله "[[6]].
       وقال r:" والذي نفسي بيده لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر، وليوشكنّ اللهُ أن يبعث عليكم عقاباً منه فتدعونه فلا يستجيب لكم "[[7]].
       وقال r:" لا يمنعن رجلاً هيبةُ الناس أن يقولَ بحقٍّ إذا علمه، فإنه لا يقرب من أجلٍ ولا يُبعد من رزق "[[8]].
        وعن عبادة بن الصامت قال: بايَعَنا رسول الله على أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومةَ لائمٍ " متفق عليه.
       وقال r:" الدين النصيحة "، قلنا لمن؟ قال:" لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم " مسلم. 
       ومناصحة الحكام أو الصدع بالحق في وجوهم لا يلزم منه الخروج عليهم بالقوة .. إذ لا تلازم بين الصدع بالحق في وجوه الولاة، إذا ما استدعى الأمر ذلك .. وبين الخروج عليهم بالقوة، كما يفهم ويظن البعض! 
       ـ كيفية نصح الولاة، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر: اعلم أن الغرض من نصح الولاة، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر .. هو إزالة الخطأ والمنكر .. وحملهم على طاعة الله ورسوله r في حكمهم للبلاد والعباد .. وليس التشهير أو التنقيص بأشخاصهم .. والذي قد يحملهم على الانتصار للنفس .. والمضي في خطأهم وباطلهم .. وظلمهم .. فنكون بذلك قد أعنا الشيطان عليهم .. وزدنا المنكر منكراً .. وهذه ليست بطريقة شرعية!
       فإن قيل: كيف يكون نصحهم، وتذكيرهم .. وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر؟
         أقول: يُنظر إلى نوع خطأ الحاكم، فإن كان خطأه مقصوراً على نفسه، وسلوكه الشخصي، أو كان له علاقة بمصالح البلاد والعباد، لكنه صدر عنه عن اجتهادٍ خاطئ مستساغ .. فالواجب في هاتين الحالتين: أن تكون المناصحة سرية بين الناصح والحاكم .. بعيداً عن التشهير والتنقيص .. وبرفق وحكمة .. فذلك أدعى للقبول، كما في الحديث، فقد صح عن النبي r أنه قال:" من أرادَ أن ينصحَ لِذي سلطانٍ فلا يُبدِه علانيةً، ولكن يأخذ بيدِه فيخلُو به، فإن قَبِل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه "[[9]].
       وقال r:" من كانت عنده نصيحةٌ لِذِي سلطانٍ فليأخذْ بيدِه، فليخلُو بِه، فإن قَبِلَها قَبِلَها، وإن ردَّها كان قد أدَّى الذي عليه "[[10]].
       أما إن كان خطأه عاماً مما لا يُستساغ فيه الاجتهاد .. ثم كان مصراً عليه، ومجاهراً به .. يحمل الناس عليه بالقوة .. ويُعاقب عليه .. فحينئذٍ يكون الإنكار عليه بالسر والعلن سواء .. وفي حضرته .. وأمام الناس تحذيراً للناس من فتنته .. وفتنة متابعته في الباطل ـ وبخاصة إن تعسرت مناصحته سراً، وكان بينه وبين نصيحة الناصحين أبواب مؤصدة، وحواجز وسلاسل ـ كما في مسألة خلق القرآن .. فقد أنكر الإمام أحمد رحمه الله على خلفاء زمانه بالسر والعلن .. وفي حضرتهم وأمام الناس .. محذراً الناس من مغبة وخطورة متابعة الولاة أو طاعتهم فيما يدعون إليه، ويحملون الناس عليه بالقوة!
       وقد نقل أبو يعلى في " الأحكام السلطانية "ص20، عن الإمام أحمد رحمه الله قوله في المأمون: وأي بلاء كان أكبر من الذي كان أحدث عدو الله وعدو الإسلام من إماتة للسنة ..؟!
       وكان إذا ذكر المأمون يقول: كان لا مأمون ..ا- هـ.  
       وكذلك إنكار السلف الصالح على ظلم الحجاج وأعماله المشينة .. فقد نُقل عن بعضهم لعنه، والدعاء عليه، والآثار في ذلك كثيرة.
       وفي الحديث، فقد صح عن النبي r أنه قال:" شرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم " قالوا: قلنا يا رسولَ الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال:"لا، ما أقاموا فيكم الصلاة .." مسلم. فعدم منابذتهم بالقوة والسيف .. لم يمنع من بغضهم ولعنهم إذا ما توفر فيهم موجبات البغض واللعن.


[1] من طغاة الحكم والظلم المعاصرين يتصرف كمالك للبلاد والعباد .. ولكي تزحزحه عن الحكم والملك .. يحتاج إلى ثورات .. وإلى أن تجتمع عليه الأمم والشعوب العربية والأعجمية .. حتى يُقال .. ثم بعد ذلك لا يُقال ويأبى إلا القتال والإفساد .. وإدخال البلاد والعباد في أنفاق مظلمة .. يعرضها للاستعمار والتدخلات الأجنبية المغرضة .. وذلك كله بسبب غياب الآليات الملزمة للحاكم والمحكوم سواء .. وقد تقدم ذكر بعضها أعلاه.
[2] رواه أحمد، وابن ماجه، وابن حبان، السلسلة الصحيحة: 2324.
[3] السلسلة الصحيحة: 752.
[4] أخرجه أحمد، والطبراني، صحيح الجامع:168.
[5] أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، السلسلة الصحيحة:491.
[6] أخرجه الحاكم، السلسلة الصحيحة:491.
[7] صحيح سنن الترمذي:1762. 
[8] أخرجه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، السلسلة الصحيحة:168.
[9] رواه أحمد، وابن أبي عاصم في السنة، وصححه الشيخ ناصر في التخريج: 1096.
[10] رواه احمد، وابن أبي عاصم في السنة، وصححه الشيخ ناصر في التخريج: 1098.   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق