سنغفورة
...
من
العالم الثالث إلى العالم الأول..
أ/ سمير عطا الله
يروي «لي كوان يو» في مذكراته كيف بدأت مسيرة سنغافورة من بلد لم يكن
فيه سوى المستنقعات والفقر ولا جيش فيه ولا شرطة.
ويقول إنه من أجل بناء الجيش طلب مساعدة إندونيسيا ومصر، لكنه لم يتلق جواباً
منهما، فطلب المساعدة من إسرائيل التي أرسلت بعثة صغيرة العدد. لكن من أجل عدم
إغضاب مسلمي البلاد، تم الإعلان عن أن أفراد البعثة مكسيكيون.
ويروي أنه بعد عقد من تسلمه للسلطة، أي عام 1975 م ، قرر أن ينشئ مباني سكنية
جديدة ينتقل إليها ذوو الدخل المحدود، لكن هؤلاء رفضوا
التخلي عن نهج حياتهم، فكان أن نقل بعضهم الدجاج والأغنام إلى الشقق في الطوابق
العليا، التي حوّلوها إلى أكواخ عالية. وظل الكثيرون من الصينيين
والملاويين والهنود يصعدون السلالم على الأقدام بدل استخدام المصاعد. واستمر آخرون
في استخدام فوانيس الكاز بدل مصابيح الكهرباء. وظل سكان الدور الأرضية يتابعون «تجارتهم» السابقة، فحولوا الشقق إلى محلات لبيع
السجائر والحلوى والخردوات. بكلام آخر رفض الجميع في البداية عالمهم الجديد.
يقول إن الغريزة البشرية تدفع الإنسان إلى حب
التملك. وبعدما أصبح للناس بيوت صاروا يحرصون عليها. وقد لاحظ
بنفسه أنه عندما كانت تجري تظاهرات ضد الاستعمار البريطاني في الخمسينات، كان
المتظاهرون يلجأون إلى الحجارة والحرائق. لكن هذا الأمر تغير في الستينات. وكان
المتظاهرون «يحمون» دراجاتهم النارية وكل ما
يملكون بعيدا عن أعمال الشغب.
يقول لي كوان
يو، إنه واجه المعارضة من فريقين: الشيوعيون،
وبعض المتعاونين مع السفارة الأميركية. وقد انهارت الشيوعية في سنغافورة قبل
انهيارها في الاتحاد السوفياتي، أما المتعاملون مع أميركا، فقد اعترف زعيمهم
باتصالاته ثم غادر إلى واشنطن ولم يعد.وكان «يو»
قد اتهم من كثيرين في بداياته بأنه شيوعي. واتهمه الماليزيون بأنه يتآمر مع
إندونيسيا لتقويض استقرار ماليزيا. وقد لجأ إلى القضاء لدرء التهم وحَكمت له
المحاكم. ويصف كيف سخر منه الغرب عندما قرر منع «العلكة» بعد منع التدخين
في جميع الأماكن العامة. ويقول إن ماضغي العلكة كانوا يرمونها على المقاعد أو
يلصقونها على المصاعد، مما كان يضايق الناس ويكلف الدولة نفقات إضافية في التنظيف.
عندما ذهبت إلى سنغافورة عام 1994م، كان
همي أن أتفرج على بلد صاغه رجل واحد، من الألف إلى الياء. وقد وصلت قادماً من
جاكرتا، حيث يرافقك إلى المطار نهر مفتوح تفوح منه روائح المهملات المرمية فيه.
وفي سنغافورة كان كل شيء يشع أو يبرق. وبدا الناس جميعاً وكأنهم تلامذة في صف واحد
أو جنود في فرقة واحدة. وكان صعباً أن يصدق المرء أنه قبل ثلاثة عقود فقط كانت هذه
البقعة المكتظة بفقراء المهاجرين في أدنى مراتب الدول. وعندما استعد البريطانيون
للانسحاب دبّ الرعب في نفوس المسؤولين: لقد كان إيجار القواعد هو الدخل الوحيد.
أراد «لي كوان يو» وهو يبني سنغافورة
أن يفيد من تجربة اليابان. سافر إلى طوكيو والمدن الأخرى. وزار الشركات اليابانية
العاملة في سنغافورة. وفي النهاية اكتشف أنه من الصعب تقليد اليابانيين. إنهم «عرق» يحب العمل والنظام أكثر من أي شعب آخر في العالم.
ورأى أن حتى السنغافوريين المتميزين هم أيضا لا يمكن أن يجاروا أهل البلد القريب.
لم يكن الاحتلال الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية يريد مساعدة اليابان على
النهوض، لكن بعدما دعمت الصين الشيوعية كوريا الشمالية في الحرب ضد الأميركيين
قررت الولايات المتحدة دعم اليابان نكاية بالصين. أدرك الزعماء اليابانيون أن هذه
فرصتهم الوحيدة، فتبنوا مبدأ السكوت والتواضع والتذلل
ريثما تلحق اليابان بركب أميركا: أولا في صناعة النسيج والفولاذ والسفن
والسيارات والبتروكيماويات، ثم في الأدوات الكهربائية والإلكترونية وسائر
التقنيات. لكن «المعجزة
اليابانية لم تتحقق نتيجة عمل قلة متربعة على القمة، بل إن الشعب الياباني كله
شارك في العزم والتصميم لإثبات قدرته على النجاح».
ليست أسطورة أو خرافة أن اليابانيين يعملون كفريق أو شركة واحدة: «لكل فرد دوره المحدد ومكانه
الدقيق والمناسب مثل مكعبات الليغو. فرديا يمكن للصيني أن يضاهي الياباني في
الشطرنج، لكن يصعب التغلب على اليابانيين كمجموعة أو فريق إنتاج في مصنع». لقد قبلوا بضرورة التعلم والتدرب مدى الحياة. وفيما
رأى «لي» أن نسبة الإنتاج عند السنغافوريين 70%
اكتشف أنها عند اليابانيين 100%. إنهم ماهرون وحرفيون
ولا يتنقلون من عمل إلى آخر ولا يتغيبون إلا في حالة الطوارئ القصوى.
زار الزعيم السنغافوري أحواض السفن في يوكوهاما عام 1967 فوجد مديري
الشركة في ورشة العمل. ثم زار الأحواض في بريطانيا فرأى مديريها يركبون سيارات
الرولز رويس. ويروي أنه قام بزيارة اليابان عام 1975 بعد أزمة النفط قبل عامين،
وذهل كيف كان كل ياباني يساهم في ترشيد الطاقة. «كل
مرة كنا نغادر غرفنا في الفندق كانت الخادمات يطفئن كافة الأضواء والمكيفات بدأب».
عمدت المصانع إلى تحسين كفاءة الأدوات المنزلية وكل آلة أخرى تعمل بالطاقة. وقدمت
المصارف قروضا لإقامة العوازل. وقامت ثقافة توفير عامة في البلاد، حيث حققت
اليابان أدنى استهلاك نسبي للكهرباء في الإنتاج الصناعي. ويروي «لي» كيف أن مديرا في حوض جورنغ انتحر في السبعينات
لأنه لم يستطع أن يحقق الأرباح المرجوة لشركته. «أكد مسؤولو وزارة التجارة الدولية
والصناعة (في اليابان) أن القوة الجوهرية لأي مشروع تكمن في القائمين عليه. ولذلك
يركزون استثمارهم على عمالهم الذين يطبق عليهم نظام الاستخدام مدى الحياة. نحن
السنغافوريين شعب مهاجر. عمالنا اعتادوا على النظام البريطاني، حيث ينتقل العامل
إلى ربِّ العمل الذي يدفع له أجراً أعلى». ينفرد اليابانيون أيضاً في مكافأة
عمالهم. ودائماً يزيد مجموع التعويض عن الساعات الإضافية والعلاوات والرعاية
الاجتماعية على قيمة الراتب الأساسي. أي أن الإدارة والعمال يتشاركان في الأرباح
وأيضا في تحمل المشقة زمن القلة أو الخسارة. ويقول أخيرا إنه تخلى عن فكرة تقليد
اليابانيين لأنه من المستحيل الحصول على ولاء مثل ولائهم.
يلقى المرء في كتاب «من العالم الثالث الى
العالم الأول» مؤلفا دقيق الملاحظة، أنيق العبارة، كثير الصراحة، يدعى «لي كوان يو». ويلقى خصوصا الكثير من الأضواء التي ألقاها كوان يو على الزعماء
العالميين الذين التقاهم. والسلسلة طويلة جدا لا تتسع لها زاوية محدودة وسريعة.
لكن أذهلني ما كشفه كوان يو عن الزعيم الصيني دينغ شياو بنغ الذي كنا نكتب اسمه
«دنغ كسياو بنغ». استمر اللقاء الأول بين الرجلين ساعتين ونصف الساعة «أمضاها دينغ
في الحديث عن أخطار الاتحاد السوفياتي على العالم. وشرح التحريض السوفياتي على
الصين في فيتنام التي أقدمت على طرد الصينيين: «كانت فيتنام تسعى الى إحياء الحلم القديم، بإقامة الهند
الصينية، والصين كانت تعارض ذلك. كان دور فيتنام ان تكون كوبا الشرق. والصين تريد
الوقوف في وجه التمدد الاستراتيجي للقوات السوفياتية بغض النظر عما إذا كان ذلك في
زائير أو في الصومال».
ماذا جاء الزعيم الصيني يفعل في سنغافورة؟ جاء يتعلم من تجربتها. وأهم ما
تعلمه هو الانفتاح على الاستثمارات الأجنبية. وبعد قليل كان يزور الولايات المتحدة
نفسها (1979). فقد كان يريد التأكد من أن أميركا لن تقف الى جانب الاتحاد
السوفياتي إذا ما قررت الصين مهاجمة فيتنام و«معاقبتها».
لكن الفيتناميين انسحبوا من كمبوديا عام 1991 بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتوقفه
عن دعمهم. عندما رد كوان يو الزيارة، اقام له دينغ مأدبة عشاء كبرى في قصر
الشعب وقدم له الطبق الصيني الشهير: زيونغ جانغ. ما هي ترجمتها؟ «مقادم الدب».
وتعتبر الدببة الآن من الحيوانات المهددة بالانقراض في الصين. التقى كوان يو صينيا لامعا
آخر عام 1990، هو الرئيس جيانغ زيمين الذي استقبله بعبارة كونفوشية قديمة: «من
دواعي سرورنا أن نستقبل أصدقاء قادمين من النأي». وقد كان أكثر انفتاحا من دينغ:
هناك 1.1 مليار صيني يجب ان نعثر لهم على طعام. وقال انه عندما كان محافظا لشنغهاي
التي يبلغ عدد سكانها 12 مليونا وجد صعوبة بالغة في تأمين مليوني كيلوغرام من
الخضرة لاستهلاكها اليومي.
«بدل الزعيم الشيوعي، بكل ما يتصف به من
كآبة ونمطية، وجدت أمامي زعيما حزبيا مستعدا للابتسام دوما. وكان يتحدث عددا من
اللغات ويستشهد بشكسبير وغوته. نشأ في بيت متخم بالكتب واللوحات والموسيقى، لذلك
فهو يغني ويعزف على البيانو». عام 1980، كان جيانغ قد جاء الى
سنغافورة لدراسة تجربتها. وبعد أسبوعين قال لمرافقه «لم تخبرني كل شيء. لا بد انك
تخفي سرا مكنونا. كل ما في الصين أرخص سعرا من هنا. الأرض والطاقة والماء واليد
العاملة. فلماذا تنجحون ونفشل؟ ما هي الصيغة السحرية».
ارتبك مرافقه السنغافوري وقال له، الأهمية الحاسمة هي في الثقة بالنظام السياسي
والإنتاجية الاقتصادية. لم تكن سنغافورة ما هي عليه لولا ما أثبتت من استمرارية.
كيف استطاع لي كوان يو ان
يحول سنغافورة من مستنقع الى نمر
اقتصادي وان يضع في الوقت نفسه هذا الكتاب الثمين. هذا
سره وسر سنغافورة.
(1) «من العالم الثالث إلى العالم الأول» 838
صفحة، «دار العبيكان»
عند
استقلال سنغافورة، كانت عائدات القاعدة العسكرية البريطانية تمثل ثلاثة أرباع
دخلها القومي، مما عزز بعض التشاؤم حول قدرة الدولة الصغيرة على النمو بمفردها.
لكن الجزيرة المعزولة جغرافيا عن أسواق الدول المتقدمة، حققت اكبر معجزة اقتصادية
خلال العقود الخمسة الماضية، حيث يفوق معدل دخل الفرد 23 ألف دولار، أي قرابة ضعف معدل الدخل بكوريا الجنوبية.
و تحققت المعجزة في ظل حكم الزعيم الواحد "لي كوان يو" باني النهضة
السنغافورية الحديثة، الذي حكم البلد على مدى 31 سنة، وفي ظل نظام الحزب الواحد
(حزب العمل الشعبي) الذي هيمن على البرلمان في انتخابات 1972, 1976, 1980, 1984.
1988. ثم وبعد 14 سنة من تولي "جوه شوك تونج" الوزارة الأولى تم تعيين
ابن الزعيم التاريخي "لي كوان يو" السيد "لي هسيان لونج" على
راس الحكومة، مما حول البلاد إلى "جملكية" حسب التعبير الشائع هذه
الأيام. السؤال المطروح إذن كيف استطاعت سنغافورة تحقيق كل هذه الإنجازات في ظل
حكم غير ديمقراطي؟ ولماذا لم يحل اعتمادها النظام "الجملكي" مؤخرا دون
المزيد من التقدم؟
الأساس الأول للمعجزة: تبني نظام حازم لتحديد
النسل شبيه بالنظام الذي اتبعه الحبيب بورقيبة في تونس، حيث لم تتجاوز نسبة زيادة
السكان 1.9% في 1970 و1.2% في 1980، مما جنب البلاد كارثة الانفجار السكاني التي
تمثل عائقا مخيفا للتنمية. لكن ما أن اصبح الاقتصاد السنغافوري في حاجة إلى مزيد
من الأيدي العاملة المؤهلة حتى غيرت الدولة سياستها السكانية في الاتجاه المعاكس
باعتماد برنامج جديد يهدف لتحفيز المواطنين لزيادة النسل، خصصت له ميزانية تقد بـ
300 مليون دولار. و هذا التغير في السياسة السكانية ناتج عن أن كل مولود جديد في
مرحلة التخلف يعني عبئا على الاقتصاد، بينما في مرحلة النمو و التقدم تتوفر
الخدمات التعليمية و الصحية الازمة للأطفال فتجعل منهم ثروة بشرية تدفع بدورها
عجلة الاقتصاد إلى الأمام.
الأساس الثاني: سياسة تعميم التعليم
وتحديثة باعتماد أفضل المناهج في العالم حيث تتصدر سنغافورة الأولمبياد الدولي في
امتحانات المواد العلمية، بينما لم تستطع دولة عربية واحدة أن تكون من مجموع الـ
30 دولة الأولى في آخر النتائج المنشورة للتقييم الدولي للتقدم التعليمي في مادة
الرياضيات (http://timms.bc.edu). كما عملت على تطوير التعليم العالي
والبحث، حيث تعتبر الجامعة الوطنية بسنغافورة جامعة رائدة عالميا.
الأساس الثالث: بيروقراطية صغيرة
الحجم ذات كفاءة عالية (قوامها حوالي 50 ألف موظف لا اكثر) على درجة كبيرة من
المهنية، حيث: (1) يتم التعيين عبر مناظرات عامة مفتوحة للجميع، (2) يحصل موظفو
القطاع العام على رواتب تنافسية مثل القطاع الخاص (200 ألف دولار راتب سنوي
للوزير)، و(3) لا مجال للفساد والمحسوبية حيث تتصدر الدولة مؤشر الشفافية الذي تصدره
منظمة الشفافية الدولية ( http://www.transparency.org) ، و هذا عكس ما يحصل في الدول العربية حيث
أهل الثقة مقدمون على أهل الخبرة و الكفاءة.
الأساس الرابع: بيئة مشجعة على
الاستثمار، بما فيه الأجنبي الذي تجاور 7 مليار دولار السنة الماضية، حيث لا يتطلب
إنجاز مشروع استثماري أكثر من 6 وثائق يتم الانتهاء من إعدادها في 6 أيام، مقابل
10 وثائق و34 يوما بمصر، وهو الفرق كل الفرق بين بيروقراطية شفافة و ذات كفاءة
مهنية عالية و أخرى فاقدة لكل هذا و معرقلة للاستثمار.
الأساس الخامس: اعتماد التكنولوجيا
المتقدمة لدفع عجلة النمو حيث تمثل الصادرات عالية التقنية أكثر من 60% من
الإجمالي مقابل 4% فقط في الدول العربية. كما أزاحت سنغافورة أمريكا من المرتبة
الأولى في استعمال تكنولوجيا المعلومات، حسب تقرير 2005 لمنتدى "دافوس"
الاقتصادي العالمي. وتعمل حاليا على تطوير مجمعات للتكنولوجيا الحديثة في
مجال الاتصالات والتقنية الحيوية (Biotechnology)
حيث تقوم بتطوير مراكز بحثية تفوق تسهيلاتها ما هو متوفر في الدول الأوروبية، مما
شجع الشركات متعددة الجنسيات على العمل فيها، بينما في العالم العربي تحذر عديد
القوى و في مقدمتها التيارات الإسلامية و القومية من خطر هذه الشركات الضرورية
لمساعدة الدول المتخلفة على الالتحاق بركب الحضارة و التقدم.
الأساس السادس: تنويع الأنشطة
الاقتصادية من صناعة و سياحة، حيث يعتبر مهرجان سنغافورة الصيفي من أشهر
المهرجانات في العالم، وتوجد حديقة للسافاري الأشهر خارج إفريقيا جنوب الصحراء،
وحديقة للعصافير تضم أكثر من 8 آلاف نوع.... كما طورت مركزا ماليا دوليا يحتوى إلى
أكثر من 500 مؤسسة.
سنغافورة
لا تسبق العالم في كل شيء. في مؤشر المقاولات الرائدة (Entrepreneurship)،
على سبيل المثال، جاء ترئيب الدولة في آخر القائمة. والحقيقة أن مواطني هذه الدولة
العجيبة لا يحتاجون للمغامرة بإنشاء مشاريع استثمارية، بينما يؤهلهم المستوى
التعليمي الراقي الحصول على عمل مجز في كبرى الشركات العالمية، خصوصا وأن نسبة
البطالة لا تتجاوز 5%، وهي نسبة يعتبرها الاقتصاديون طبيعية (Natural
Unemployment)، حيث تمثل مجرد انتقال العمالة إلى أنشطة
تتناسب بصفة أفضل مع مؤهلاتها.
ومسئولو
سنغافورة ليسوا دائما على حق. عندما يسخر رئيس الوزراء السابق "جوه تشوك
تونج" من حرية الصحافة معتبرا إياها "معايير غربية لا تؤدي بالضرورة إلى
حكومة نزيهة وازدهار اقتصادي" فهو يجانب الحقيقة، لأن مثل هذه الحريات هي قيم
إنسانية، بدليل أن شعوبا آسيوية استماتت في الدفاع عنها.
لعل الدرس الأكبر للدول العربية من "جملوكية" سنغافورة هو أن نظام الحكم السياسي لا يهم كثيرا، على الأقل في الفترة الانتقالية من مرحلة التخلف إلى مرحلة الحاق بمصاف الدول المتقدمة، وان إرساء الحداثة (نظام تعليم عصري متطور، تحديد النسل والاندماج في الاقتصاد العالمي) يمثل حجر الأساس للتنمية. كما تؤكد التجربة على أهمية الرؤية الثاقبة للمسئولين باتخاذ إجراءات حاسمة – قد لا تدرك الأغلبية أهميتها في البداية- ، وعدم الاكتفاء برد الفعل عن طريق إصلاحات جزئية غالبا ما تأتي متأخرة و اقل من المطلوب، كما هو الحال في معظم الدول العربية اليوم.
لعل الدرس الأكبر للدول العربية من "جملوكية" سنغافورة هو أن نظام الحكم السياسي لا يهم كثيرا، على الأقل في الفترة الانتقالية من مرحلة التخلف إلى مرحلة الحاق بمصاف الدول المتقدمة، وان إرساء الحداثة (نظام تعليم عصري متطور، تحديد النسل والاندماج في الاقتصاد العالمي) يمثل حجر الأساس للتنمية. كما تؤكد التجربة على أهمية الرؤية الثاقبة للمسئولين باتخاذ إجراءات حاسمة – قد لا تدرك الأغلبية أهميتها في البداية- ، وعدم الاكتفاء برد الفعل عن طريق إصلاحات جزئية غالبا ما تأتي متأخرة و اقل من المطلوب، كما هو الحال في معظم الدول العربية اليوم.
باحث أكاديمي في اقتصاديات
التنمية وخبير سابق صندوق الفقد الدولي بواشنطن
لي كوان يو: حكاية فرد صنع تاريخ دولة
مؤسس سنغافورة الحديثة وباني نهضتهاِِ إنه الدكتاتور الرشيد
إعداد : مارون بدران - جريدة القبس الكويتية
قد يظن البعض ان الشعوب (باعتبارها مجموعة أشخاص تعيش على أرض محددة) وحدها تصنع تاريخ الدول، وقد يظن البعض الآخر أن اسم البلد يوضع على خريطة العالم الاقتصادية منذ اللحظة الاولى لولادته. غير ان لهذا الواقع استثناءات، ان لم نقل صورة مقابلة. فلطالما ولدت دول دون أن تؤثر على الاقتصاد العالمي 'بشعرة'، ولطالما صنع فرد واحد تاريخ شعب ودولة معا. هذه الصورة المقابلة (أو الوجه الآخر في المرآة، ان صح التعبير) يجسدها لي كوان يو. هذا 'الثمانيني'، الذي ارتبطت باسمه عبارة 'مؤسس سنغافورة الحديثة وقائد التنمية الاقتصادية في بلاده'، سيحل ضيفا على الكويت ليلقي كلمة في الندوة العالمية السنوية التي ينظمها بنك الكويت الوطني في 18 نوفمبر الجاري تحت عنوان 'آسيا والخليج العربي... نحو ازدهار دائم'، برعاية سمو رئيس مجلس الوزراء الشيخ ناصر المحمد في مقر الصندوق العربي للانماء الاقتصادي والاجتماعي. فمن هو 'لي كوان يو' الذي يأتي من أبعد أصقاع الارض ليروي قصة نجاح ويرتوي مستمعوه من تجربته؟
ولد لي كوان يو في 16 سبتمبر عام 1923، وأصبح أول رئيس وزراء للجمهورية السنغافورية في عام 1959 بعد انتخابات برلمانية فاز فيها حزب العمل الشعبي الذي أسسه عام ،1954 وبقي في منصبه، الذي تولاه في سن ال35 سنة، حتى عام ،1990 بدأ حياته شيوعيا متزمتا وأنهاها نموذجا تاريخيا في التنمية. لم يتنازل عن فاصلة واحدة من تراث بلاده الاجتماعي. فأثار ازمة سياسية كبرى مع الولايات المتحدة لأن مراهقا اميركيا لطخ نظافة المدينة بالدهان. لكن هذا التمسك بالمبادئ والميراث والعادات لم يتعارض لحظة واحدة مع استخدام الحداثة من اجل الكفاية والضمان الاجتماعي والتقدم والنمو. وكانت النتيجة سنغافورة المعاصرة التي ارتبط اسمها باسم لي كوان يو 'الديكتاتور الرشيد'.
الباني وطنا للناس
كان من المذهل اقامة مثل سنغافورة الحالية في فقر آسيا قبل اربعة عقود. غير ان لي كوان يو الذي جاء من اوكسفورد الى المستعمرة البريطانية السابقة، كان يحلم بأن يبني وطنا للناس وليس له. لذلك بنى المصانع لا الاذاعات. وامر الناس بالعمل لا بالاصغاء الى الاذاعة. ومنع التجمع الا للصلاة. واغلق السجون ليفتح المدارس. واقام في آسيا نموذجا مناقضا لكتاب ماو تسي تونغ وثوراته الثقافية. ولم يسمح للمذابح لدى الجارة الاندونيسية بالتسرب الى بلاده. وطبق حكم القانون، لكنه لم يحول بلاده الى سجن تطعم فيه الفئران كوجبات دسمة، كما لدى جارته بورما.
ويعتبر لي كوان يو خليطا سحريا من اداب الماضي وآفاق المستقبل. وكان قبل اي شيء حريصا على الكرامة البشرية، فحارب الفقر بالدرجة التي عارض فيها نفوذ اميركا. وجعل لكل مواطن بيتا بدل ان يكون لكل الف مواطن كوخ. اذ كانت تلك الجزيرة، التي أسسها السير ستامفورد رافلز عام 1819، مجرد قرية للصيادين تخلو من أي موارد طبيعية وفيها قاعدتان عسكريتان، ويسكنها خليط من المهاجرين غالبيتهم أتوا من الصين والباقي من ماليزيا والهند مع أقليات آسيوية أخرى. وبعد أن رحل المستعمرون من منطقة جنوب شرق آسيا خلفوا وراءهم فوضى عارمة، فكان على سنغافورة أن تواجه وحدها مخاطر التمدد الشيوعي في جميع أرجاء العالم، خصوصا أنها دولة فقيرة قريبة من الدب الروسي. ولم تجد سنغافورة حلا لهذه المعضلة سوى الانضمام إلى اتحاد الملايو عام 1963 الذي يشكل ما يعرف الآن بماليزيا. الا ان هذا الاندماج لم يصمد أكثر من عامين بسبب إصرار سكان الملايو المسلمين على احتواء سنغافورة من دون مراعاة وجود الغالبية الصينية البوذية فيها. وبعد أقل من عام على الانضمام، حدثت صدامات عرقية بين الصينيين والملاويين كانت كفيلة بخروج سنغافورة نهائيا من اتحاد الملايو في 9 أغسطس 1965 وهو نفسه تاريخ استقلال سنغافورة.
الوحدة والتحدي
ويقول لي كوان يو في كتاب سيرته الذاتية عن تلك المرحلة: 'بعد الانفصال مباشرة توليت منصب رئيس الحكومة، وكل شيء حولي ينذر بالانهيار، فنسبة البطالة تقارب 15% والدولة الجديدة تكاد تخلو من كل شيء: القوة العسكرية مؤلفة من كتيبتين ماليزيتين، البنية التحتية متخلفة للغاية، قوات الشرطة لا وجود لها من الناحية العملية، المدارس والجامعات لا تفي بالحاجة، الغليان العنصري والديني يهدد بالانفجار في أي لحظة، التهديد الخارجي لم يتوقف، وكانت ماليزيا تنتظر فشلنا على أحر من الجمر لتستخدم القوة في إعادة سنغافورة إلى حظيرة الملايو'.
وكانت عملية بناء الجيش وقوات الشرطة من أشد الأولويات التي فرضت نفسها على حكومة لي كوان يو. وعزز وجود بعض القوات البريطانية الرمزية في سنغافورة روح التفاؤل بالقدرة على الصمود في تلك الرحلة الحرجة. ولكن ما لبثت بريطانيا أن أعلنت عن نيتها سحب جميع قواتها من المنطقة بعد تراجع دورها في العالم تدريجيا. فخسرت سنغافورة الكثير بسبب هذا القرار لأن وجود القوات البريطانية كان يوفر 30 ألف فرصة عمل أي ما يعادل 20% من الناتج القومي الإجمالي، كما وجدت نفسها مضطرة إلى التعجيل في تنفيذ برامج التسليح المكلفة.
الأخطاء دروس
بعد الرحيل النهائي للقوات البريطانية من سنغافورة، يشرح لي كوان يو الإجراءات التي اتخذت لمواجهة المرحلة الجديدة: 'لم يكن أمامنا إلا أن نبدأ بالسياحة، ما أدى إلى نجاح جزئي لكنه غير كاف للقضاء على البطالة. فكان من الطبيعي ألا تقتصر خططنا على جانب واحد من الاقتصاد، لذا شجعنا على بناء المصانع الصغيرة، خصوصا مصانع تجميع المنتجات الأجنبية على أمل أن نبدأ بتصنيع بعض قطعها محليا، وعرفنا الكثير من الفشل سواء لنقص الخبرة أو لعدم الحصول على الاستشارات الصحيحة. وكلفنا ذلك الفشل غاليا لكننا استفدنا من الدروس المكتسبة وعملنا لئلا نقع في الخطأ مرتين'. ويضيف كوان يو نقطة مهمة: 'اخترنا دائما الفرد أو العنصر الأفضل لأي مهمة أو واجب، مهما كانت انتماءاته أو أصله أو دينه، كنا نهتم بالنتيجة فقط وكنا نعلم تماما أن فشلنا يعني حروبا أهلية واندثار حلم'. وبعد انسحاب آخر جندي بريطاني، تمكنت حكومة لي كوان يو من استعادة جميع القواعد والأراضي والمباني التي كانت تعود الى البريطانيين واستغلالها بصورة مربحة، كما تمكنت من تقليص البطالة إلى حدودها الدنيا مع نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي. ومن بين أهم إنجازات تلك الفترة بناء مدينة جورونغ الصناعية على مساحة 9 ألاف فدان لجذب الاستثمارات الأجنبية. وفي فترة قصيرة، وثبت سنغافورة وثبتها الكبرى باستغلال موقعها الجغرافي المتوسط بين اليابان وأوروبا واندماجها الكامل في الاقتصاد الدولي وبعدها عن نقاط التوتر في قارة آسيا، فأصبحت تستقبل 70 % من تجارة الحاويات في العالم كما تحولت الى واحدة من أهم المراكز المالية.
دور دولي
مع أن حلبة 'لي كوان يو' المحلية كانت ضيقة المساحة، إلا أن ما تمتع به من نشاط وحيوية ضمن له ميدانا رحبا وموقعا مؤثرا على ساحة الشؤون الدولية. واستطاع الإبحار بمهارة وسط موجات المد المتقلب التي اكتسحت العلاقات بين أميركا والصين وتايوان، ليلعب دور المستشار الموثوق حينا، وأداة الاختبار لصوابية الأفكار والآراء حينا آخر، والرسول المبلغ في كثير من الأحيان.
وقبل تحقيقه نقلا سلميا لمقاليد الحكم إلى جيل القادة الشباب عام 1990، حول لي كوان يو حكومته عام 1989 الى أول حكومة الكترونية في العالم. وبقي نائبا لرئيس مجلس الوزراء من عام 1990 حتى 2004 حين أصبح وزيرا موجها واستشاريا لحكومة ابنه لي هسيان لونغ (54 عاما). كما يلعب اليوم دور المستشار غير الرسمي للحكومة الصينية. ولا يزال لي كوان يو يقود بلاده ويدعو الى العلم، 'لكن التحدي الأكبر هو حماية القيم التي نقدر. فالعلاقة البشرية الاساسية، بين الآباء والابناء، بين الاصدقاء والرفاق، بين المواطن والحكومة، هي حقيقة غير قابلة للتغيير'، حسب تعبيره.
واضع تفاصيل حياة السنغافوريين
لا يوجد شيء في سنغافورة لم يلحظه بصر لي كوان يو الثاقب أو ترقبه عيناه المتيقظتان: بدءا من اختيار النباتات لتحويل سنغافورة إلى واحة خضراء، مرورا بتجديد فندق رافلز الرومانسي، وانتهاء بحث الشباب، بشكل سافر وصريح وجريء، على الزواج من فتيات في مستواهم الثقافي نفسه. وتحمل سنغافورة النظيفة بصمة لي كوان يو الواضحة، ولا يعتذر عن تأثيره النافذ في بلاده: 'إذا كانت سنغافورة دولة مربية، فأنا فخور برعايتها وتنشئتها'. واختار لي كوان يو اللون الابيض للباس حزب العمل الشعبي الحاكم. وسأله مرة أحد الصحافيين عن سبب اختيار هذا اللون، فأجابه 'هذه الملابس ترمز الى الشفافية والنظافة'.
أوسمة بالجملة
حصد لي كوان يو عددا كبيرا من الاوسمة تقديرا لعطاءاته في مجال الاقتصاد العالمي. ومن الاوسمة التي حصل عليها وسام شروق الشمس عام 1967 ووسام مرافقي الشرف عام 1970 ووسام حرية المدينة في لندن عام 1982 ووسام الصف الاول لتاج جوهور عام 1984 ووسام القائد العظيم عام ،1988 وفي عام 2002، قبل رسميا ضمن أعضاء المعهد الإمبراطوري في لندن اعترافا لما قدمه من دعم للتجارة والصناعة العالمية ومبادرات تطوير العلوم والدراسات الهندسية مع المملكة المتحدة. كما حصل على أوسمة أخرى تشمل أعلى درجة عضوية شرفية في معهد إيدنبورغ الملكي للطب عام 1988 ووسام رجل السلام في عام 1990
من أقواله
- عن الديموقراطية: 'لا اعتقد أن طريق الديموقراطية تؤدي إلى التنمية، بل أرى أن البلد يحتاج إلى النظام أكثر من حاجته إلى الديموقراطية'.
- عن تأثير العلم في اقتصاد الدول: 'التعليم هو أحد الدعائم الرئيسية لاقتصاد أي دولة، وكلما ازداد عدد المتعلمين قل حجم البطالة، وعلى الرغم من ارتفاع نسب البطالة في بعض البلدان التي تمتلك نسبة كبيرة من المتعلمين، فإن ذلك لا ينفي هذه القاعدة، حيث ان الوظائف التي نفتقر اليها، هي وظائف صغيرة وغالبا ما تحل التكنولوجيا الحديثة محلها'.
- عن الليبرالية الاقتصادية: 'ليس من الضرورة أن يرافق الاصلاح السياسي تحويل الاقتصاد الى المفهوم الليبرالي. لا أؤمن بأن الليبرالي المليء بالآراء المختلفة والافكار المالية سينجح على الاطلاق'.
- عن الصناعة: 'في نهاية النهار، لدينا أزرار كثيرة في آلاتنا الالكترونية. لكن السؤال هو: هل هذه الأزرار أفضل من تقنيات منافسينا'.
- عن حد النسل: 'علينا تشجيع من يتقاضى راتبا أقل من 200 دولار شهريا ولا يستطيع تعليم اولاده على ألا ينجب أكثر من طفلين، لأننا سنندم على الوقت الذي أضعناه اذا لم نخط خطوة أولى نحو حد النسل في مجتمعنا المثقف'.
- عن الشرق الاوسط: 'النجاح الذي يشهده الشرق الأوسط هو ثمرة للسياسات الاقتصادية السليمة، مما أدى إلى توازن اقتصادي يمكن رؤيته بوضوح في مدينة دبي التي تحتل مركز الريادة في المنطقة'.
بين التوريث السياسي والتحديث الاقتصادي
جمع المسرح الداخلي في سنغافورة بين الديموقراطية الانتخابية والدكتاتورية الشرعية، بين الحزب الحاكم باسم الأغلبية الصينية وبين المعارضة الشكلية باسم الأقليات القومية والدينية. وكرس النموذج السنغافوري النظام الأبوي أو الوراثة السياسية. فالنظام الأبوي في الدولة التي تحمل اسم مدينة الأسد SINGA بدأ بالدور التأسيسي الذي لعبه لي كوان يو وبالإدارة الصارمة لعملية التطوير والتحديث والتجديد التي أشرف عليها. وزمن حكم خليفته ومرشحه جوه شوك تونغ بعد 3 عقود، كان يترجم نفوذه في اتجاهين: الأول بالإشراف الأبوي على سياسة البلاد في خطوطها الرئيسية والعامة دون الخوض في التفاصيل، والثاني بالعمل على إعداد ابنه لي لونغ للمرحلة الثانية عبر الممارسة والتجربة في مواقع حكومية مهمة كمحافظ البنك المركزي ووزارة المالية حتى حان الوقت ونضجت الظروف لاستلام السلطة، قانونيا وشرعيا وحزبيا، معلنا عزمه على السير في طريق التطوير جامعا في نموذج آسيوي لافت بين التوريث السياسي والتحديث الاقتصادي.
قالوا عنه:
الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب: 'لي كوان يو من الشخصيات اللامعة التي لم يسبق أن تعرفت على مثلها. فالمهتمون بسيرة هذا الآسيوي الناجح، عليهم أن يقرأوا قصة سنغافورة'.
رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر: 'قرأت وحللت كل خطاباته، لقد استطاع أن يخترق أساليب البروباغندا الاعلامية دون أن يخطئ مرة قط'.
الرئيس الفرنسي جاك شيراك: 'غريب أمر سنغافورة التي تحولت خلال 30 عاما الى بلد راق. من يرد معرفة سر نجاح هذا البلد الآسيوي فعليه النظر الى لي كوان يو الذي حول المدينة الى دولة، وجمع حوله العقول اللامعة، ووصلت سنغافورة الى التقدم عبر طريق مختصر مثل الاهتمام بالنظام التعليمي ومحاربة البطالة والادخار'.
الرئيس الكوري الجنوبي كيم داي جونغ: 'كلما قابلت لي كوان يو، تأثرت تأثرا بالغا بذكائه الكبير ورؤيته الثاقبة وعمق فهمه للتاريخ والمجتمع. وبغض النظر عن موقعك في السياسة، ستجد أفكاره الحاذقة حول اسيا والعالم تشكل مصدرا للوحي الاقتصادي'.
سنغافورة: صنع في لي كوان يو
مدخول الفرد السنوي قفز من 435 دولارا إلى 22 ألف دولار
لا تقرأ جدولا او احصاء الا وتجد اسم سنغافورة في المراتب الأولى. اذا كان الجدول عن النمو، برزت فورا سنغافورة. واذا كان عن الازدهار احتلت تلقائيا الصفوف الأولى. واذا كان تقديرا للمستقبل، حلت سنغافورة في الاوائل. فسنغافورة من اكثر بلدان الارض امنا ومن اكثرها اطمئنانا كما هي نموذج في المحافظة على البيئة ومثال في المحافظة على مستوى المعيشة. انها تتقدم الآخرين في كل شيء. والفارق بينها وبين محيطها المباشر او الأقرب او الأبعد، كالفارق بين 'بورصة نيويورك' و'بورصة الخرطوم'. وعندما تبحث عن سر نجاح هذا البلد الآسيوي، تقرأ في كل سطر من سطور تاريخه اسم 'لي كوان يو'. فلا تعرف ان كان السر في هذا الرجل الخارق ام في الشعب الذي تحول كل فرد فيه الى مسؤول. أم ان السر هو في حجم سنغافورة الذي يمكن الدولة من ضبط كل شيء ومراقبة الأمن بالعيون الالكترونية من دون الحاجة الى شرطي واحد. لكن النتيجة هي الأهم. اذ تمكن لي كوان يو في 31 عاما من تحويل الجزيرة النائية إلى أهم مركز تجاري ومالي في العالم. وبفضل سياساته الحكيمة، أصبحت سنغافورة من كبرى الأسواق المالية التي تضم أكثر من 700 مؤسسة اجنبية و60 مصرفا تجاريا إضافة الى بورصة مزدهرة لتبادل العملات الصعبة بحجم 60 مليار دولار.
وتقول كونا في تقرير عن سنغافورة أن الأخيرة حققت بفضل هذه السياسات نجاحا ونموا هائلين في اقتصادها ومعالجة مشكلاتها المستعصية، وتضاعف الناتج المحلي الاجمالي 40 مرة وقفز من 2.1 مليار دولار عام 1960 إلى 86.8 مليار دولار عام ،2002 كما قفز حجم الاستثمارات الاجنبية من 5.4 مليارات دولار في ستينات القرن الماضي إلى 109 مليارات دولار عام .2005
نصيب الفرد
كما ارتفع نصيب الفرد من هذا الناتج ليصبح من اعلى المعدلات في العالم ويصل الى 22 ألف دولار سنويا مقارنة ب 435 دولارا فقط عام ،1960 ووضع كوان يو نصب عينيه تحويل بلاده من جزيرة متهالكة يسكنها الفقراء وتعاني من تدني مستوى التعليم وارتفاع معدلات البطالة وتنعدم فيها الموارد الطبيعية الى دولة حديثة. فأخرج بلاده من محنتها باتباع سياسات اقتصادية حازمة، وغرس قيم الاحساس بالواجب والجدية بالعمل والتسامح الديني في نفوس مواطنيه ومحاربة التسيب والمخدرات التي كانت متفشية بشكل كبير. فأنشأ 'مجلس التنمية الاقتصادية'، وأعطى الجهاز الحكومي صلاحيات واسعة لتطبيق ومتابعة وتطوير الاقتصاد السنغافوري وتشجيع الصناعات المحلية.
سوق المال والصناعة
وفي عام 2004، اختار الملتقى الاقتصادي العالمي سنغافورة ضمن العشرة الاوائل لأكثر أسواق المال العالمية تقدما بسبب المناخ الاستثماري والنظم السارية والتطور الكبير الذي تشهده. ومن أبرز شركائها التجاريين الولايات المتحدة واليابان وماليزيا والصين والمانيا وتايوان وهونغ كونغ.
واستوعبت سنغافورة في زمن قياسي كل متطلبات العصر، وأضحت واحدة من أغنى أغنياء بلدان آسيا والعالم، في حين قفز سكانها من 150 الف شخص عام 1819 إلى 3.7 ملايين نسمة حاليا. ويتغذى الاقتصاد السنغافوري على الصناعات المحلية. اما الاراضي الزراعية فتشكل أقل من 10 % فقط من اجمالي مساحة الدولة البالغة 648 كيلومترا مربعا.
ركائز مايكرو - اقتصادية
الى ذلك، تعتبر الركائز المايكرو-اقتصادية والاستقرار السياسي ومصداقية إطار العمل القانوني والقضائي بالإضافة إلى الجودة العالية للإشراف على الحقل المالي عوامل أدت إلى إيجاد بيئة مواتية لأنشطة تدبير الثروة في سنغافورة. كما أن هذه الدولة الآسيوية تمتلك تجربة عميقة في الاستثمار. ففي عام 2003، نمت الأرصدة المسيرة بواسطة المؤسسات الموجودة فيها بنسبة 35% لتصل إلى 465.2 مليار دولار سنغافوري.
وتعتبر سنغافورة حاليا من اكبر مصدري اسطوانات الكمبيوتر في العالم وواحدة من اهم مراكز صيانة السفن. كما تقدم خدمات مالية لمعظم بلدان المنطقة ما يشكل 27 % من دخلها القومي. وتملك مؤسسات اعلامية متقدمة: 9 اذاعات و3 شبكات تلفزيون و8 صحف محلية تخضع لرقابة شديدة وصارمة من السلطات المحلية.
أعراق مختلفة
وتتألف البلاد من مجموعة جزر صغيرة متناثرة. أما جزيرة سنغافورة فتنفصل عن ماليزيا بمضيق 'جوهر' عند الشمال. ويعتبر سكانها خليطا من أصول مختلفة (75% من أصول صينية و14% ماليزية و9% من الباكستانيين والهنود ثم أندونيسيون). وتنتشر بين سكانها اللغة الصينية واللغة الماليزية العامية. وتعتبر الإنكليزية لغة أساسية. كما يعتنق 15 % من سكان سنغافورة الاسلام أما البقية فيعتنقون البوذية والكنفوشية والطوطمية والمسيحية.
كتاب 'قصة سنغافورة' من جزأين
كتب لي كوان يو مذكراته وقصة سنغافورة في جزأين: عنوان الجزء الأول 'قصة سنغافورة'، ويروي تاريخ نشوء البلاد حتى انفصالها عن ماليزيا في عام ،1965 أما الجزء الثاني 'من العالم الثالث إلى الأول' يحكي عن تجربة لي كوان يو في الحكم وأسلوب عمله لتحويل سنغافورة من بلد فقير الى دولة متقدمة
مؤسس سنغافورة الحديثة وباني نهضتهاِِ إنه الدكتاتور الرشيد
إعداد : مارون بدران - جريدة القبس الكويتية
قد يظن البعض ان الشعوب (باعتبارها مجموعة أشخاص تعيش على أرض محددة) وحدها تصنع تاريخ الدول، وقد يظن البعض الآخر أن اسم البلد يوضع على خريطة العالم الاقتصادية منذ اللحظة الاولى لولادته. غير ان لهذا الواقع استثناءات، ان لم نقل صورة مقابلة. فلطالما ولدت دول دون أن تؤثر على الاقتصاد العالمي 'بشعرة'، ولطالما صنع فرد واحد تاريخ شعب ودولة معا. هذه الصورة المقابلة (أو الوجه الآخر في المرآة، ان صح التعبير) يجسدها لي كوان يو. هذا 'الثمانيني'، الذي ارتبطت باسمه عبارة 'مؤسس سنغافورة الحديثة وقائد التنمية الاقتصادية في بلاده'، سيحل ضيفا على الكويت ليلقي كلمة في الندوة العالمية السنوية التي ينظمها بنك الكويت الوطني في 18 نوفمبر الجاري تحت عنوان 'آسيا والخليج العربي... نحو ازدهار دائم'، برعاية سمو رئيس مجلس الوزراء الشيخ ناصر المحمد في مقر الصندوق العربي للانماء الاقتصادي والاجتماعي. فمن هو 'لي كوان يو' الذي يأتي من أبعد أصقاع الارض ليروي قصة نجاح ويرتوي مستمعوه من تجربته؟
ولد لي كوان يو في 16 سبتمبر عام 1923، وأصبح أول رئيس وزراء للجمهورية السنغافورية في عام 1959 بعد انتخابات برلمانية فاز فيها حزب العمل الشعبي الذي أسسه عام ،1954 وبقي في منصبه، الذي تولاه في سن ال35 سنة، حتى عام ،1990 بدأ حياته شيوعيا متزمتا وأنهاها نموذجا تاريخيا في التنمية. لم يتنازل عن فاصلة واحدة من تراث بلاده الاجتماعي. فأثار ازمة سياسية كبرى مع الولايات المتحدة لأن مراهقا اميركيا لطخ نظافة المدينة بالدهان. لكن هذا التمسك بالمبادئ والميراث والعادات لم يتعارض لحظة واحدة مع استخدام الحداثة من اجل الكفاية والضمان الاجتماعي والتقدم والنمو. وكانت النتيجة سنغافورة المعاصرة التي ارتبط اسمها باسم لي كوان يو 'الديكتاتور الرشيد'.
الباني وطنا للناس
كان من المذهل اقامة مثل سنغافورة الحالية في فقر آسيا قبل اربعة عقود. غير ان لي كوان يو الذي جاء من اوكسفورد الى المستعمرة البريطانية السابقة، كان يحلم بأن يبني وطنا للناس وليس له. لذلك بنى المصانع لا الاذاعات. وامر الناس بالعمل لا بالاصغاء الى الاذاعة. ومنع التجمع الا للصلاة. واغلق السجون ليفتح المدارس. واقام في آسيا نموذجا مناقضا لكتاب ماو تسي تونغ وثوراته الثقافية. ولم يسمح للمذابح لدى الجارة الاندونيسية بالتسرب الى بلاده. وطبق حكم القانون، لكنه لم يحول بلاده الى سجن تطعم فيه الفئران كوجبات دسمة، كما لدى جارته بورما.
ويعتبر لي كوان يو خليطا سحريا من اداب الماضي وآفاق المستقبل. وكان قبل اي شيء حريصا على الكرامة البشرية، فحارب الفقر بالدرجة التي عارض فيها نفوذ اميركا. وجعل لكل مواطن بيتا بدل ان يكون لكل الف مواطن كوخ. اذ كانت تلك الجزيرة، التي أسسها السير ستامفورد رافلز عام 1819، مجرد قرية للصيادين تخلو من أي موارد طبيعية وفيها قاعدتان عسكريتان، ويسكنها خليط من المهاجرين غالبيتهم أتوا من الصين والباقي من ماليزيا والهند مع أقليات آسيوية أخرى. وبعد أن رحل المستعمرون من منطقة جنوب شرق آسيا خلفوا وراءهم فوضى عارمة، فكان على سنغافورة أن تواجه وحدها مخاطر التمدد الشيوعي في جميع أرجاء العالم، خصوصا أنها دولة فقيرة قريبة من الدب الروسي. ولم تجد سنغافورة حلا لهذه المعضلة سوى الانضمام إلى اتحاد الملايو عام 1963 الذي يشكل ما يعرف الآن بماليزيا. الا ان هذا الاندماج لم يصمد أكثر من عامين بسبب إصرار سكان الملايو المسلمين على احتواء سنغافورة من دون مراعاة وجود الغالبية الصينية البوذية فيها. وبعد أقل من عام على الانضمام، حدثت صدامات عرقية بين الصينيين والملاويين كانت كفيلة بخروج سنغافورة نهائيا من اتحاد الملايو في 9 أغسطس 1965 وهو نفسه تاريخ استقلال سنغافورة.
الوحدة والتحدي
ويقول لي كوان يو في كتاب سيرته الذاتية عن تلك المرحلة: 'بعد الانفصال مباشرة توليت منصب رئيس الحكومة، وكل شيء حولي ينذر بالانهيار، فنسبة البطالة تقارب 15% والدولة الجديدة تكاد تخلو من كل شيء: القوة العسكرية مؤلفة من كتيبتين ماليزيتين، البنية التحتية متخلفة للغاية، قوات الشرطة لا وجود لها من الناحية العملية، المدارس والجامعات لا تفي بالحاجة، الغليان العنصري والديني يهدد بالانفجار في أي لحظة، التهديد الخارجي لم يتوقف، وكانت ماليزيا تنتظر فشلنا على أحر من الجمر لتستخدم القوة في إعادة سنغافورة إلى حظيرة الملايو'.
وكانت عملية بناء الجيش وقوات الشرطة من أشد الأولويات التي فرضت نفسها على حكومة لي كوان يو. وعزز وجود بعض القوات البريطانية الرمزية في سنغافورة روح التفاؤل بالقدرة على الصمود في تلك الرحلة الحرجة. ولكن ما لبثت بريطانيا أن أعلنت عن نيتها سحب جميع قواتها من المنطقة بعد تراجع دورها في العالم تدريجيا. فخسرت سنغافورة الكثير بسبب هذا القرار لأن وجود القوات البريطانية كان يوفر 30 ألف فرصة عمل أي ما يعادل 20% من الناتج القومي الإجمالي، كما وجدت نفسها مضطرة إلى التعجيل في تنفيذ برامج التسليح المكلفة.
الأخطاء دروس
بعد الرحيل النهائي للقوات البريطانية من سنغافورة، يشرح لي كوان يو الإجراءات التي اتخذت لمواجهة المرحلة الجديدة: 'لم يكن أمامنا إلا أن نبدأ بالسياحة، ما أدى إلى نجاح جزئي لكنه غير كاف للقضاء على البطالة. فكان من الطبيعي ألا تقتصر خططنا على جانب واحد من الاقتصاد، لذا شجعنا على بناء المصانع الصغيرة، خصوصا مصانع تجميع المنتجات الأجنبية على أمل أن نبدأ بتصنيع بعض قطعها محليا، وعرفنا الكثير من الفشل سواء لنقص الخبرة أو لعدم الحصول على الاستشارات الصحيحة. وكلفنا ذلك الفشل غاليا لكننا استفدنا من الدروس المكتسبة وعملنا لئلا نقع في الخطأ مرتين'. ويضيف كوان يو نقطة مهمة: 'اخترنا دائما الفرد أو العنصر الأفضل لأي مهمة أو واجب، مهما كانت انتماءاته أو أصله أو دينه، كنا نهتم بالنتيجة فقط وكنا نعلم تماما أن فشلنا يعني حروبا أهلية واندثار حلم'. وبعد انسحاب آخر جندي بريطاني، تمكنت حكومة لي كوان يو من استعادة جميع القواعد والأراضي والمباني التي كانت تعود الى البريطانيين واستغلالها بصورة مربحة، كما تمكنت من تقليص البطالة إلى حدودها الدنيا مع نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي. ومن بين أهم إنجازات تلك الفترة بناء مدينة جورونغ الصناعية على مساحة 9 ألاف فدان لجذب الاستثمارات الأجنبية. وفي فترة قصيرة، وثبت سنغافورة وثبتها الكبرى باستغلال موقعها الجغرافي المتوسط بين اليابان وأوروبا واندماجها الكامل في الاقتصاد الدولي وبعدها عن نقاط التوتر في قارة آسيا، فأصبحت تستقبل 70 % من تجارة الحاويات في العالم كما تحولت الى واحدة من أهم المراكز المالية.
دور دولي
مع أن حلبة 'لي كوان يو' المحلية كانت ضيقة المساحة، إلا أن ما تمتع به من نشاط وحيوية ضمن له ميدانا رحبا وموقعا مؤثرا على ساحة الشؤون الدولية. واستطاع الإبحار بمهارة وسط موجات المد المتقلب التي اكتسحت العلاقات بين أميركا والصين وتايوان، ليلعب دور المستشار الموثوق حينا، وأداة الاختبار لصوابية الأفكار والآراء حينا آخر، والرسول المبلغ في كثير من الأحيان.
وقبل تحقيقه نقلا سلميا لمقاليد الحكم إلى جيل القادة الشباب عام 1990، حول لي كوان يو حكومته عام 1989 الى أول حكومة الكترونية في العالم. وبقي نائبا لرئيس مجلس الوزراء من عام 1990 حتى 2004 حين أصبح وزيرا موجها واستشاريا لحكومة ابنه لي هسيان لونغ (54 عاما). كما يلعب اليوم دور المستشار غير الرسمي للحكومة الصينية. ولا يزال لي كوان يو يقود بلاده ويدعو الى العلم، 'لكن التحدي الأكبر هو حماية القيم التي نقدر. فالعلاقة البشرية الاساسية، بين الآباء والابناء، بين الاصدقاء والرفاق، بين المواطن والحكومة، هي حقيقة غير قابلة للتغيير'، حسب تعبيره.
واضع تفاصيل حياة السنغافوريين
لا يوجد شيء في سنغافورة لم يلحظه بصر لي كوان يو الثاقب أو ترقبه عيناه المتيقظتان: بدءا من اختيار النباتات لتحويل سنغافورة إلى واحة خضراء، مرورا بتجديد فندق رافلز الرومانسي، وانتهاء بحث الشباب، بشكل سافر وصريح وجريء، على الزواج من فتيات في مستواهم الثقافي نفسه. وتحمل سنغافورة النظيفة بصمة لي كوان يو الواضحة، ولا يعتذر عن تأثيره النافذ في بلاده: 'إذا كانت سنغافورة دولة مربية، فأنا فخور برعايتها وتنشئتها'. واختار لي كوان يو اللون الابيض للباس حزب العمل الشعبي الحاكم. وسأله مرة أحد الصحافيين عن سبب اختيار هذا اللون، فأجابه 'هذه الملابس ترمز الى الشفافية والنظافة'.
أوسمة بالجملة
حصد لي كوان يو عددا كبيرا من الاوسمة تقديرا لعطاءاته في مجال الاقتصاد العالمي. ومن الاوسمة التي حصل عليها وسام شروق الشمس عام 1967 ووسام مرافقي الشرف عام 1970 ووسام حرية المدينة في لندن عام 1982 ووسام الصف الاول لتاج جوهور عام 1984 ووسام القائد العظيم عام ،1988 وفي عام 2002، قبل رسميا ضمن أعضاء المعهد الإمبراطوري في لندن اعترافا لما قدمه من دعم للتجارة والصناعة العالمية ومبادرات تطوير العلوم والدراسات الهندسية مع المملكة المتحدة. كما حصل على أوسمة أخرى تشمل أعلى درجة عضوية شرفية في معهد إيدنبورغ الملكي للطب عام 1988 ووسام رجل السلام في عام 1990
من أقواله
- عن الديموقراطية: 'لا اعتقد أن طريق الديموقراطية تؤدي إلى التنمية، بل أرى أن البلد يحتاج إلى النظام أكثر من حاجته إلى الديموقراطية'.
- عن تأثير العلم في اقتصاد الدول: 'التعليم هو أحد الدعائم الرئيسية لاقتصاد أي دولة، وكلما ازداد عدد المتعلمين قل حجم البطالة، وعلى الرغم من ارتفاع نسب البطالة في بعض البلدان التي تمتلك نسبة كبيرة من المتعلمين، فإن ذلك لا ينفي هذه القاعدة، حيث ان الوظائف التي نفتقر اليها، هي وظائف صغيرة وغالبا ما تحل التكنولوجيا الحديثة محلها'.
- عن الليبرالية الاقتصادية: 'ليس من الضرورة أن يرافق الاصلاح السياسي تحويل الاقتصاد الى المفهوم الليبرالي. لا أؤمن بأن الليبرالي المليء بالآراء المختلفة والافكار المالية سينجح على الاطلاق'.
- عن الصناعة: 'في نهاية النهار، لدينا أزرار كثيرة في آلاتنا الالكترونية. لكن السؤال هو: هل هذه الأزرار أفضل من تقنيات منافسينا'.
- عن حد النسل: 'علينا تشجيع من يتقاضى راتبا أقل من 200 دولار شهريا ولا يستطيع تعليم اولاده على ألا ينجب أكثر من طفلين، لأننا سنندم على الوقت الذي أضعناه اذا لم نخط خطوة أولى نحو حد النسل في مجتمعنا المثقف'.
- عن الشرق الاوسط: 'النجاح الذي يشهده الشرق الأوسط هو ثمرة للسياسات الاقتصادية السليمة، مما أدى إلى توازن اقتصادي يمكن رؤيته بوضوح في مدينة دبي التي تحتل مركز الريادة في المنطقة'.
بين التوريث السياسي والتحديث الاقتصادي
جمع المسرح الداخلي في سنغافورة بين الديموقراطية الانتخابية والدكتاتورية الشرعية، بين الحزب الحاكم باسم الأغلبية الصينية وبين المعارضة الشكلية باسم الأقليات القومية والدينية. وكرس النموذج السنغافوري النظام الأبوي أو الوراثة السياسية. فالنظام الأبوي في الدولة التي تحمل اسم مدينة الأسد SINGA بدأ بالدور التأسيسي الذي لعبه لي كوان يو وبالإدارة الصارمة لعملية التطوير والتحديث والتجديد التي أشرف عليها. وزمن حكم خليفته ومرشحه جوه شوك تونغ بعد 3 عقود، كان يترجم نفوذه في اتجاهين: الأول بالإشراف الأبوي على سياسة البلاد في خطوطها الرئيسية والعامة دون الخوض في التفاصيل، والثاني بالعمل على إعداد ابنه لي لونغ للمرحلة الثانية عبر الممارسة والتجربة في مواقع حكومية مهمة كمحافظ البنك المركزي ووزارة المالية حتى حان الوقت ونضجت الظروف لاستلام السلطة، قانونيا وشرعيا وحزبيا، معلنا عزمه على السير في طريق التطوير جامعا في نموذج آسيوي لافت بين التوريث السياسي والتحديث الاقتصادي.
قالوا عنه:
الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب: 'لي كوان يو من الشخصيات اللامعة التي لم يسبق أن تعرفت على مثلها. فالمهتمون بسيرة هذا الآسيوي الناجح، عليهم أن يقرأوا قصة سنغافورة'.
رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر: 'قرأت وحللت كل خطاباته، لقد استطاع أن يخترق أساليب البروباغندا الاعلامية دون أن يخطئ مرة قط'.
الرئيس الفرنسي جاك شيراك: 'غريب أمر سنغافورة التي تحولت خلال 30 عاما الى بلد راق. من يرد معرفة سر نجاح هذا البلد الآسيوي فعليه النظر الى لي كوان يو الذي حول المدينة الى دولة، وجمع حوله العقول اللامعة، ووصلت سنغافورة الى التقدم عبر طريق مختصر مثل الاهتمام بالنظام التعليمي ومحاربة البطالة والادخار'.
الرئيس الكوري الجنوبي كيم داي جونغ: 'كلما قابلت لي كوان يو، تأثرت تأثرا بالغا بذكائه الكبير ورؤيته الثاقبة وعمق فهمه للتاريخ والمجتمع. وبغض النظر عن موقعك في السياسة، ستجد أفكاره الحاذقة حول اسيا والعالم تشكل مصدرا للوحي الاقتصادي'.
سنغافورة: صنع في لي كوان يو
مدخول الفرد السنوي قفز من 435 دولارا إلى 22 ألف دولار
لا تقرأ جدولا او احصاء الا وتجد اسم سنغافورة في المراتب الأولى. اذا كان الجدول عن النمو، برزت فورا سنغافورة. واذا كان عن الازدهار احتلت تلقائيا الصفوف الأولى. واذا كان تقديرا للمستقبل، حلت سنغافورة في الاوائل. فسنغافورة من اكثر بلدان الارض امنا ومن اكثرها اطمئنانا كما هي نموذج في المحافظة على البيئة ومثال في المحافظة على مستوى المعيشة. انها تتقدم الآخرين في كل شيء. والفارق بينها وبين محيطها المباشر او الأقرب او الأبعد، كالفارق بين 'بورصة نيويورك' و'بورصة الخرطوم'. وعندما تبحث عن سر نجاح هذا البلد الآسيوي، تقرأ في كل سطر من سطور تاريخه اسم 'لي كوان يو'. فلا تعرف ان كان السر في هذا الرجل الخارق ام في الشعب الذي تحول كل فرد فيه الى مسؤول. أم ان السر هو في حجم سنغافورة الذي يمكن الدولة من ضبط كل شيء ومراقبة الأمن بالعيون الالكترونية من دون الحاجة الى شرطي واحد. لكن النتيجة هي الأهم. اذ تمكن لي كوان يو في 31 عاما من تحويل الجزيرة النائية إلى أهم مركز تجاري ومالي في العالم. وبفضل سياساته الحكيمة، أصبحت سنغافورة من كبرى الأسواق المالية التي تضم أكثر من 700 مؤسسة اجنبية و60 مصرفا تجاريا إضافة الى بورصة مزدهرة لتبادل العملات الصعبة بحجم 60 مليار دولار.
وتقول كونا في تقرير عن سنغافورة أن الأخيرة حققت بفضل هذه السياسات نجاحا ونموا هائلين في اقتصادها ومعالجة مشكلاتها المستعصية، وتضاعف الناتج المحلي الاجمالي 40 مرة وقفز من 2.1 مليار دولار عام 1960 إلى 86.8 مليار دولار عام ،2002 كما قفز حجم الاستثمارات الاجنبية من 5.4 مليارات دولار في ستينات القرن الماضي إلى 109 مليارات دولار عام .2005
نصيب الفرد
كما ارتفع نصيب الفرد من هذا الناتج ليصبح من اعلى المعدلات في العالم ويصل الى 22 ألف دولار سنويا مقارنة ب 435 دولارا فقط عام ،1960 ووضع كوان يو نصب عينيه تحويل بلاده من جزيرة متهالكة يسكنها الفقراء وتعاني من تدني مستوى التعليم وارتفاع معدلات البطالة وتنعدم فيها الموارد الطبيعية الى دولة حديثة. فأخرج بلاده من محنتها باتباع سياسات اقتصادية حازمة، وغرس قيم الاحساس بالواجب والجدية بالعمل والتسامح الديني في نفوس مواطنيه ومحاربة التسيب والمخدرات التي كانت متفشية بشكل كبير. فأنشأ 'مجلس التنمية الاقتصادية'، وأعطى الجهاز الحكومي صلاحيات واسعة لتطبيق ومتابعة وتطوير الاقتصاد السنغافوري وتشجيع الصناعات المحلية.
سوق المال والصناعة
وفي عام 2004، اختار الملتقى الاقتصادي العالمي سنغافورة ضمن العشرة الاوائل لأكثر أسواق المال العالمية تقدما بسبب المناخ الاستثماري والنظم السارية والتطور الكبير الذي تشهده. ومن أبرز شركائها التجاريين الولايات المتحدة واليابان وماليزيا والصين والمانيا وتايوان وهونغ كونغ.
واستوعبت سنغافورة في زمن قياسي كل متطلبات العصر، وأضحت واحدة من أغنى أغنياء بلدان آسيا والعالم، في حين قفز سكانها من 150 الف شخص عام 1819 إلى 3.7 ملايين نسمة حاليا. ويتغذى الاقتصاد السنغافوري على الصناعات المحلية. اما الاراضي الزراعية فتشكل أقل من 10 % فقط من اجمالي مساحة الدولة البالغة 648 كيلومترا مربعا.
ركائز مايكرو - اقتصادية
الى ذلك، تعتبر الركائز المايكرو-اقتصادية والاستقرار السياسي ومصداقية إطار العمل القانوني والقضائي بالإضافة إلى الجودة العالية للإشراف على الحقل المالي عوامل أدت إلى إيجاد بيئة مواتية لأنشطة تدبير الثروة في سنغافورة. كما أن هذه الدولة الآسيوية تمتلك تجربة عميقة في الاستثمار. ففي عام 2003، نمت الأرصدة المسيرة بواسطة المؤسسات الموجودة فيها بنسبة 35% لتصل إلى 465.2 مليار دولار سنغافوري.
وتعتبر سنغافورة حاليا من اكبر مصدري اسطوانات الكمبيوتر في العالم وواحدة من اهم مراكز صيانة السفن. كما تقدم خدمات مالية لمعظم بلدان المنطقة ما يشكل 27 % من دخلها القومي. وتملك مؤسسات اعلامية متقدمة: 9 اذاعات و3 شبكات تلفزيون و8 صحف محلية تخضع لرقابة شديدة وصارمة من السلطات المحلية.
أعراق مختلفة
وتتألف البلاد من مجموعة جزر صغيرة متناثرة. أما جزيرة سنغافورة فتنفصل عن ماليزيا بمضيق 'جوهر' عند الشمال. ويعتبر سكانها خليطا من أصول مختلفة (75% من أصول صينية و14% ماليزية و9% من الباكستانيين والهنود ثم أندونيسيون). وتنتشر بين سكانها اللغة الصينية واللغة الماليزية العامية. وتعتبر الإنكليزية لغة أساسية. كما يعتنق 15 % من سكان سنغافورة الاسلام أما البقية فيعتنقون البوذية والكنفوشية والطوطمية والمسيحية.
كتاب 'قصة سنغافورة' من جزأين
كتب لي كوان يو مذكراته وقصة سنغافورة في جزأين: عنوان الجزء الأول 'قصة سنغافورة'، ويروي تاريخ نشوء البلاد حتى انفصالها عن ماليزيا في عام ،1965 أما الجزء الثاني 'من العالم الثالث إلى الأول' يحكي عن تجربة لي كوان يو في الحكم وأسلوب عمله لتحويل سنغافورة من بلد فقير الى دولة متقدمة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق