الدّستور:
هو
عبارة عن ميثاق، وعقد اجتماعي، يتفق عليه الناس، ينظم الحقوق والواجبات، للحاكم
والمحكوم، كما ينظم العلاقة فيما بينهما .. والصورة التي بها تُدار وتُحكم البلاد،
ويكون هذا الميثاق والعقد مُلزِماً للجميع.
وهذا الميثاق أو العقد ما لم ينص على ما يخالف
الشرع المنزل المحكم يجب الوفاء به، فهو من جملة العقود والعهود التي نصت الشريعة
على وجوب الوفاء بها، كما قال تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ
بِالْعُقُودِ (المائدة:1.
والعقود تشمل كا ما تعاهد عليه الناس فيم بينهم، بعضهم مع بعض، وفيم بينهم وربهم I. وكذلك قوله تعالى:) وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ
مَسْؤُولاً (الإسراء:34.
قال ابن كثير في التفسير:[ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ ]؛ أي الذين تعاهدون عليه
الناس، والعقود التي تعاملوهم بها، فإن العهد والعقد كل منهما يُسأل صاحبه عنه ا-
هـ. هل وفّى به، أم أنه نقضه، وغدَر بما عاهد عليه!
ومثاله في السنة الوثيقة التي كتبها النبي r في المدينة .. وهي وثيقة سياسية حقوقية دستورية عظيمة .. قد آخى
النبي r بموجبها بين المهاجرين والأنصار، وبين فيها الحقوق والواجبات على
جميع ساكني المدينة من المسلمين، واليهود .. مالهم وما عليهم[[1]].
ونحوه حلف المُطيبين ـ أو الفضول ـ الذي باركه
النبي r لتضمنه بنوداً تنص على انصاف المظلوم من الظالم؛ أياً كان
المظلوم، وأيّاً كان الظالم .. فقال r:" شهدت مع عمومتي حلف المطيبين، فما أحب أن أنكثه وأنّ لي
حمر النّعم "[[2]].
وقال r:" المسلمون عند شروطهم "[[3]]. أي وفاء والتزاماً، ما لم تتضمن هذه الشروط مخالفة لكتاب الله
تعالى وسنة رسوله r، فحينئذٍ تكون شروطاً باطلة لا يجوز الوفاء بها، لقوله r كما في الصحيح:" فأيما شرط كان ليس في كتاب الله، فهو باطل،
وإن كان مائة شرط، فقضاء الله أحق، وشرط الله أوثق ".
وعليه نقول: فكرة أن يكون للأمة دستوراً ينظم
العلاقات، الحقوق والواجبات فيما بين أبناء الأمة الواحدة .. لا حرج فيها ..
ومنافعها ومصالحها لا تخفى على أحد .. ما لم يتضمن هذا الدستور ما يخالف نصاً
محكماً من كتاب الله تعالى أو سنة نبيه r .. فإن تضمن شيئاً من ذلك، فهو رد، لا سمع ولا طاعة له، لا يجوز
الرجوع أو التحاكم إليه.
فإن قيل: ما الحاجة إلى كتابة دستور .. وفي القرآن
والسنة تبيان لكل شيء؟
أقول: أما أن القرآن والسنة، فيهما تبيان لكل
شيء .. فهذا حق لا مرية فيه .. لكن ليس كل أحدٍ، من الحكام والمحكومين، يحيط علماً
بكل ما في الكتاب والسنة، يعرف ما له وما عليه .. كما في الكتاب والسنة ..
وبالتالي فإن كتابة دستور مختصر مستنبطة أحكامه من الكتاب والسنة، في نقاط وبنود
محددة، يسهل ـ على الحاكم والمحكوم ـ الرجوع والوقوف عليها لمن يطلبها، وتكون
ملزمة للجميع .. مصلحة راجحة لا يُستهان بها .. تفوّت على كثير من الحكام فرصة
الوقوف تحت مظلة الإسلام .. والحكم باسم الإسلام .. بينما هم في واقعهم لا يحكمون
بالإسلام .. ولا يعرفون ما يأخذون من الإسلام، وما يلزمهم من الإسلام .. وما لا
يلزمهم .. كما أن الرعية لا تعرف على وجه التحديد والدقة ما يلزم الحكام نحو
أنفسهم، ونحو رعيتهم .. وما يلزم الرعية نحو حكامهم .. من حقوق وواجبات متبادلة ..
فتتحقق ـ بسبب هذا الجهل ـ المخالفة للإسلام .. ويقع الظلم والطغيان .. ثم بعد ذلك
يحسب الجميع أنهم ممن يحسنون صنعاً!
لذا من الحكام المعاصرين .. لا يقبلون أن
يُصيغوا دستوراً لبلادهم ينظم طريقة حكمهم، والعلاقة بينهم وبين الناس .. يبين ما
لهم وما عليهم .. حتى تبقى الفرصة سانحة لهم في أن يحكموا البلاد والعباد .. كيفما
شاؤوا .. وبالطريقة التي يشاؤون .. ويتصرفوا كملاك للأرض ومن عليها .. وليس كحكامٍ
مستأجرين، ومستأمنين!
ويُقال كذلك: إذا الشريعة قد أمرتنا بكتابة
عقود البيع والشراء، والدّين .. حرصاً على أداء الحقوق، وحفاظاً عليها .. فما الذي
يمنع ـ شرعاً ـ من كتابة العقود التي تنظم العلاقة، والحقوق والواجبات .. فيما بين
الحاكم والمحكوم .. وقد تقدم معنا أن النبي r قد فعل شيئاً من ذلك عندما كتب وثيقة المدينة.
[1] انظر الوثيقة وتخريجها، صحيح السيرة النبوية، لإبراهيم العلي،
ص189.
[2] صحيح الأدب المفرد: 441. قال ابن الأثير في النهاية: اجتمع بنو
هاشم، وبنو زُهرة، وتَيْمٌ في دار ابن جدعان في الجاهلية، وجعلوا طيباً في جُفنةٍ،
وغمَسوا أيديهم فيه، وتحالفوا على التناصر والأخذ للمظلوم من الظالم، فسُمُّوا
المطيبين ا- هـ.
[3] السلسلة الصحيحة: 2915.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق