الشريعة
ثلاثة أقسام :
أولها: الشرع المنزَّل: وهو
الشرع الثابت في الكتاب، والسنة الصحيحة .. وهو الشرع الملزم للأمة، الذي لا يجوز
مخالفته أو معارضته في شيء، كما قال تعالى:) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا
قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ
أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً (الأحزاب:36.
وقال تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (الحجرات:1.
وقال تعالى:) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ
حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً[[1]] (النساء:65.
وقال تعالى:) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ (؛ أي خالفوا الله ورسوله r، ووقفوا في الشِق المغاير
والمخالف للشِقِّ الذي يرضي الله ورسوله r ) وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (الأنفال: 13.
ثانيها: الشّرع المؤوّل: وهو نتاج
اجتهاد المجتهدين من علماء الإسلام، مما يجوز فيه الاجتهاد .. وهذا الشرع يُنظر
فيه؛ فما وافق منه الشرع المنزَّل عُمِل به .. وما خالفه رُد .. إذ لا طاعة ولا
متابعة لمخلوق ـ أياً كان هذا المخلوق ـ في مخالفة الحق .. وإنما تكون الطاعة
والمتابعة في المعروف، وفيما يوافق الحق .. وإن كان لصاحبه أجراً على اجتهاده، كما
في الحديث الصحيح:" إذا حكم الحاكم فاجتهد، ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم
فاجتهد ثم أخطأ فله أجر " البخاري.
قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله:" إذا صح
الحديث فهو مذهبي .. لا يحل لأحدٍ أن يأخذ بقولنا
ما
لم يعلم من أين أخذناه .. حرام على من لم يعرف دليلي أن يُفتي بكلامي .. فإننا
بشر، نقول القول اليوم، ونرجع عنه غداً ".
ونحوه قول الإمام مالك بن أنس رحمه الله: إنما
أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم
يوافق الكتاب والسنة فاتركوه .. ليس أحد بعد النبي r إلا يُؤخذ من قوله ويُترَك، إلا النبي r ".
وقال الإمام الشافعي رحمه الله:" إذا صح
الحديث فهو مذهبي .. أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله r لم يحل له أن يدعها لقول أحدٍ .. إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة
رسول الله r فقولوا بسنة رسول الله r، ودعوا ما قلت .. كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله r عند أهل النقل بخلاف ما قلت؛ فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي
".
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله:" من
ردّ حديث رسول الله r فهو على شفا هلكة .. لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي، ولا
الأوزاعي، ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا .. لا تقلد دينك أحداً من هؤلاء، ما جاء
عن النبي r وأصحابه فخذ به، ثم التابعين، ثم هو بعد التابعين مخير "[[2]]. هذا كلام كبار الأئمة في الشرع المؤول .. وفيما يخالف من
أقوالهم واجتهاداتهم صريح السنة أو الشرع المنزل .. فما بالك بمن هم دونهم من أهل
العلم .. فعلام المقلدون يتعصبون .. ويختلفون .. ويتدابرون .. ويوالون ويعادون على
أقوالهم وآرائهم .. في الصواب والخطأ سواء .. وقد تقدمت أقوال الأئمة رحمهم الله
في النهي عن ذلك؟!
ثالثها: الشّرع المبدَّل: وهو نتاج
أهل الأهواء والبدع، والضلال .. من المحدثات والبدع المخالفة للشرع المنزل .. وهذا
النوع من الشرع الباطل كله مردود ومرفوض .. حتى لو جاء تحت عباءة الدين ورجالات
الدين .. فقد صح عن النبي r أنه قال:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردٌّ "
متفق عليه. وقال r:" من صنع أمراً على غير أمرنا فهو رد "[[3]].
وقال r:" شرُّ الأمور محدثاتُها، وكلُّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلُّ بدعةٍ
ضلالةٌ، وكلُّ ضلالةٍ في النار "[[4]].
قال ابن تيمية في الفتاوى 19/308: ثم هي ـ أي
الشريعة ـ مستعملة في كلام الناس على ثلاثة أنحاء: شرع منزل؛ وهو ما شرعه الله
ورسوله. وشرع مُتأوّل؛ وهو ما ساغ فيه الاجتهاد. وشرعٌ مُبدّل؛ وهو ما كان من
الكذب والفجور الذي يفعله المبطلون بظاهر من الشرع، أو البدع، أو الضلال الذي
يُضيفه الضالون إلى الشرع ا- هـ.
وقال 35/366: ولكن كثيراً من الناس ينسبون ما
يقولونه إلى الشرع وليس من الشرع؛ بل يقولون ذلك إما جهلاً، وإما غلطاً، وإما
عمداً وافتراءً، وهذا هو الشرع المبدّل الذي يستحق أصحابه العقوبة، ليس هو الشرع
المنزّل الذي جاء به جبريل من عند الله إلى خاتم المرسلين، فإن هذا الشرع المنزّل
كله عدل ليس فيه ظلم ولا جهل، قال تعالى:) وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ
بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (المائدة:42. وقال
تعالى:) وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ (المائدة:49.
فالذي أنزل اللهُ هو القِسط، والقسط هو الذي أنزل الله ا- هـ.
قال تعالى:) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ
كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (الأنعام:144.
وقال تعالى:) قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم
مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ
أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ (يونس:59. وكل من ابتدع
بدعة في دين الله، أو أحدث في دين الله ما ليس فيه .. فله نصيب من الوعيد الوارد
في الآيات القرآنية المذكورة أعلاه، وعلى قدر ونوع بدعته وإحداثه في الدين.
قلت: ومنه يُعلم أن لا مكان ولا وجود في
الإسلام للدولة الدينية؛ بمعناها الكهنوتي الكنسي، كما كان سائداً في القرون
الوسطى .. أو بمعناها الشيعي الرافضي، الذي ينظر لولي الفقيه ـ وما يصدر عنه ـ
نظرة مقدسة، محاطة بسياج من العصمة عن الخطأ والزلل .. وبالتالي فإن الشعوب
المسلمة عندما تُطالب بضرورة تحكيم شرع الله تعالى في شؤون البلاد والعباد ..
وضرورة العودة إلى شرع الله تعالى، وإلى تحكيم الشريعة؛ إنما يعنون بذلك التحاكم
إلى الشرع المنزل، وما وافق الشرع المنزل من الشرع المؤوّل .. وما وراء ذلك فهو
باطل ورد ومرفوض.
ونحن من أجل ذلك نرفض تلك الصيغة المنصوص عليها
في بعض الدساتير العربية والمحلية، والتي تقول:" الشريعة الإسلامية هي المصدر
الأساسي للتشريع .. "، والتي تعني أن هناك مصادر أخرى للتشريع غير مصدر الشريعة
الإسلامية .. وتعني أيضاً إتاحة الفرصة والمجال للتشريع المبدّل، ومن ثم التحاكم
إليه .. وهذا لا يجوز.
لذا فإن الصيغة التي نستحسنها ونرتضيها، والتي
يجب على الشعوب المسلمة أن تُطالب بها .. هي الصيغة التي تنص على أن الشريعة
الإسلامية هي المصدر الوحيد للتشريع، وسن القوانين .. فإن أصر المخالفون على كلمة
" الأساس أو الأساسي "؛ على اعتبار أن هناك نوازل، وأمور تنظيمية
وإدارية مستجدة تحتاج إلى نوع اجتهاد وتقنين من قبل ذوي العلم والخبرة والاختصاص
.. وهو ما اتفق عليه من قبل " بالشرع المؤوّل " .. فإنه يُضاف على
الصيغة الواردة أعلاه قيد ضروري، يقول:" وأيما قانون يتعارض مع الشريعة
الإسلامية فهو رد "، فيكون النص كاملاً كالتالي:" الشريعة الإسلامية هي
المصدر الأساسي للتشريع، وأيما قانون يتعارض مع الشريعة الإسلامية فهو رد ".
فبهذا القيد، يستقيم المعنى، ويتحقق المطلوب، ويُرفع الحرج بإذن الله[[5]].
[1]قال ابن
القيم في تفسير الآية:" أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً النفي قبله،
عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع، وأحكام
الشرع، وأحكام المعاد وسائر الصفات وغيرها، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا
التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج؛ وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الإنشراح
وتنفسح له كل الانفساح، وتقبله كل القبول. ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً حتى
ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم وعدم المنازعة، وانتفاء المعارضة
والاعتراض "ا- هـ. عن كتاب التبيان في أقسام القرآن: 270.
[2] انظر جميع ما تقدم من آثار عن الأئمة الأربعة ـ رحمهم الله ـ في
مقدمة كتاب " صفة صلاة النبي r "، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، رحمه الله.
[3] صحيح الجامع: 6369.
[4] صحيح سنن النسائي: 1487.
[5]
قال الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان 4/84: اعلم
أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضي تحكيمه الكفر بخالق السماوات
والأرض، وبين النظام الذي لا يقتضي ذلك. وإيضاح ذلك أن النظام قسمان: إداري،
وشرعي. أما الإداري الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع،
فهذا لا مانع منه، ولا مخالف فيه من الصحابة، فمن بعدهم. وقد عمل عمر رضي الله عنه
من ذلك أشياء كثيرة ما كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ككتبه أسماء الجند
في ديوان لأجل الضبط، ومعرفة من غاب ومن حضر كما قدمنا إيضاح المقصود منه في سورة
"بني إسرائيل" في الكلام على العاقلة التي تحمل دية الخطأ، مع أن النبي
صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، ولم يعلم بتخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك إلا بعد
أن وصل تبوك صلى الله عليه وسلم. وكاشترائه ـ أعني عمر رضي الله عنه ـ دار صفوان
بن أمية وجعله إياها سجناً في مكة المكرمة، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يتخذ
سجناً هو ولا أبو بكر. فمثل هذا من الأمور الإدارية التي تفعل لإتقان الأمور مما
لا يخالف الشرع، لا بأس به؛ كتنظيم شئون الموظفين، وتنظيم إدارة الأعمال على وجه
لا يخالف الشرع. فهذا النوع من الأنظمة الوضعية لا بأس به، ولا يخرج عن قواعد الشرع
من مراعاة المصالح العامة ا- هـ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق