مسألة الخروج على الحاكم المسلم الشديد الفسق والظلم: فإن قيل: قد عرفنا النصوص
الشرعيّة التي تمنع من الخروج على أئمة الفسق والجور .. فما هو الدليل الذي يرخص
في الخروج عليهم في حال تلبَّسوا بالظلم والفسق والسّفَه المغلظ، والشديد، كما
تقدم؟
أجيب عن هذا السؤال في النقاط التالية:
1- من الأدلة التي تلزم بالخروج على هذا
النوع من الحكام عموم الأدلة والنصوص التي تلزم بتغيير المنكر .. وأطر الظالمين
إلى الحق .. أيَّاً كانوا هؤلاء الظالمين، كانوا حكاماً أم محكومين.
قال أبو بكرٍ الصديق t بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يا أيها الناس، إنكم تقرأون هذه
الآية، وتضعونها في غير موضعها:) عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ
يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ (المائدة:105. وإنا سمعنا
النبيَّ r يقول:" إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك
أن يعمهم الله بعقاب ". وإني سمعت رسول الله r يقول:" ما من قومٍ يُعمل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن
يُغيروا، ثم لا يغيروا، إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب "[[1]].
فقوله " إذا رأوا الظالم "؛ عام
لكل ظالم سواء كان حاكماً أم محكوماً .. وقوله r " ثم يقدرون على أن يُغيروا "؛ فعلَّق التغيير على
القدرة .. ومن القدرة القدرة على دفع المنكر بمنكر أقل، ودفع الضرر الأكبر، بضرر
أصغر.
وكذلك قوله r:" سيكونُ أُمراءُ من بعدي؛
يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤمَرون، فمن جاهدَهم بيده فهو
مؤمن، ومن جاهدَهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدَهم بقلبه فهو مؤمِن، لا إيمانَ بعدَه
"[[2]]. فالحديث نص على شرعية مجاهدتهم باليد.
2- العمل بأدلة القواعد الفقهية التي تفيد:
بأنه لا ضرر ولا ضرار .. وأن الضرر يُزال .. وإزالة الضرر الأكبر بالضرر الأصغر ..
وتقديم أقل المفسدتين لدفع أكبرهما مفسدة وضرراً .. فهذه القواعد وغيرها من
القواعد المستنبطة من نصوص الشريعة كلها تلزم الأمة بخيار الخروج على هذا النوع من
الحكام، إن تيسر الخروج عليهم بضررٍ أقل.
3- منع أهل العلم من الخروج على أئمة الفسق
والفجور هو من قبيل دفع المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى .. وتقديم أقل الضررين ..
ومسألتنا هنا تختلف تماماً عما قاله أهل العلم في ذوي الفسق أو الجور المجرد؛ حيث
أن الضرر الأصغر والمفسدة الصغرى هنا تكمن في الخروج عليهم قياساً للمفاسد الكبرى
المترتبة من جراء بقائهم على سدة الحكم والرئاسة.
لذا نجد في مثل هذه الحالة أن كثيراً من
أهل العلم يصرحون بوجوب الخروج على الحاكم الشديد الظلم والفسوق، المقدور عليه.
قال ابن حجر في الفتح 13/11: نقل ابن التين
عن الداودي قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة
ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر ا- هـ.
وقد تقدم كلام ابن تيمية، وهو قوله:"
وإن كان الواحد المقدور قد يُقتل لبعض أنواع الفسق؛ كالزنا .."؛ فاشترط
القدرة، ومن القدرة على إزالة منكر وفسق الحاكم أن لا يُؤدي إلى منكر أشد منه
وأكبر!
قال الإمام الجويني في أصول الاعتقاد: إذا
جار الوالي وظهر ظلمه وغشمه، ولم يرعو عما زجر عن سوء صنيعه فلأهل الحل والعقد
التواطؤ على درئه ولو بشهر الأسلحة ونصب الحروب ا- هـ.
قلت: وهذا محمول على أن يكون الخروج وشهر
السلاح عليه أقل فتنة وفساداً مما يظهره من فساد وفجور .. وتقدير ذلك لأهل الحل
والعقد من علماء ومجاهدي الأمة.
وقال الشيخ محمد رشيد رضا في كتاب "
الخلافة ": قد تقدم التحقيق في المسألة ونصوص المحققين فيها؛ وملخصه أن أهل
الحل والعقد يجب عليهم مقاومة الظلم والجور والإنكار على أهله بالفعل وإزالة
سلطانهم الجائر ولو بالقتال إذا ثبت عندهم أن المصلحة في ذلك هي الراجحة والمفسدة
هي المرجوحة ا- هـ.
فإن قيل: علام لم تقل في الحاكم الفاسق؛ من
ذوي الفسق المجرد، ما قلته في الحاكم الشديد الفسق والفجور والظلم والسَّفه .. من
حيث وجوب الخروج عليه بالقوة إذا أُمِنت المفسدة الكبرى، والضرر الأكبر .. وكان
الخروج عليه بالقوة هو الأقل ضرراً؟!
أقول: الذي منعنا من القول بذلك، أن افتراض
حصول ذلك هو أمر نظري وخيالي، غير واقعي .. حيث لا يمكن أن نتصور خروجاً على
الحاكم المسلم الفاسق من ذوي الفسق المجرد بالقوة .. ثم يكون هذا الخروج ـ وما
يترتب عليه من نتائج ـ أقل فتنة وضرر مما يُظهره الحاكم من فسق مجرد محتمل .. كما
أن القول بذلك: مدعاة أن لا يثبت للأمة قرار على طاعة إمام .. حيث كل أحد ممكن أن
يدعي نوع فسق على الإمام .. ومن ثم يُطالب الأمة بالخروج عليه بالقوة .. فتعيش
الأمة عمرها .. فتنة الخروج والقتل والقتال .. ولا يُعرف لها قرار على إمام،
وتُحرَم بذلك نعمة الاستقرار، والأمن، والأمان!
فإن قِيل: عندما يتعين الخروج على الحاكم
الكافر المتغلب على بلاد المسلمين ـ سواء كان كفره أصلياً، أو كان من جهة الردة ـ
أو الحاكم الشديد الفسق والظلم والسّفه .. فعلى من يتعيّن هذا الواجب من الأمة؟
أقول: واجب الخروج يتعين على جميع أفراد
وطبقات الأمة: العلماء، وطلبة العلم، وأفراد الجيش، والعمال، والتجار، والفلاحين،
والكبار والشباب، والرجال والنساء .. كل بحسبه .. وبحسب موقعه .. وهو المعني من
قوله r:" إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان "
متفق عليه. فخطاب النبي r موجه
للأمة كلها بكل طبقاتها وأفرادها، وكل بحسب استطاعته، كما قال تعالى:) فَاتَّقُوا
اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (التغابن:16. وهذا شامل لجميع الناس،
وليس لفريق دون فريق، أو فئة دون أخرى[[3]].
هذه التعبئة العامة للشعوب نحو هذه المهمة
والفريضة .. مما يدخل كذلك في معنى قوله تعالى:) وَأَعِدُّواْ
لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ (الأنفال:60.
ولما فهم بعض الشباب المتحمسين ـ في عدد من
الأمصار ـ المسألة على غير هذا الوجه .. وقصَروا مبدأ الخروج على مجموعة من
الشباب، بعيداً عن الناس والشعوب، ومشاركتهم مثل هذا القرار الهام .. فشلوا ..
وسهل على الطاغوت وعسكره ـ وللأسف ـ مواجهتهم واستئصالهم .. وإظهارهم أمام الرأي
العام على أنهم شرذمة قليلون خارجة عن القانون، وعلى إرادة الأمة والشعوب!
[1] صحيح سنن أبي داود:3644.
[2] صحيح موارد الظمآن: 1298. وقوله:" لا إيمانَ بعدَه "؛ لأنه ليس بعد إنكار القلب ومجاهدته
للباطل والطغيان والظلم سوى الإقرار والرضى؛ والرضى بالكفر كفر ينفي مطلق الإيمان
من القلب.
[3] من النماذج المعاصرة التي تتحقق فيها صفة خروج الأمة والشعوب ـ
بكل فئاتهم ـ على الطاغوت .. الثورة الليبية .. والثورة السورية .. والثورة
المصرية، والتونسية، واليمنية .. والثورة الأفغانية على العهد الشيوعي البائد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق