محمدٌ رسولُ الله صلى الله عليه
وسلم:
ليس له خاصيّة التشريع لذاته من دون الله .. حاشاه ـ نبينا صلوات ربي وسلامه عليه ـ أن يزعم لنفسه هذه
الخاصية من دون الله .. وإنما هو رسول الله .. يبلغ عن الله ما يُوحى إليه .. وكل
ما بلغه من الكتاب والسنّة، وما ورد فيهما من أحكام وشرائع، هو بوحي من عند الله
.. كما قال تعالى:) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ
إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (النجم:3-4.
وهذا شامل للكتاب والسنة، فكلاهما وحي من الله، كما قال تعالى:) وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ (النساء:113.
أي الكتاب والسنّة، فكلاهما منزل من عند الله U.
وقال تعالى:) لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ
بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ (آل عمران:164.
أي ويعلمهم الكتاب، والسّنّة، وكلاهما بوحي.
ولما قال الصحابة للنبي r: يا رسولَ الله إنّك تُداعبنا؟! قال:" إنّي لا أقولُ إلا
حقاً "[[1]]. حتى في مداعبته r لأصحابه ومزاحه معهم لا يقول إلا حَقَّاً .. ولا يصدر عنه إلا
الحق.
وقال r للذي يكتب عنه السُّنة، وكل ما ينطق به ليحفظه:" فأومأ
بأصبعه إلى فِيه، فقال: اكتب، فوالذي نفسي بيده، ما يخرجُ منه إلا حَقٌّ "[[2]].
فالنبي r معصوم عن قصد الخطأ، كما أنه معصوم عن الاستمرار في الاجتهاد
الخاطئ، فالوحي لا يقره على ذلك؛ إذ سرعان ما يسدده ويُصوبه إذا ما وقع في الخطأ
اجتهاداً .. لأنه رسول الله .. ولأنه في موضع القدوة للبشريّة جمعاء .. فهو لا يُقر على الخطأ
مهما كان ضئيلاً .. كما في قوله تعال:) عَبَسَ وَتَوَلَّى . أَن جَاءهُ الْأَعْمَى (عبس:1-2.[[3]]. فعاتبه ربه مباشرة على موقفه من ابن مكتوم، وانشغاله عنه ..
بالإقبال على بعض عظماء قريش طمعاً في إسلامهم.
من هنا جاء الأمر باتباعه، والاقتداء بسنته في
جميع ما يصدر عنه .. وجاء التحذير، والوعيد الشديد لمن يُخالف أمره، ويُعرض عن
حكمه وسنته .. صلوات ربي وسلامه عليه.
قال تعالى:) فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ [[4]]
أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (النور:63.
وقال تعالى:) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ
حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً[[5]] (النساء:65.
وقال تعالى:) وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ
جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً (النساء:115.
وقال تعالى:) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ
وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (الأنفال:13. والمشاقّة هي من المخالفة .. فيقفون في الشِّق المخالِف
لِشِقِّ النبي r، ولحكمه، وسنته .. فهؤلاء لهم
جهنم وساءت مصيراً.
وقال تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا
أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ
كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا
تَشْعُرُونَ( [[6]]الحجرات:1-2.
وقال تعالى:) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (آل عمران:32.
وقال تعالى:) وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا
نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (الحشر:7.
وفي الحديث، فقد صح عن
النبي r أنه قال:" كلُّ أمتي يَدخلون
الجنة إلا من أبى "، قيل: ومن يأبى يا رسولَ الله؟ قال:"من أطاعني دخل
الجنة، ومن عصاني فقد أبى " البخاري.
فإن قيل: فقد صح عن
النبي r أنه قال:" :" يُوشِكُ
الرجلُ مُتكئاً على أريكَته يُحَدَّثُ بحديثٍ من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتابُ
الله U، فما وجدنا فيه من حلالٍ
استحلَلْناه، وما وجدنا فيه من حرامٍ حرَّمناه، ألا وإنَّ ما حرَّمَ رسولُ الله r مثل ما حرَّم الله "[[7]].
وهذا دليل يُفيد بأن النبيَّ r له خاصية التشريع، والتحليل
والتحريم لذاته .. كما هي لله U؟
أقول: الحديث لا يفيد
هذا المعنى .. حاشا نبينا صلوات الله وسلامه عليه أن يقصد هذا المعنى .. وهو
المأمور من ربه U أن يقول لأهل الكتاب:) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ (؛ نلتزم بها كلانا، نحن وإياكم ) أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ
يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ (آل عمران:64. أي لا يتخذ بعضنا بعضاً مشرعين فنحلل ونحرم من عند أنفسنا،
ولأنفسنا ما نشاء .. مالا يأذن به الله .. كما فعل اليهود والنصارى مع أحبارهم
ورهبانهم، فاتخذوهم أرباباً من دون الله، وذلك عندما رضوا بأن يُشرعون لهم، وأن
يحللوا لهم، ويحرموا عليهم من تلقاء أنفسهم ما يشاؤون .. ومن غير سلطان ولا إذن من
الله .. فتلك كانت ربوبيتهم، التي أنكرها الله عليهم، كما قال تعالى:) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ (التوبة:31. وقد سُئل حذيفة t عن هذه الآية .. أكانوا يُصلون
لهم؟ قال: لا؛ ولكنهم كانوا يُحلون لهم ما حرّم الله عليهم فيستحلونه، ويُحرمون
عليهم ما أحل الله لهم فيُحرمونه، فصاروا بذلك أرباباً.
قال تعالى:) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ
وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ
وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا
كُنتُمْ تَدْرُسُونَ . وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ
وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم
مُّسْلِمُونَ (آل عمران:79-80. فحاشا نبينا صلوات ربي وسلامه عليه أن يزعم لنفسه حق
التشريع، والتحليل والتحريم من دون الله، أو يرضى لأحدٍ من أمته أن يزعم عنه ـ أو
لنفسه ـ هذا الزعم الباطل الكبير!
قال ابن تيمية في
الفتاوى 28/164: فإنّ الله تعالى هو الذي حمده زين، وذمه شين، دون غيره من
الشعراء، والخطباء وغيرهم، ولهذا لما قال القائل من بني تميم للنبي r: إنّ حمدي زينٌ وذمي شين! قال
له:" ذاك الله "ا- هـ.
فإن قيل: ما المراد
إذاً من قوله r:" ألا وإنَّ ما حرَّمَ رسولُ
الله r مثل ما حرَّم الله "؟
أقول: أي " ما
حرَّمَ رسولُ الله r مثل ما حرَّم الله "، من حيث
وجوب الطاعة، المتابعة والالتزام؛ فكما تطيع وتتبع أحكام القرآن، تطيع وتتبع أحكام
السنة؛ لأن كلاهما يصدران من مشكاة الوحي كما تقدم .. فالشريعة المنزلة تشمل
الكتاب والسنة، وهي تُنسب إلى الله تعالى على الحقيقة كمصدر، صدرت عنه وحده I لا شريك له، فإذا نُسبت إلى النبي
r، تنسب إليه على اعتبار المبلغ،
الذي يبلغ عن ربه ما يُوحى إليه، كما قال تعالى:) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ (المائدة:67. فمن الله تعالى الحكم، والشرع، والأمر والنهي .. وعلى الرسول
صلى الله عليه وسلم البلاغ .. وعلينا الطاعة، والاتباع والانقياد، عن حب ورضى، من
غير تعقيب، ولا حرج في النفس، ونسلم تسليماً.
وفي الحديث، فقد صح عن
النبي r أنه قال:" لا تَطروني [[8]]
كما أطرت النصارى ابنَ مريم، فإنما أنا عبدُه؛ فقولوا عبد الله ورسوله "
البخاري.
وعن ابن عباس، قال: جاء رجلٌ إلى النبي r،
فراجعه في بعض الكلام، فقال: ما شاءَ اللهُ وشِئتَ! فقال رسُولُ الله r:"
أجعلتني مع الله ندَّاً؛ لا بل ما شاء اللهُ وحده "[[9]].
[1] صحيح الأدب المفرد: 200.
[3] قال ابن كثير في التفسير: ذكر غير واحد من المفسرين أن رسول الله
كان يوماً يخاطب بعض عظماء قريش وقد طمع في إسلامه فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ
أقبل بن أم مكتوم وكان ممن أسلم قديماً فجعل يسأل رسول الله عن شيء ويلح عليه وود
النبي أن لو كف ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل طمعاً ورغبة في هدايته، وعبس
في وجه بن أم مكتوم وأعرض عنه وأقبل على الآخر .. ا- هـ.
قال القرطبي في
التفسير: قال الثوري: فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا رأى ابن أم
مكتوم يبسط له رداءه ويقول:" مرحباً بمن عاتبني فيه ربي. ويقول: هل من حاجة؟"ا-
هـ.
[4] أي شرك، قال الإمام
أحمد:" نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول r في ثلاثة وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلو:) فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ (. وجعل يكررها، ويقول: وما الفتنة؟
الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلكه.
وقيل له: إن قوماً يدعون الحديث، ويذهبون إلى رأي سفيان! فقال: أعجب لقوم
سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره! قال الله
تعالى:) فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ(
وتدري ما الفتنة ؟ الكفر. قال الله تعالى:) وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ
الْقَتْلِ ( البقرة:217. فيدعون
الحديث عن رسول الله r، وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي ..؟!" ا- هـ.
[5]قال ابن
القيم في تفسير الآية:" أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً النفي قبله،
عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع، وأحكام
الشرع، وأحكام المعاد وسائر الصفات وغيرها، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا
التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج؛ وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الإنشراح
وتنفسح له كل الانفساح، وتقبله كل القبول. ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً حتى
ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم وعدم المنازعة، وانتفاء المعارضة
والاعتراض "ا- هـ. عن كتاب التبيان في أقسام القرآن: 270.
[6] قال ابن تيمية في تفسير الآية:" أي حذَر أن تحبط أعمالكم، أو
خشية أن تحبط أعمالكم، أو كراهة أن تحبط أعمالكم، ولا يحبط الأعمال غير الكفر؛ لأن
من مات على الإيمان فإنه لا بد أن يدخل الجنة ويخرج من النار إن دخلها، ولو حبط
عمله كله لم يدخل الجنة قط، ولأن الأعمال إنما يحبطها ما ينافيها، ولا ينافي
الأعمال مطلقاً إلا الكفر..
فإذا ثبت أن رفع
الصوت فوق صوت النبي والجهر له بالقول يُخافُ منه أن يكفر صاحبه وهو لا يشعر،
ويحبَط عمله بذلك، وأنه مظنة لذلك وسبب فيه ... "ا- هـ. عن كتاب الصارم: 55.
قلت: هذا فيمن
يرفع صوته فوق صوت النبي r .. فكيف بمن يرفع حكمه وشرعه فوق حكم وشرع النبي r .. لا شك أنه أولى بأن يحبط عمله.
[7]
صحيح
سنن ابن ماجه: 12. الحديث فيه رد على فرقة القرآنيين الذين فشى شرهم وذكرهم في هذا
الزمان؛ الذين ينكرون السنة ويبطلون العمل بها، ويزعمون أنهم لا يؤمنون ولا يعملون
إلا بالقرآن ونصوص القرآن فقط .. وهؤلاء كذابون ومتناقضون إذ أن الإيمان بالقرآن
يؤدي بالضرورة إلى الإيمان بالسنة .. وأن من يكذب بالسنة وينكرها يلزمه بالضرورة
أن يكذب بالقرآن وينكره .. ومن كان هذا قوله واعتقاده لا شك في كفره وزندقته
وخروجه من الإسلام.
[8] أي لا تغالوا في مدحي، كما غالت النصارى في عيسى ابن مريم، وادعت
له الألوهية.
[9] رواه أحمد، وابن ماجه، والبيهقي، والطبراني في الكبير، السلسلة
الصحيحة: 139. أقول: إذا كان نبينا ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ سيد ولد آدم ..
وخليل الله .. ليس له هذا الحق؛ حق التشريع لذاته، من دون الله .. فكيف نرتضيه
لأناس في زماننا ـ هم لا شيء قياساً للحبيب صلى الله عليه وسلم ـ يستشرفون خاصية
التشريع والتحليل والتحريم لأنفسهم من دون الله .. تحت مسميات وضعية، وذرائع شتّى
ما أنزل الله بها من سلطان؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق