ضوابط التبديع والتفسيق
أهم
ضوابط التبديعالبدع ليست كلها على مرتبة واحدة، وبالتالي ينعكس هذا في الحكم على المبتدع نفسه، فبلا شك أن المبتدع بدعة عقائدية أخطر من المبتدع بدعة عملية في الغالب، وكذلك المبتدع بدعة كلية أشد انحرافاً من المبتدع بدعة جزئية، والبدع الحقيقة أخطر من البدعة الإضافية. إذاً: ينبغي أن نعرف أن البدع ليست كلها على مرتبة واحدة، وإنما هي تتفاوت في خطورتها حسب ما تؤدي إليه، فهذا أهم ضابط في التبديع، وهو معرفة أقسام البدع. ......
لا يجوز التبديع في المسائل الفقهية السائغة
القضايا التي يختلف فيها العلماء -لاسيما القضايا الفقهية- خلافاً سائغاً لا يجوز الحكم على المخالف فيها بالابتداع، كأن يقع بعض أفاضل العلماء من أئمة الخير والهدى في هذا الزمان في زلة، كمن قال عن وضع اليدين على الصدر بعد الرفع من الركوع: هذه بدعة وضلالة! فهذه المسألة لا يجوز أن تندرج في ميزان البدعة على الإطلاق، والخلاف فيها خلاف سائغ، والأمر أهون من ذلك بكثير، فهذه لا تدخل بأي حال في حد البدعة أبداً؛ لأن الخلاف سائغ، والحديث محتمل في تفسيره، فالخلاف الفقهي السائغ لا يمكن أبداً أن تطلق على مخالفك فيه وصف البدعة. والخلاف على ثلاثة أنواع: هناك خلاف مذموم، وخلاف ممدوح، وخلاف سائغ. النوع الأول: الخلاف المذموم، وهو خلاف أهل الأهواء لأهل العلم، وخروجهم عن هدي أهل العلم والسنة، كمخالفتهم لأصول العقيدة أو ما علم من الدين بالضرورة، فهذا خلاف مذموم. النوع الثاني: خلاف ممدوح، وهو خلاف أهل العلم لأهل الأهواء، وهذا خلاف ممدوح. النوع الثالث: الخلاف السائغ، وهو خلاف أهل العلم لأهل العلم بالشروط التي سنذكرها إن شاء الله.
ضوابط الخلاف السائغ
خفاء الدليل الراجح مع قصد الحق
أول ضابط من ضوابط الخلاف السائغ: خفاء الدليل الراجح مع قصد الحق، فالعالم قد يراجع المسألة وهو يريد الحق، لكن خفي عليه الدليل الواضح الذي يحسم المسألة، فهذا خلاف سائغ. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إذا كانت المسألة نصاً خفي على بعض المجتهدين، وتعذر عليهم علمه، ولو علم به أحدهم لوجب عليه اتباعه، ولكنه لما خفي عليه اتبع النص الآخر، وهو منسوخ أو مخصوص، وهو لم يعلم بالدليل المخصص أو الناسخ أو لم يصح عنده. وهذا أغلب خلاف الأئمة رحمهم الله تعالى: الإمام الشافعي والإمام أحمد ومالك وأبو حنيفة وغيرهم، فلا يظن بواحد منهم أنه يتعمد مخالفة الدليل. بعض الإخوة السلفيين في قرية، وكان بينهم وبين إمامهم خلاف قوي وقع بقدر الله سبحانه وتعالى، وفي أثناء الحوار اتضح أن الإخوة السلفيين هناك لا يريدون أبداً أن يصلوا خلف الإمام الحنفي، ويضيع أحدهم صلاة الجماعة ولا يصلي خلف إمام مذهبه حنفي! فلما تناقشنا معهم قال: لأن الحنفي يرد سنة الرسول عليه السلام! فهل يظن بمسلم أن يرد سنة الرسول عليه السلام؟! فهذا الضابط مهم جداً، فإن العلماء قطعاً يريدون الحق، نعم قد يخالف الحق، لكن هو لا يقصد ذلك ولا يتعمده أبداً. فالشاهد أن أول الضوابط: خفاء الدليل الراجح مع قصد الحق، فهو يقصد الحق وقد يخالف الحق لا عن عمد، لكن عن عذر كخفاء هذا الدليل، أو عدم ظهوره إياه، أو عدم صحته عنده أو تأويله إياه.
التيسير في المسائل الدقيقة التي يكثر فيها احتمال الخطأ
الضابط الثاني: ما كان من المسائل الدقيقة التي يكثر فيها احتمال الخطأ، وقل من يسلم منها حتى من كبراء الأمة، فإنه يسهل فيها، فهناك مسائل دقيقة في تفاصيل القضايا الفقهية، ولا يمكن أبداً أن تتفق الأمة كلها في مثل هذه الدقائق، وقل من يسلم من الخطأ في مثل هذه الفروع حتى من كبراء الأمة. قال شيخ الإسلام : ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة وإن كان ذلك في المسائل العلمية، ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة. لأنه ما من أحد من كبراء الأمة إلا ويختلف مع أخيه من العلماء في بعض الفروع الدقيقة جداً، وهذه معروفة لمن درس الفروع الفقهية، وقرأ الموسوعات الفقهية، فإنه يرى شدة الخلاف بين العلماء في هذه المسائل الدقيقة.
عدم مخالفة النص الشرعي أو الإجماع
الضابط الثالث: عدم مخالفة النص الشرعي أو الإجماع. حتى يكون الخلاف سائغاً يجب ألا يخالف نصاً شرعياً صريحاً واضحاً، ولا إجماعاً متيقناً معلوماً، فإذا كانت المسألة نصاً أو إجماعاً فأي خروج عن النص أو الإجماع يعتبر خلافاً غير سائغ، فإذا اجتهد الفقيه في مسألة، وبذل فيها وسعه، فإن خالف غيره من العلماء سواء كانوا سابقين أو معاصرين فالخلاف يكون سائغاً ما لم يكن فيها نص أو إجماع. وهذا الضابط مهم جداً، فمثلاً قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء:23]، اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ [المائدة:5]، حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة:3] التعبير بكلمة (تحريم) نص في المسألة، ولا يمكن أن يناقش هذا هل هو حرام أم مكروه، فالنص واضح وجلي في أعلى درجات الوضوح في دلالة الألفاظ: (حرمت) (أحل لكم). فلا يقبل أبداً مخالفة ما جاء فيه نص التحريم، بخلاف الأدلة التي الظاهر منها هو التحريم، وغير ذلك من الدلالات التي هي أقل وضوحاً من النص، ومثل النص الإجماع، فإن الأمة معصومة أن تجتمع على ضلالة، والإجماع يدخل فيه ما علم من الدين بالضرورة. فإن اجتهد الفقيه في مسألة ليس فيها نص ولا إجماع، وبذل فيها وسعه، ولم يترتب عليها مخالفة لإخوانه من العلماء المعاصرين أو السابقين أو اللاحقين؛ فخلافه داخل في دائرة الخلاف السائغ.
لا يكون الخلاف سائغاً إلا من أهل العلم والاجتهاد
الضابط الرابع: لا يكون الخلاف سائغاً إلا من أهل العلم والاجتهاد والفقه في الدين. لا يمكن أن يكون الخلاف سائغاً إلا من أهل العلم والبصيرة والاجتهاد في الدين، ولا يفتح باب الاجتهاد على الإطلاق لكل شخص من عوام الناس أو طالب علم، فيقول أحدهم: أنا اجتهدت في هذه المسألة، ورأيت فيها بخلاف كلام هذا الإمام، ويعتبر أن هذا الخلاف سائغ! الخلاف السائغ هو الذي يصدر عن أهل العلم وأئمة الاجتهاد والفقه في الدين. والخلاف السائغ هو خلاف الأئمة وأهل العلم، ويمكن أن يكون الإمام مجتهداً، ويقصر في الاجتهاد، فلابد أن يبلغ الفقيه وسعه في فهم حكم الشرع، فلو أن إماماً من الأئمة المجتهدين أفتى دون أن يبذل وسعه، فهذا غير سائغ؛ لأن ضابط الاجتهاد: أن يبذل العالم أقصى وسعه في تحري الحق وقصده، فإن خالف ففي الحديث: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر). لكن إذا لم يجتهد وأفتى بدون بذل الوسع فلا يدخل تحت هذا الحديث، والآن كل من هب ودب يستدل بهذا الحديث على آرائه واجتهاداته، ويظن أنه مأجور حتى لو أتى الأمر من غير بابه ولم يكن مجتهداً، بل حتى ولا طالب علم ولا مجتهد في العلم، ومع ذلك يقول: أقول، ومذهبنا الذي نرجحه! وغير ذلك من العبارات الرنانة، وهؤلاء لا عبرة بكلامهم على الإطلاق، فإنه لا يكون الخلاف سائغاً إلا إذا كان صادراً من أهل العلم والاجتهاد والفقه والبصيرة في الدين. ذكر شيخ الإسلام أنواع المجتهدين فقال: بخلاف الذين أفتوا المشجوج في البرد بوجوب الغسل فاغتسل فمات، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (قتلوه قتلهم الله! هلا سألوا إذا لم يعلموا؟ إنما شفاء العي السؤال)، فأنكر عليهم اجتهادهم. فهم اجتهدوا عن غير أهلية، فليس عندهم مؤهلات للاجتهاد، ولذلك أنكر عليهم النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يقل كما قال في الحديث الآخر: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر)، وإنما قال: (قتلوه قتلهم الله! هلا سألوا إذا لم يعلموا؟ إنما شفاء العي السؤال)، فإن هؤلاء أخطئوا بغير اجتهاد إذ لم يكونوا من أهل العلم.
أن يبذل الفقيه أقصى وسعه في الوصول إلى الحق
الضابط الخامس: أن يبذل الفقيه أقصى وسعه وغاية جهده في الوصول إلى الحق، فإذا قصر ذم بتقصيره، ومن التقصير عدم طلب الدليل من الكتاب والسنة.
عدم البغي
الضابط السادس: لا يكون الخلاف سائغاً إذا صحبه بغي؛ لأن الإنسان إذا كان يبغي على مخالفه فالبغي يعارض قصد الحق، وقد ذكرنا الضابط الأول من ضوابط الخلاف السائغ، وهو خفاء الدليل الراجح مع قصد الحق. فالشخص الذي يريد أن يبغي على مناظره أو على مخالفه يستدل بأدلة للانتصار لرأيه أو مذهبه، فالبغي يتنافى مع قصد الحق، فقاصد الحق لابد أن يكون متجرداً عن الهوى، ولابد أن يقصد الحق، فإذا كان في بحثه أو في أسلوبه بغي فإن البغي يعارض قصد الحق الذي هو من ضوابط الخلاف السائغ، يقول تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [آل عمران:19]. يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: والبغي إما تضييع للحق وإما تعد للحد، فهو إما ترك واجب وإما فعل محرم، فعلم أن موجب التفرق هو ذلك. أي: الذي يحدث التفرق هو البغي، وما هو البغي؟ له صورتان: إما تضييع للحق أي: بترك الواجب، أو تعد للحق بفعل الحرام، والبغي يوجب التفرق بين الناس، فلا يكون الخلاف سائغاً مع البغي، فالبغي يعارض قصد الحق الذي هو من لوازم الخلاف السائغ.
لا يكون الخلاف سائغاً مع ظهور الأدلة
الضابط السابع: الخلاف لا يكون سائغاً مع ظهور الأدلة. فلابد أن يكون اجتهاد العلماء واختلافهم في المسائل الفرعية التي لم يدل دليل قطعي على حسمها؛ لأن الدليل الظاهر يحسم مادة الخلاف، فإذا كان الخلاف سائغاً قبل ظهور الدليل فإنه لا يكون كذلك بعد ظهوره؛ وليس هناك تعارض بين هذا وبين الضوابط السابقة؛ لأن العالم معذور في مخالفته للحق -هو يقصد الحق لكن خالفه- ما لم يأته الدليل الصحيح الصريح الذي يحسم الخلاف، فإذا أتى الدليل فهو معذور قبل ذلك، أما إذا ظهر الحق فلم يعد لا يعود الخلاف سائغاً في حقه. ولذلك كان الشافعي رحمه الله تعالى يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، فالدليل الظاهر هو يحسم مادة الخلاف، فإذا كان الخلاف سائغاً قبل ظهور الدليل فإنه لا يكون كذلك بعد ظهوره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فلا يجوز لنا أن نعدل عن قول ظهرت شدته بحديث صحيح وافقه طائفة من أهل العلم إلى قول عالم، وقال: ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف شخص الحق لا يجوز له تقليد أحد في سنته. فهذه هي ضوابط الخلاف السائغ، وأهمية هذه الضوابط أن الخلاف السائغ لا يتم على أساسه تبديع للمخالف.
مراتب البدع
تتفاوت مراتب البدع، فالبدعة التي تخالف السنن قد تكون في أمور دقيقة، وقد تكون في أمور جلية وعظيمة، ومن ثم يتفاوت أصحاب البدع قرباً وبعداً عن السنة، فأحياناً يرجع الخلاف بينهم إلى النزاع في الألفاظ والأسماء، ويرجعه البعض الآخر إلى النزاع في المعاني والحقائق، فهناك بدعة لا يكفر أصحابها اتفاقاً، وهناك بدعة يكفر أصحابها اتفاقاً، وهناك بدعة مختلف في تكفير أصحابها، فيوجد تفاوت في مراتب البدع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق