الديمقراطية والتنمية
إذا كانت
الديمقراطية
هي تعبير عن مستوى تطور القوى المنتجة في مجتمع ما
وكذلك
مستواه الحضاري ـ الثقافي، فهي
هكذا عامل مشتق وبآن واحد محدد
لاتجاه
التطور اللاحق.
فإذا كان مستواها
أدنى
من حاجات اللحظة التاريخية الملموسة، فإنها كشكل
للعلاقات
في المجتمع تتحول الى عائق أمام التطور
اللاحق، أما إذا كان مستواها متناسباً مع مستوى
التطور الاقتصادي ـ الاجتماعي
فإنها تصبح حافزاً ومحركاً للتطور كله.
لقد وصل تقسيم العمل
المعبر عن حجم المنتجين المنفصلين والمرتبطين ببعضهم
البعض
حداً كبيراً من العمق وهو
مايزال يسير قدماً في هذا الاتجاه، وتشكل
الثورة
المعلوماتية الاتصالاتية الحالية مرحلة
هامة ونوعية جديدة منه وهي تهيئ الإمكانية والضرورة لمشاركة عدد واسع جداً من الناس في عملية اتخاذ القرارات المتعلقة بكل جوانب حياتهم، وما إبعادهم عنها إلاّ كبح لكل التطور بكل إحداثياته.
لقد كان الاتجاه التاريخي
دائماً يسير باتجاه توسيع الديمقراطية، وهذا ليس عطاءً أو منة، بل انعكاس لواقع موضوعي وضرورة اجتماعية.
مما سبق يتبين أن هنالك
علاقة عضوية بين مستوى وشكل الديمقراطية، أي مستوى
وشكل مشاركة الناس في اتخاذ قرارات المجتمع التي تمس حياتهم،
وبين اتجاه تطور القوى المنتجة وشكل علاقات الإنتاج، أي بكلام آخر أن
الديمقراطية هي شكل تفاعل البنية الفوقية مع البنية التحتية في المجتمع، ومن هنا دورها الحاسم في تعبيرها وفي
تحديدها
لاتجاهات التطور.
فيما يلي سنحاول بحث بعض
جوانب هذه العلاقة كي نخلص الى استنتاجات حول
العلاقة
بين الديمقراطية والتنمية في
بلدان مايُسمى بـ «العالم الثالث»:
1. ـ إن تخلف مستوى
الديمقراطية من حاجات تطور القوى المنتجة يمنع النمو
الاقتصادي نفسه، فالنمو كعملية داخلية تتفاعل فيها عوامل عديدة،
رغم كونه مؤشر كمّي للتطور، هو تعبير عن توازن وتناسب ما محفوظ في المجتمع، وانعدامه بحد ذاته هو تأكيد على خلل في علاقة المجتمع بالدولة، فالدولة التي لاتستطيع تأمين نمو اقتصادي معقول، هي دولة تعاني من مشكلة مع
مجتمعها،
ومآل هذه المشكلة إما أن تعيد الدولة النظر بعلاقتها مع
المجتمع، وهو مايُسمى بإعادة النظر بمستوى الديمقراطية وشكلها،
وإما أن يعيد المجتمع النظر بهذه الدولة
غير القادرة على تأمين احتياجات التطور المادي
الاقتصادي، والتي تعتبر احتياجاته حاسمة في مسار التطور.
2. تميز اقتصاد العالم الثالث
في النصف الثاني من القرن العشرين بانتشار
الفساد والنهب فيه، والذي ترافق مع عملية توسع دور الدولة في
العملية الاقتصادية والذي كان ضرورة تاريخية لتسريع تطوير الاقتصاد وخاصة بُناه التحتية.
وإذا عدنا الى الأدبيات
الاقتصادية والسياسية لبدايات تلك المرحلة لرأينا
تحذيرات جدية من خطر ماحدث لاحقاً من نهب وفساد ونشوء فئات
اجتماعية جديدة هي نتاج لهما، وكانت هذه الأدبيات تنطلق من رؤية أن عملية إعادة
الانتاج في المجتمع هي عملية واسعة ومعقدة ومركبة، وإذا لم ينظر لها على أنها تفاعل وتكامل وتناسب مراحل الإنتاج بالمعنى التكنولوجي الضيق والتبادل والتوزيع والاستهلاك فإن ذلك يحمل خطر أن تدور الحلول ضمن إطار المرحلة
الأولى
من عملية إعادة الإنتاج أي الإنتاج بالمعنى الضيق
مهملة
المراحل الأخرى مما سيسمح بنشوء
فئات جديدة ترث امتيازات الفئات البائدة دون
أن ترث ملكيتها، حتى أن بعضهم ربط منذ ذلك الحين ضرورة
الديمقراطية في المجتمع وتوسيعها مع ازدياد دور
الدولة في الحياة
الاقتصادية لمنع النهب والفساد
عبر
مراقبة الناس لعملية الإنتاج
والتوزيع.
3. وهنا لابد من الإشارة إلى
قضية أساسية وهي أن النموذج النيوليبرالي
الاقتصادي والذي يروج له على أنه حامل للديمقراطية، هو في الظروف التاريخية الملموسة اليوم
وفي
الواقع هو حامل لبرنامج تقييد واسع للحريات
السياسية
ولعودة إلى الوراء حتى عن المستوى الهش والضعيف
للديمقراطية إن وجدت في بعض بلدان العالم
الثالث.
فالتجربة التاريخية التي
جرت في أوروبا الغربية
وسار فيها النموذج
الاقتصادي الليبرالي مع تأمين مستوى معين من الحريات السياسية،
كانت تعبيراً عن توازنات اجتماعية محددة حصّل فيها المجتمع على هامش واسع لاحق لحركته وجرى كل ذلك في ظرف
تاريخي
لم يتكرر ولا في أي مكان آخر، بل العكس
هو
الصحيح في بلدان العالم الثالث،
فأينما
طبق النموذج الاقتصادي النيوليبرالي فقد أنتج
أمرين:
- انخفاض في النمو، في نهاية
المطاف، إلى ما تحت الصفر، مع ما يحمله ذلك من أخطار
اقتصادية
ـ اجتماعية وحتى سكانية.
- مزيد من تقييد للحريات
السياسية وتراجع عن مستويات سابقة للهوامش الديمقراطية
السابقة.
4. ولكن وعي ومعرفة مخاطر
النموذج الليبرالي ـ الاقتصادي كحامل لبرنامج
العولمة المتوحشة في بلدان الجنوب، يجب أن لا يعني بأي حال من
الأحوال التبرير لاستمرارية الأوضاع القائمة من حيث مستوى الهوامش الديمقراطية، فالفئات المستفيدة من عمليات
النهب
والفساد والتي تُخرج من دورة الاقتصاد
الوطني
فاقداً كبيراً، لو وظف فيه لأمّن مستويات نمو معقولة،
هذه الفئات تدخل في صدام من حيث
مصالحها مع مصلحة تطور المجتمع، وهي في إصرارها
في الإبقاء على الأوضاع كما عليه مستفيدة
من نفوذها في جهاز الدولة، إنما تخلق الأرضية والمبررات لهجوم النموذج النيولبيرالي
وانتصاره الممكن بشعاراته الديماغوجية بغض النظر عن أن نتائجه وأداءه
سيكونان أسوأ بكثير.
إن الممارسة تثبت أن
المدخل للنمو الاقتصادي اللاحق لا يمكن أن يتم عبر
جهاز
الدولة فقط، فإذا لم يجر إشراك
قوى المجتمع في هذه العملية عبر
استنباط
الأشكال الديمقراطية المناسبة
والمتقدمة، لا يمكن الحديث عن أي
تقدم
حقيقي في هذا المجال.
5. حتى اليوم كان يمكن الحديث
عن «نمو بلا تنمية» في بلدان العالم الثالث،
وهو ماجرى فعلاً في كثير من الأحيان، فذلك النمو الاقتصادي
الذي لاينعكس إيجابياً على مصالح غالبية الناس في المجتمع لا يمكن أن يتحول إلى
تنمية، والسبب في ذلك طبعاً هو اختلال عملية التوزيع وتمركز الثروة المستمر في أيدي قلة قليلة. وكان النمو في هذه الحالة شرطاً ضرورياً للتنمية حتى ولو لم تتحقق.
ولكن هل يمكن القول بذلك
اليوم؟ الأرجح لا يمكن. لماذا؟
- إذا كان مؤشر النمو هو
مؤشر كمي، فالتنمية هي مؤشر نوعي.
- وإذا كان مؤشر النمو هو
مؤشر بسيط، فالتنمية هي مؤشر مركب.
- وإذا كان مؤشر النمو هو
مؤشر اقتصادي بحت، فالتنمية هي مؤشر اقتصادي ـ اجتماعي ـ
سياسي.
واليوم في ظل الأزمة
العميقة التي تعصف بالنظام الرأسمالي العالمي والتي
تضطره
إلى رفع معدلات نهب بلدان
العالم الثالث، يمكن القول أن كل احتياطات «النمو بلا تنمية» قد استنفذت وتعقد الموضوع وأصبح «لانمو بدون تنمية»، أي أنه إذا كان في السابق من
الممكن
تأمين معدلات نمو ولو ضعيفة في ظل
سياسات
اجتماعية منحازة لأقلية من ذوي
الثروة،
وفي ظل سياسات داخلية تمنع تطور الديمقراطية للناس،
فإن ذلك اليوم أصبح مستحيلاً وأية دولة تريد
أن تستمر في أبقاء مبرر وجودها، وهو
قدرتها على حل قضايا المجتمع، أصبح غير ممكن بالنسبة لها حل قضايا النمو دون حل حزمة القضايا
الاجتماعية ـ السياسية الملازمة للموضوع. وفي ذلك تعبير واضح عن شكل
التجلي الحالي لقانون تناسب القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، لذلك فإن الخيار
الحالي إما دولة وطنية قادرة على حل مشاكل المجتمع، وإما مجتمع قادر على إيجاد
الدولة المناسبة لحل مشاكله ولا مفر من ذلك، ويبقى الخيار الأول هو الخيار الأقل كلفة وزمناً، أما الخيار الثاني فهو خيار وإن كان من المحتم الوصول إليه إذا استحال تحقيق الخيار الأول. إلا أنه خيار أكثر كلفة وزمناً والوصول إليه لن يكون طريقاً مستقيماً.
وهكذا إذا كانت
الديمقراطية شرطاً ضرورياً للتنمية فإن الشرط الكافي لها
هو
التوزيع العادل للثروة بين الأجور
والأرباح، مما يخلق كل الضمانات
الضرورية
للتطور اللاحق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق