-
السلطة القضائية : غاية القضاء ـ
كما في الإسلام ـ تحقيق العدل فيم بين المتخاصمين .. وهذا لا يتحقق إلا بأمرين: أحدهما تحري حكم الله تعالى فيم قد تم فيه
الخلاف والتخاصم، بين المتخاصمين والمختلفين. كما في الحديث، فقد صح عن النبي r أنه قال:"
القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار؛ فأما الذي في الجنة؛ فرجل عرف الحق
فقضى به. ورجل عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار. ورجل قضى للناس على جهل، فهو
في النار "[ [1]].
ثانيهما:
عدم ممارسة أي ضغوطات جانبية ـ من أي جهة كانت ـ قد تؤثر سلباً على عمل وعطاء
القضاة، وعدالة حكمهم.
كما
في قصة المرأة المخزومية، أن قريشا أهمهم شأن المرأة
المخزومية التي سرقت في عهد
النبي r. في غزوة
الفتح. فقالوا: من يكلم فيها رسول
الله r؟ فقالوا : ومن يجترئ عليه إلا
أسامة بن زيد؛ حب رسول الله r؟ ـ فأرادوا أن يستغلوا مكانة أسامة
الرفيعة عند النبي r عسى ذلك أن يثنيه عن قطع يدها ـ فأتى
بها رسول الله r، فكلمه فيها أسامة
بن زيد. فتلون وجه رسول الله r، فقال:" أتشفع في حدٍّ من
حدود الله؟!" فقال له أسامة: استغفر لي، يا رسول الله! فلما كان العشي قام
رسول الله r فاختطب،
فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال:" أما بعد، فإنما أهلك الذين من قبلكم،
أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف، تركوه. وإذا سرق فيهم الضعيف، أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده، لو أن
فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها "، ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها.
مسلم.
وهذان
الأمران لا يمكن أن يتحققا على الوجه الصحيح إلا إذا تمتعت سلطة القضاء
بالاستقلالية عن نفوذ وهيمنة بقية السلطات .. وهذا الذي كان عليه عمل السلف في
الصدر الأول للإسلام، كما في خلاف الخليفة العادل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب t، مع اليهودي ..
على ملكية الدرع .. فعلي t يقول الدرع لي
.. واليهودي يقول: بل، الدرع لي .. ولما رُفع أمرهما للقاضي شُريح: حكم شريح
لليهود على الخليفة علي بن أبي طالب t .. وأمر له بالدرع .. لأن علياً
لم يكن يملك شاهدان على دعواه .. فقال اليهود: أمير المؤمنين جاء معي إلى قاضي
المسلمين، فقضى لي ورضي! صدقتَ والله يا أمير المؤمنين، إنها لدرعك، سقطت عن جمل
لك التقطتها، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. فوهبها له علي t [[2]].
فالحاكم
ليس فوق القضاء، والقِصاص، وبالتالي كيف له أن يتدخل في عدالة القضاء .. وقد ثبت
أن الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه .. وهو سيد الخلق ـ فداه نفسي ـ قد أذن بأن يُقاد
ويُقتَص منه، فمن دونه ـ وكل الخلق دونه ـ ليسوا بمنأى عن القَوَد والقِصاص، كانوا
من كانوا، فضلاً عن أن يتدخلوا بعدالة القَوَد والقِصاص، كما في الحديث الذي أخرج
ابن إسحاق في السيرة، وغيره: أن رسولَ الله r عدَّل صفوف أصحابه يوم بدرٍ، وفي
يده قِدْحٌ ـ وهو السهم الذي يُرمَى به عن القوس ـ يعدل به القومَ، فمر بسواد بن
غَزِيَّة وهو مُستنتِلٌ من الصَّف، فطعَن في بطنِه بالقِدح، وقال:" استوِ يا
سواد "، فقال: يا رسولَ الله أوجعتني، وقد بعثَك اللهُ بالحق والعدلِ،
فأقدني! قال: فكشف رسول الله r عن بطنه،
وقال:" اسْتَقِدْ "!، قال: فاعتنقه، فقبَّل بطنه! فقال:" ما حملكَ
على هذا يا سواد؟"، قال: يا رسولَ الله حضرَ ما ترى، فأردتُ أن يكون آخر
العهد بك: أن يمس جِلدي جِلدك! فدعا له رسولُ الله r بخير[[3]].
قال
الشافعي، في رواية الربيع: وروي من حديث عمر t أنه قال:" رأيتُ رسولَ الله r يعطي القَوَدَ
من نفسه، وأبا بكرٍ يعطي القَوَدَ من نفسه، وأنا أعطي القَوَدَ من نفسي "[[4]].
فهؤلاء
هم عظماء الأمة يعطون القَوَد من أنفسهم .. فما بال طغاة العصر، ينصون في دساتيرهم
الباطلة: " بأن الملك أو الرئيس فوق المساءلة والمحاسبة، لا يُسأل عما يفعل
"، والذي لا يُسأل عمّا يفعل هو الله I، كما قال تعالى:) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (الأنبياء:23.
قال r:" لا تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لا
يُقضَى فيها بالحقِّ، ولا يأخذُ الضعيفُ حقَّهُ من القويِّ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ
"[[5]]. أيّاً كان هذا القوي .. حتى لو
كان الحاكم أو الخليفة ذاته .. فليس هو فوق أن يُؤخَذ منه الحق للضعيف .. ولا يكفي
أن يأخذ الضعيف حقه منه وحسب .. بل يأخذه منه غير خائف ولا متعتع!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق