التونسي أبو القاسم
الشابي , من الشعراء العرب المبرَّزين في الشعر العربي الحديث ؛ إذ أسعفته قريحته
الفذة بقصائد بوأته مكانةً كبيرةً, و خطت اسمه في كراسة الأدب العربي .
و قد اخترت دراسة
ظاهرة الكآبة عند أبي القاسم الشابي لأنني أرى في كآبته بعداً فلسفياً و صوتاً
باحثاً عن الحقيقة , و لأن الشعر عنده كان وسيلةً للتنفيس , و منطلقاً لأشجانه , و تعبيراً عن أحلامه التي
أورثته الحزن و الكآبة , و سوف أعرض للكآبة لا بكونها عارضاً وجدانياً , أو علةً
تعتور أي منكود ؛ لكنْ بوصفها منطلقاً للأمل , و سبباً في النهوض , و سبيلاً إلى
الإبداع الشعري الخلاب ..!
كما يهمني كثيراً التطرق لأسباب هذا العارض و
المؤثرات التي تزيده أو تقلصه , و في بدء هذا المبحث أبسط في تعريف الكآبة , و من
ثم تجلياتها في قصائد الشابي , و بعدها عرض لأسبابها , سواء الداخلية المنطلقة من
مرض الشابي المزمن , أو ظروفه الاجتماعية الخاصة التي أثرت في استقراره النفسي , و
تطرق للأسباب الخارجية المتمثلة في أمته الضعيفة و علاقته بالمجتمع الذي يرى فيه
تناقضاً و خللاً يجب أن يعالج و كيف يقابله هذا المجتمع بالرفض و الهجوم .
كما أعنى هنا
بأشكال من الكآبة عايشها الشابي , و انطلق منها , الأولى سميتها بالكآبة السلبية و
المنغلقة , و هي التي تفيض بمشاعر الإحباط و الانهزام , و الهروب من الواقع , و
الكآبة الأخرى سميتها بالإيجابية ؛ لأنها لم تمنعه من عيش حياته , و الانطلاق في
عالمه داعياَ إلى الأفكار التي يؤمن بها .
كما أنه من المهم الإشارة إلى أن الكآبة عنصرٌ
رئيسٌ في المذهب الرومانسي , نرى أبا القاسم يعيشها و يتقلب في فراشها , ليندمج
اندماجاً تاماً مع الرومانسية , و ليكون رمزاً من رموزها في الأدب العربي , و بعدها أعرض لنماذج من قصائده تدور في فلك
الكآبة و الحزن بما يمثل جانباً تطبيقياً , آثرتُ فيه طريقةَ التحليل و استقصاء
المعاني القريبة و البعيدة . !
تجليات الكابة والحزن في شعر ابو قاسم الشابي :
لا يكاد القارئ
لديوان الشابي أن يغفل عن ذلك النغم الحزين الذي يئن في غالب قصائده ,
فالكآبة هي الروح المسيطرة على ذلك الإنتاج الشعري .
ففي قصيدته (يا
شعر) , نلمس فهمه للشعر على أنه (حيلة الكئيب ):
يا
شعر أنت فم الشعور و صرخة الروح الكئيب
يا شعر أنت صدى
نحيب القلب و الصب الغريب
يا شعر أنت مدامع
علقت بأهداب الحياة
يا شعر أنت دم ,
تفجر من كلوم الكائنات[1]
و بهذه القصيدة نلخِّصُ
كثيراً من رؤى الشابي للحياة و الشعر , فإذاما
كان الشعر وسيلة البكاء و التنفيس , اتضح لنا أن كلَّ ما سيخرج من هذا التصور لن
يعدوَ أن يكون من ضروب الحزن و الكآبة !
و لديه قصيدة ابتدأها بـ( الأنا ) , عنوانها ( الكآبة المجهولة ) :
أنا كئيب
أنا غريب
كآبتي خالفت نظائرها
غريبة في عوالم الحزن
كآبتي فكرة مغردة
مجهولة من مسامع الزمن[2]
و في هذه القصيدة نلحظ البعد الفلسفي الذي ينبع من موقفه من الحياة ,
فكآبته ليست كسائر الكآبات , بل هي غريبة باعترافه , و غريبة من بين جميع الأحزان
,!
و نلحظ أن للكآبة مردافات أخرى في شعر الشابي , مثل ( الغربة ) , ( الألم
) , ( التوجع ) , و ( السجن ), و
( التيه ) , ففي
قصيدته ( إلى قلبي التائه ):
مالآفاقك يا قلبي سودا حالكات؟
و لأورادك بين الشوك صفرا ذاويات[3]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق