أسباب الكآبة عند
الشابي :
الذاتية :
عاش الشابي حياته
بكل طاقاتها الوجدانية , و تقلب مع أحوالها المضطربة , سواء في نشأته , و ترحاله ,
و وفاة أبيه , و بعدها تكفله بإعالة أسرته , و من ثم مرضه المزمن الذي جعل منه
نبعا لأفكاره و ملهما لشعره ؛ فيحكى أنه يوما انتابته الضائقة الصدرية من ذات
القلب و استمرت ساعتين يقلّب فيهما وجهه و لا ينبس إلا بقطراتٍ من العرق ..! و لما
هجعت النوبة , بدأ يسوي ثيابه و رقبة قميصه .. ثم تكلم منشرحاً صوته انشراح من حط
وزره و نزع الحمل الجهيد , و بادر من حوله للاستجابة حين قال : أعطني ورقاً , و القلم من جيب فرملتي ( فأعطوه ما
طلب ) فأخذ يكتب حالاً , .. قصيدةَ :
يا
إله الوجود , هذي جراحٌ === في فؤادي تشكو إليك الدواهي [1]
.
و من هنا نرى أن الشابي قد تمكن من تسخير ( مرضه
) و آلامه الحسية الجسدية في شعره , و لا شك أن لهذا الداء أثراً في خلق تصور جديد
للحياة جعل منها أقل قيمة , و أدنى
أهمية , و سراباً يخدع الناس و يجلب لمؤمليها البؤس , و بذلك يقف أمام هذه الحياة
موقف الخصم للخصم ,فهو يدعي منازلتها ,والوقوف ضدها في تحدٍ و إصرار ,!
ومما يزيد ذلك اضطراب
حياته الاجتماعية و زواجه من امرأة -لا يميل إليها – و ذلك بعد إلحاح شديد
من والده , مع أن زين الدين العابدين السنوسي
يرى أنه كان زواجاً سعيداً موفقاً ,
و أن زوجته كانت تبذل له كل ما وهبها الله , و تشفق عليه , فإن آخرين يرون أنه كان
زواجاً فاشلاً , و ذلك بعد النظر إلى سلوكه
العاطفي في شعره , مما يدل على أنه كان
غيرَ سعيدٍ , و يميلون إلى أنه كان يحب فتاة أخرى , عشقها منذ الطفولة , لكنها
ماتت باكرا , مما أثر في نفسه أثراً أليماً تردد في أشعار الفترة الأولى من حياته
.
كما أنه فجع بوفاة
أبيه , بعد مرض ألمَّ به , مما عرضه للوهن الشديد في صحته ,و حمَّله مسؤوليات
كثيرة , و قد تناثر أثر هذا الوقع في شعر أبي القاسم , في قصيدة ( ياموت) التي رثى
بها والده :
يا
موتُ قد مزقت صدري === و قصمت بالأرزاء ظهري
و فجعتني في من أحب
=== و من إليه أبثُّ سري
و رزأتني في عمدتي
=== و مشورتي في كل أمري[2]
و لما يزلْ ينوء
بهذه المسؤلية المستجدة التي حزت فؤاده , و ألقت على كاهله المزيد من التكاليف ,
فهو إنسان حساس جداً , لا يعذر نفسه في التقصير , وهذا بادٍ في تحميل نفسه ما
لاتطيق من المسؤوليات التي تبدأ من عائلته و لاتنتهي و حسب عند مجتمعه و أمته .!
و نراه في قصيدته
(قيود الأحلام ) يقول :
لكنني
لا أستطيع فإن لي === أمًا يصد حنانُها أوهامي
و صغار إخوان يرون
سلامهم === في الكائنات معلقا بسلامي
فقدوا الأب الحاني
فكنت لضعفهم === كهفاً يصد غوائل الأيامِ[3]
لكن الشاعر استطاع تجاوز تلك المرحلة حيث تحسنت حالته المادية و شيء من
صحته كما أشار في بعض قصائده بعد ذلك ..[4]
الأسباب الخارجية :
من أهم منابع شعر الشابي هو ( ضعف الأمة ) , الموضوع الذي أشغله
كثيرا و أتعبه و انعكس على حالته الصحية التي تزداد سوءاً كلما استجد حادثٌ خارجي
, خير مثال على هذا قصيدته : ( إرادة الحياة ) :
إذا
الشعب يوماً أراد الحياة === فلابد أن يستجيب القدرْ
و لا بد لليل أن
ينجلي === و لا بد للقيد أن ينكسرْ[5]
هذه القصيدة صرخةٌ في سماء الأمة , و تنبيهٌ لها و دعوة إلى الثورة , و
هي من أشهر القصائد في العصر الحديث , مليئةٌ بالغصص و الآلام التي تعتصر فؤادَ هذا
الشاعر ,
و من قصائده التي يستصرخ فيها أمته
, ( إلى الطاغية ) :
يقولون
"صوت المستذلين خافت === و سمع طغاة الأرض ( أطرش ) أصخمُ
و في صيحة الشعب
المسخَّرِ زعزعٌ === تخرُّ لها شم العروش , و تهدمُ
لكل الويل يا صرح
المظالم من غدٍ === إذا نهض المستضعفون و صمموا[6]
فهي تضج بالحسرة , و يغمرها إيقاع شديد , تتفجر من أعماقه لتعلو في جو
السماء و يسمعها الشعب الذي من بينه حاقدون
و معادون ألداء لهذا الشاعر .!
فالعداوات الشخصية و الحسد الذي يواجهه أبو القاسم يعد عاملاً مهما في
مسيرته الشعرية , و نسج أهم قصائده ,,: ( نشيد الجبار – أو هكذا غنى بروميثيوس ) :
سأعيش
رغم الداء و الأعداء === كالنسر فوق القمة الشماءِ
أرنو إلى الشمس
المضيئة هازئاُ === بالسحب و الأمطار و الأنواءِ
و أقول للجمع الذين
تجشموا == هدمي و ودوا لو يخر بنائي
و غدوا يشبون
اللهيب بكل ما === وجدوا , ليشووا فوقه أشلائي
و مضوا يمدون
الخوان ليأكلوا === لحمي , و يرتشفوا عليه دمائي[7]
الأبيات قوية و صارخة , و تشبيهاته تعبر عن قلقه الشديد من هذه العداوات
العنيفة التي حدت بهم إلى أن يتمنوا أكل لحمه بعد شوائه و من ثم ارتشاف دمه ,
تصوير مقزز شديد الوحشية , و لا شك أن هذا قمة في العداوة التي نشبت بينه و بين
آخرين .!
كما أن المجتمع و تقاليده يعد عدوة كبرة في وجه الرومانسيين , و هم أولئك
الذين يقفون موقفا حازما ضد تلك
التركيبة الاجتماعية بما فيها من تراتبية و طبقية
. مما يضطر إلى الصدام أو الانكفاء على الذات .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق