الثلاثاء، 25 فبراير 2014

بعض الكلمات القرآنية التي وردت في مواضع متعددة واشتبهت لفظاً، وتنوعت صورها وأساليبها، ولم يرد في أي موضع منها قراءة أخرى، ووجه الإعجاز البلاغي في ذلك



بعض الكلمات القرآنية التي وردت في مواضع متعددة واشتبهت لفظاً، وتنوعت صورها وأساليبها، ولم يرد في أي موضع منها قراءة أخرى، و اوجه الإعجاز البلاغي في ذلك
إن المتدبر لكتاب الله-تعالى- ليدرك الدقة، والإعجاز في كتاب الله تعالى عندما يجد الحرف في موضعه، وكذا الكلمة في موضعها،لتأدية المعنى المراد،كما تدرك أنك لو بدّلت حرفا أوكلمة بغيرها لاختلّ المعنى؛ولا تملك إلا أن تُسَلَّمَ بأن هذا هو كلام الله-تعالى- المعجز، وسأتناول بحول الله وقوته في هذا المبحث بعض الكلمات التي وردت في أكثر من موضع، واشتبهت في اللفظ، وتنوعت بين حذف حرف في موضع، وذكره في موضع آخر، أو إبدال حرف مكان آخر، أو تقديم كلمة في موضع وتأخيرها في موضع آخر، أو إبدال كلمة بأخرى، وقد اتفق القراء جميعاً على قراءة واحدة في كل موضع دليلا على إعجاز كلام الله- تعالى ،وما أذكره ههنا ليس على سبيل الحصر،وإنما هي نماذج فقط محاولا من خلالها إبراز الإعجاز البلاغي في القراءات ،وهناك الكثير من المواضع التي تحتاج إلى بحوث مستقلة،وأسأل الله-تعالى- أن يمنحني الفهم والتوفيق والسداد؛ وفي المبحث مطلبان .
المطلب الأول
ما ورد في موضع بحذف حرف وفي موضع آخر بذكره،
ولم ترد فيه قراءة أخرى،ووجه الإعجاز البلاغي في ذلك
(1) قول الله -تعالى-:}وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ{[البقرة/49]
(2) وفي قوله-تعالى-:}وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ{[إبراهيم/6]
فقد وردت كلمة "يذبحون" في آية سورة "البقرة" بدون واو العطف،وفي موضع إبراهيم وردت بواو العطف،واتفق القراء جميعاً على ذلك، فلم ترد قراءة متواترة ، ولا شاذة بإثبات الواو في موضع "سورة البقرة"، وحذف الواو في سورة "إبراهيم".
 الفرق في المعنى بين "يُذَبِّحُون"بحذف الواو،ذكرها،والسر في ورودها في كل موضع.
(أ)-في موضع سورة البقرة " يذبحون" بغير واو على البدل من قوله: يسومونكم، قال الفراء وغيره: يذبحون بغير واو على التفسير لقوله:" يسومونكم سوء العذاب"، فلا يُحتاج إلى الواو([1]).
(ب)- أما موضع سورة(إبراهيم)-u-، ويذبحون بالواو ،لأن المعني: يعذبونكم بالذبح وبغير الذبح، فقوله: " ويذبحون أبناءكم"  جنس آخر من العذاب لا تفسير لما قبله([2]).
قال الطبري: وأدخلت الواو في هذا الموضع، لأنه أريد بقوله:" ويذبحون أبناءكم" الخبر عن أن آل فرعون كانوا يعذبون بني إسرائيل بأنواع من العذاب غيرالتذبيح، وبالتذبيح؛  وأما في موضع آخر، فإنه جاء بغير الواو" يسومونكم سوء العذاب" يذبحون أبناءكم في موضع، وفي موضع " يُقَتِّلون أبناءكم"، ولم تدخل الواو في المواضع التي لم تدخل فيها، لأنه أريد بقوله: يذبحون، وبقوله:" يُقَتِّلون" تبيينه صفات العذاب الذي كانوا يسومونهم، ([3]).ا هـ.
قلت : في موضع سورة البقرة بحذف الواو على أن" يذبحون" بدل من" يسومونكم" فههنا أدمج الحق-U- النعمتين في امتنانه علي بنى إسرائيل في إنجائهم مما كان يسومهم من سوء العذاب وتذبيحهم، وجعلها نعمة واحدة.
 أما في موضع سورة "إبراهيم"u بإثبات الواو، ففيها تفصيل لتعداد نعمٍ وامتنانٍ على بني إسرائيل بأن اللهI قدن نجّاهم مما كان يسومهم من سوء العذاب، و نجَّاهم من تذبيحهم،ففي وجود الواو تفصيل لامتنان الله-U-عليهم.                  والله أعلم
وجه الإعجاز البلاغي في ذلك
أولاً : إن ورود كلمة "يُذَبِّحون "في البقرة"  بدون واو العطف، وورودها في سورة "إبراهيم"u بواو العطف، والكلمة واحدة، والقصة واحدة، واتفاق القراء جميعا علي قراءة واحدة في الموضعين ، لدليلٌ على الإعجاز البلاغي في القراءات، حيث لا توجد القراءاتان إلا لإفادة معنًى، ولحكمةٍ أرادها الله- تعالى  وحيث إن كل كلمة في موضعها تؤدي المعنى المقصود فلم ترد قراءة أخرى،  وهذا سر دقيق من أسرار التعبير في كتاب الله- تعالى.
ثانياً : لم ترد الواو في موضع سورة "البقرة" لعل ذلك-والله أعلم-، لأن السياق ههنا يتطلب ذلك،  فالله -تعالى- هو الذي يعدد وجوه الإنعام على بني إسرائيل، وتوالي الامتنان عليهم، ليبين شنيع مرتكبهم في مقابلة ذلك الإنعام بالكفر، ولما كان الكريم- I-هو الذي يعدد وجوه الإنعام ههنا، فلم يُرِد الله تعداد المحن التي كانت نازلة بهم، وامتن الله عليهم بإنجائهم منها، فجعل الحق-تعالى- التذبيح مما يسومهم من سوء العذاب، وكأنهما أمر واحد.    
 أما في موضع سورة" إبراهيم"--، فلأن الله-تعالى- يقُصُّ علينا أن موسى-عليه السلام- هو الذي يعدد وجوه نعم الله على بني إسرائيل فقد أتى بالواو، ليشير إلى تعدد وتفصيل وجوه نعم الله عليهم في تنجيتهم مما كان يسومهم سوء العذاب،ومن تذبيحهم، وكان مأمورًا بذلك في قول الله- I:}وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ{[إبراهيم/5]
 حيث أمره الله-تعالى- أن يذكرهم بأيام الله؛ فأتى بالعاطف ليؤذن بأن إسامتهم العذاب مغايرٌ للتذبيح ،وسبْي النساء، وهو ما كانوا عليه من التسخير، فتفصيل وجوه الإنعام علاج لمرض القلوب ([4])، فسبحان الله العظيم الذي أنزل  هذا الكتاب بما فيه من تلك الدقة متناهية دلالة على أن كلام الله- تعالى- المعجز والله أعلم.



التقديم والتأخير في ذكر الكلمة و اتفاق القراء جميعا على قراءة واحدة
 ووجه الإعجاز البلاغي في ذلك .
أولاً- قال الله تعالى: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص/20]   
 وقال الله تعالى: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ  [يس/20]
حيث وردت كلمة "رجل" فاعل في الآيتين لكن الحق  تعالى ذكرها مؤخَّرة في موضع سورة" يس" بينما ذكرها في موضعها في سورة" القصص" دون تأخير، وقد اتفق القراء جميعاً على قراءة واحدة في الموضعين .
وجه الإعجاز البلاغي في ذلك .
أولاً : الفاعل حقه أن يليَ الفعل، ولا يتأخر إلا لعارض من جهة اللفظ أو من جهة المعنى، وقد تأخر الفاعل في سورة( يس) لأن المعنى يتطلب ذلك كما يأتي:
(أ)- أن مطلع سورة (يس) يبين الله  تعالى فيه لرسوله أن أهل مكة غافلون، و معرضون، ولا يُحزنك إعراضهم هذا عنك ،فإن هناك من سيؤمن بك ،و سيتبع ما أُرسلت به، ثم أمره الله   تعالى أن يضرب لهم مثلاً بأصحاب القرية، والغاية من ضرب المثل ههنا-والله أعلم-بيان أن الإيمان ليس بالبُعد ولا بالقُرب ،فقد يؤمن البعيد ولا يؤمن القريب ،حيث إن الله أرسل إلى أصحاب القرية رسولين اثنين، فكذبوهما، فعززهما بثالث، ومع كل هذا أصَُروا على عدم الاستجابة للرسل-عليهم السلام- ،فجاء هذا الرجل من أقصى المدينة،
وقدم الله الجار والمجرور (من أقصا المدينة) إشارة إلى بُعد المكان الذي جاء من هذا الرجل وإشارة إلى أن الذين قابلوا الرسل وكلموهم لم يصدقوا بما جاء به الرسل ، وهذا الرجل الذي لم يقابل الرسل-عليهم السلام- هو الذي قذف الله الإيمان في قلبه، وذلك إشارة إلى أن البُعد والقُرب ليس هوا لأصل في الإيمان، فمن باشر الرسل وشافههم لم يؤمن، فلم ينتفع بقرب الدار، وفيه إشارة إلى حال الأنصار من أهل المدينة ،فتقديم الجار والمجرور هنا (من أقصا المدينة) لبيان بُعد المكان والاهتمام بالدعوة ([5])
أما موضع سورة "القصص" فلأن بعد المكان ليس بمقصود مثل قصد بيان رجولة الرجل وشدة اهتمامه بأن يبلغ موسى u بما سمع من تآمر القوم عليه، فجاءت الآية على نَسَقها الطبيعي:} وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى{،إشارة إلى أن من سِمَاتِ الرجولة الاهتمام والسعي بما فيه مصلحة المجتمع المسلم والفرد المسلم.
ثانياً :اتفاق القراء جميعاً على تأخير" رجل " في موضعها وتقديمها في الموضع الآخر، حيث إن المعنى والسياق في كل موضع يتطلب ذلك، فلم تكن هناك قراءة أخرى؛
 وما هذا إلا هوا لإعجاز البلاغي، حيث وضَعَ الحق تعالى الكلمة في موضعها الأخص بها بحيث لو أبدلتها بكلمة أخرى وأخَّرْتَ أو قدَّمْتَ لن يكون إلا أحد أمرين :
(1) أن يختل المعنى المراد الذي يكون فيه فساد الكلام
   (2) أو ذهاب الرونق الذي يكون معه سقوط البلاغة([6]).

وبهذا يتبين لنا أن هذا الأسلوب المعجز الذي لايقدر عليه الإنس والجن متفرقين أو مجتمعين متعاونين وكان بعضهم لبعض معينا وصدق اللهتعالى   إذ يقول الله : قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء/88].



([1]) القرطبي 1/ 384 وأبو السعود 1 / 100 ، فتح القدير للشوكاني 1 / 83 .
([2]) القرطبي 1 / 385 
([3]) الطبري 13 / 185 
([4]) ينظر في ذلك البرهان في علوم القرآن للزركشي 1 / 116  ،البرهان في متشابه القرآن للكرماني 109 ، درة التنزيل وغرة التأويل للاسكافي 13 / 14  ،ملاك التأويل للغرناطي 1/ 197 ، 198.
([5]) ينظر ملاك التأويل للغرناطي 2/ 905 ، 906 بتصرف  
([6])بيان إعجاز القرآن للخطابي 29 .    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق