الخميس، 20 فبراير 2014

دانتي اليجييري Dante Alighieri



 أعلام الفكر الأوربي الحديث
في مطلع عصر النهضة
حفل عصر النهضة بعدد من صفوة المفكرين الأوربيين بسطوا آراءهم في الحكم والسياسة والمجتمع والاقتصاد والدين في مؤلفات لا تزال تعتبر مصادر يستقى منها الباحثون في النظريات والأنظمة السياسية والدستورية وغيرها من نواحي المعرفة مادتهم العلمية عن عصر النهضة , وتعتبر هذه المؤلفات من أروع ما خلفه هذا العصر من تراث للإنسانية . وقد آثرنا أن نعرض عرضاً سريعاً موجزاً ثلاثة من أولئك الأعلام , هم على حسب ترتيب ظهورهم : دانتى , مكيافيلي , توماس مور.

دانتي اليجييري :
ولد دانتي اليجييري Dante Alighieri في مدينة فلورنسا , ودرس في بادوا وبولونا في شبه الجزيرة الإيطالية ثم في باريس . وقد زج بنفسه في الحياة السياسية في فلورنسا حيث عين في يونيو  عضواً في مجلس المائة ثم مستشارا0 , وبقي في هذا المنصب شهرين , وهو الحد الأقصى لشغل هذا المنصب طبقاً لنص دستور فلورنسا . وقد كان يشوب الحياة السياسية في فلورنسا منازعات طبقية عنيفة بين النبلاء والأثرياء من جهة , وأفراد الطبقة الدنيا من جهة أخرى . وكانت هناك تجمعات سياسية مختلفة في أهدافها ووسائلها واتجاهاتها . وحدث أن تغلب أنصار البابا على أنصار الإمبراطور الألماني , ورأى الألوان نفى دانتي , فهام على وجهة ينتقل من مدينة إلى أخرى مثل بادوا وفيرونا وأوديني ثم رافنيا حيث لفظ أنفاسه الأخيرة .
ودانتي من رواد اللغة الإيطالية ألف بها معظم إنتاجه الأدبي. وقد قسم اللغة الإيطالية إلى لغتين لغة عامية Locutio Vulgaris , ولغة مظاهر النهضة الحديثة و وطالب بضرورة إخضاع هذه اللغة الفصحى لقواعد النحو والصرف.
وباللغة الإيطالية نظم دانتي قصائد عاطفية جعلته من أعلام الشعر والأدب في نظر معاصريه وغيرهم , وأطلق على هذه القصائد اسم ديوان الأغاني Canzoniere ومنها قصيدته ( الحياة الجديدة ) . وقد اعتزل الحياة واتخذ دانتي من النفي فرصة لزيادة حصيلته الثقافية فغذى منهوماً بالقراءة , وتعمق في المطالعات الإغريقية واللاتينية وأخرج الكوميديا الإلهية Divina Commedia([1]) تكلم فيها عن زيادة خيالية قام بها للجحيم والجنة , حادث في أثنائها النزلاء فيهما من رجال الأدب والعلم والدين والسياسة , وحرص على أن يذكر أنه قابل معبودته بياتريش.
والأساس في الكوميديا الإلهية هو الرغبة الدينية الشديدة في معرفة أسرار الحياة الأخيرة ولقد كانت هذه الفكرة قد استهوت عقول الكثيرين في العصور القديمة والوسطى , غلا أن الكوميديا الإلهية لا تتميز بطابعها الخيالي فحسب , بل بعبقريتها وعمق فكرتها وروعة خيالها مما أفرد لها مكاناً مرموقاً في التراث الأدبي العالمي.
وقد نجح دانتي في تصوير العدالة الإلهية يوم الحشر أروع تصوير . فعدالة الله سبحانه وتعالى عدالة مطلقة لم تفرق بين الأمير الثري وبين الشخص الفقير . والمناصب مهما سمت لم تعصم شاغليها من الحساب الدقيق , فمنهم من تردى في نار جهنم , ومنهم من تمتع بنعيم مقيم في جنات الفردوس . والجحيم في تصوير دانتي يزخر بعدد من الباباوات ومن إليهم من رجال الدين , وكذلك بعدد من رجال السياسة.
وتنقسم الكوميديا الإلهية إلى ثلاثة أقسام : الجحيم , والأعراف, ويطلق البعض عليه المطهر , والفردوس , وهذه الأجزاء الثلاثة تضم مائة أنشودة : أربعاً وثلاثين للجحيم , وثلاثاً وثلاثين لكل من الأعراف والفردوس .
استهل دانتي وصف زيارته للجحيم بقوله إنه وهو في الخامسة والثلاثين من عمره ضل الطريق في غابة موحشة مظلمة كثيفة الشجر , وفوجئ ببعض حيوانات مفترسة نهمة تخرج عليه , فاستولى عليه الرعب من هول المفاجأة , ولكن سرعان ما لمح شبحاً يقترب منه , فإذا هو شخص تبدو عليه أمارات صمت استطال أمده فأفقده القدرة على الكلام بسهولة , والتمس دانتي منه إنقاذه من موت محقق . وتبين له أن هذا الشبح ليس إلا الشاعر اللاتيني الوثني فرجيليو Virgilio  الذي هدأ من روعه , وأبلغه انه موفد من لدن بياتريش عشيقة دانتي لينقذه من الوحوش أولاً , ثم يصحبه إلى الجحيم , ثم إلى الأعراف ( المطهر ) حيث تكون عشيقته في انتظاره وتأخذه إلى الجنة .
ولما وصل دانتي إلى الجحيم وجد مكتوباً على بابها هذه العبارات ( الطريق إلى حيث يحشد القوم المجرمون ,أنا عدالة الخلاق العظيم , صنعتي يد القدرة الإلهية والحكمة السامية والحب الأزلي , لم يسبق وجودي غير . الكائنات السرمدية , ولقد كتب على الخلود . أيها الداخلون من بابي , اتركوا كل أمل).
دخل دانتي جهنم يصحبه مرشده الشاعر الوثني فرجيليو , وجلسا في زورق سار بهما في نهر يمتد إلى طبقات جهنم ودركاتها , ووصف دانتي كل درك فيها , ونظر إلى النزلاء الذين رآهم في جهنم , فإذا هم أرواح الرهبان الذين باعوا صكوك الغفران للناس بالأموال وجعلوا منها تجارة رابحة لهم , وهؤلاء وجدهم على صورة مفزعة , فقدغرست رءوسهم في الأرض بينما اشتعلت أقدامهم نارا, وقابل المنجمين والعرافين الذين خدعوا الناس بإدعائهم كشف حجب الغيب , ومرتكبي الخيانة الزوجية من الجنسين , والذين خانوا أوطانهم , والمرتشين من رجال القضاء , واللصوص وقطاع الطرق , والذين يغتابون الناس , ومزيفي النقود , والمسرفين والبخلاء وأهل البدع , والعائبين في الذات الإلهية , والمصابين بالشذوذ الجنسي , ومن إليهم من النماذج البشرية . ورأى دانتي أرواح هؤلاء الناس تتعرض لعذاب متنوع يتفاوت شدة وعنفاً واعتدالاً . وقد رأى في جهنم العلماء والفلاسفة والشعراء الذين لم يدركوا عصر المسيحية فعاشوا في عصور الوثنية , ولكنهم كانوا يحيون في حياتهم الدنيا حياة فاضلة , ولذلك كان عذابهم يسيراً , وحسبهم حرمانهم من رؤية الله . اما غيرهم فكان ينزل عليهم شواظ من نار دون انقطاع وهم راقدون على رمال محرقة في أوضاع مختلفة . ورأى في جهنم إبليس , ويهوذا الذي خان المسيح , كما شاهد بروتوس وكاسيس اللذين خانا ولي نعمتهما يوليوس قيصر , كما لاحظ أن جهنم عامرة بعدد من الباباوات.
ومن الجحيم انتقل دانتي ومرافقة إلى سور الجنة وهو الأعراف أو المطهر . ولما بلغاه شعرا بطمأنينة وهدوء واستنشقا هواء نقياً تحت زرقة السماء الصافية , ونزلا في مياه بحر مجاور لهما تطهرا فيه , ولمحا زورقاً يتلألأ نوراً يقترب منهما , ونزلت منه أرواح كثيرة تستحم في مياه البحر لتطهر من أدرانها قبل دخولها الجنة . ووصف الأعراف متكوناً من سبع دوائر تختص كل واحدة منها بخطيئة من الخطايا السبع الكبرى التى أشارت إليها المسيحية ( المتكبرون , والحاسدون , وأهل الخمول والكسل , والبخلاء , والمسرفون , وأولو الشر , والنهم ) . وعبر دانتي ومرافقه سوراً من اللهب ضرب بين الأعراف والجنة ووجد أجمل البساتين تفوح منها رائحة الورود والأزهار .
واختلفت آراء الباحثين حول الأهداف التي توخاها دانتي من تأليف الكوميديا الإلهية , وتتجلى في الكوميديا الإلهية صور الصراع بين العصور الوسطى المتجمدة وبين روح النهضة المتحررة , فالمؤلف يتمشى تارة مع روح الكنيسة , حين يتحرج عن وصف ملامح وأجسام بعض السيدات , وتارة اخرى يخرج على تعاليم الكنيسة , حين يضع في جهنم بعض البابوات , وحين يضع في الجنة بعض الناس وكان مكانهم في جهنم من وجهة نظر الكنيسة . وقد تراءت الكنيسة الكاثوليكية لدانتي مهتزة اهتزازاً عنيفاً : فقدت قدرتها على الخير واستشرى الفساد بين رجالها بسبب رغبتهم الجامحة في الجري وراء الثروات وفي السيطرة الدنيوية .
لقد قيل إن دانتي قد سلخ قرابة ثمانية عشر عاماً في وضع الكوميديا الإلهية , وقد جاءت بمثابة موسوعة او دائرة معارف مصغرة صب فيها بأسلوب جذاب شتى أنواع العلوم والمعارف من مذاهب فلسفية واتجاهات سياسة ومبادئ دينية مر بها المجتمع على توالي العصور والأحقاب . فهي ثمرة لقاء فكري بين الثقافات العربية والمسيحية واللاتينية والإغريقية . ولكن يظهر فيها بوضوح أثر التراث الشرقي العربي الإسلامي , فقد دانتي الكثير من هذا التراث الذي كان قد انتشر في أوربا طولا وعرضاً منذ استيلاء العرب على أسبانيا , وسرعان ما غدت الأندلس معبراً رئيسياً من معابر الثقافة العربية الإسلامية تشق طريقها إلى أوربا منذ أواخر القرن الحادي عشر للميلاد تضئ ظلمات الحياة العقلية والفكرية أمام الأوربيين في العصور الوسطى ولتمهد الطريق لقيام النهضة الأوربية.
وقد وضع دانتي باللغة اللاتينية رسالة ( الملكية ) de Monarchia وقد قرر فيها أن الحرب هي آفة التقدم , وأن السلام العالمي يجب أن يكون هدف السياسة . وذهب إلى أن مصدر الشرور والنكبات في الماضي والحاضر هو طموح رجال الدين وتطلعهم إلى الاستئثار بسلطات دنيوية وتجميع ثروات عريضة مما لا يتفق مع رسالتهم , وقرر أن إصلاح الكنيسة يجب أن يبدأ بنشر روح التقشف والقناعة بين رجالها . وفضلاً عن هذه الآراء التي تضمنتها رسالة دانتي , فقد أشار فيها أيضاً إلى فكر سياسي معين : هو أن قيام الدولة العالمية أمر لامناص منه لتحقيق السلام العالمي الذي يجلب معه الخير والسعادة للبشرية . ولكنه رأى ان هذه الدولة العالمية يجب تكون الإمبراطورية الرومانية المقدسة , واشترط ألا يستمد إمبراطورها لقبه ونفوذه من البابا , بل يستمدها من الله سبحانه وتعالى مباشرة ودون أن يخضع هذا الإمبراطور لسلطان البابا على أي نحو من الأنحاء . ومما هو الجدير بالذكر أنه لم يمض وقت طويل حتى غدت هذه الرسالة ( الملكية ) سلاحاً في الجدل السياسي الذي نشب بين لويس ملك بافاريا وبين البابا يوحنا الثاني والعشرين . وقد أحرق مندوب البابا هذه الرسالة علناً .
وقد وضع دانتي باللغة الإيطالية كتاباً اسمه الوليمة ll Convivio عالج فيه موضوعات شتى في السياسة والحكمة والأخلاق والحب . وله مؤلف آخر باللغة الإيطالية أيضاً يسمى العامية الفصحى De Vulgaris Eloquenta وتتخلص الفلسفة السياسية في مؤلفات دانتي في أن مثله الأعلى في نظم الحكم السياسة هو الإمبراطورية الرومانية المقدسة , وأنه كان لا يجيد قيام النظام الجمهوري , وأن هدفه سيطرة القانون لا الحرية.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق