الخميس، 27 فبراير 2014

دراسة أدبيه لمسرحية مجنون ليلي لاحمد شوقي



دراسة أدبيه لمسرحية مجنون ليلي  لاحمد شوقي
هذه هي المسرحية الثانية التي قدمها شوقي الى الجمهور بعد عودته الى الكتابة للمسرح في الفترة الأخيرة من حياته . وهي أولى مسرحياته التي أتخذت مادتها الأولية من التاريخ العربي. وقد أدارها حول قصة الشاعر قيس ابن الملوح وحبه لليلى، هذه القصة التي حفتها بعض الأساطير، ولكنها كانت وما تزال من أروع صور هذا الحب العذري الذي اشتهر في بوادي نجد والحجاز أيام لعصر الأموي.
وقد اعتمد المؤلف على أهم الروايات التي تحكى قصة هذا الشاعر، والتي يضمها كتاب "الأغاني" والتي تقول ان قيسا كان يهوى ليلى منذ حداثتيهما وهما يرعيان غنم الأهل، وانه انشد في حبها شعرا كان السبب – فيما بعد – في أن رفض أبوها زواج قيس منها، وذلك على عادة العرب، في عدم تزويج الفتاة ممن يشبب بها. وكان هذا الحب المبرح المحروم سببا في ضعف قيس جسميا وعقليا، حتى هام في بوادى نجد مخبلا، لا ينبهه الا سماع اسم ليلى، ولا يجذبه الا الحديث عنها. ورغم سعى بعض المشفقين على قيس لدى أهل ليلى؛ قد خابت كل محاولة في التغلب على رفض زواج الحبيبين، ثم زوجت ليلى لرجل آخر كان قد تقدم الى أهلها، ولكنها ما فتئت تعانى آلام الحب، حتى ضنيت ثم ماتت. كل هذا وقيس يهيم على وجهه في البادية ولا يجدى شيء في ارجاع رشده اليه. حتى اذا ما علم بموتها مات هو الآخر. بعد أن قال في صاحبته وفي حبه وفي عذابه من أجل هذا الحب، أشعارا تعد من أصدق وأرق وأحر ما قيل من شعر في هذه العاطفة النبيلة.
ولم يهمل المؤلف ما يفيد موضوعه من الأساطير التي نسجت حول هذه القصة، بل اختار منها ما يرى أنه يصلح للمسرحية في روعة مشاهدها ونمو أحداثها، والتعبيرعن نفوس أبطالها. وهكذا مزج بين الأخبار وأساطير، مختارا من هذه وتلك ما يؤلف مسرحية تاريخية شعرية، موضوعها الحب العنيف العفيف واصطدامه بالتقاليد، وسقوط البطلين شهيدين لهذا الحب، وبيد تلك التقاليد.
وكان هدف المؤلف من هذه المسرحية هو الاشادة بالنبل العربي، والتغني بسمو العرب وتضحياتهم بحياتهم في سبيل نبيل العواطف، أو من أجل رعاية التقاليد، كما حدث لقيس، وكما جرى لليلى.
وقد قدم شوقي قصة المجنون في خمسة فصول. ففي الفصل الأول نشهد مجلس سمر أمام دار ليلى، حيث يتحدث بعض الفتيان والفتيات عن اخبار السياسة في الحضر والبادية، ثم يتطرق الحديث الى قيس، ويروى بعضهم قصته مع الظبي الذي رآه يشبه ليلى، والذي تعرض له ذئب فصرعه وأكل بعضه، فرماه قيس بسهم فقتله وبقر بطنه وأخرج من جوفه ما اكل من الظبي ودفنه. ثم يرجو ابن ذريح ليلى أن تعطف على قيس، فتجيبه بأنها في حيرة من أمرها بين الحب لقيس والحفاظ على عرضها الذي مسه تشبيبه.. ثم نرى قيسا يناجي ليلى بعد أن ينفض المجتمعون للسمر، ويكون قد جاء متعللا بطلب قبس من النار، حتى اذا ما جاءت له بما طلب، دخل معها في نجوى غرامية يذهل معها عن نفسه حتى تحرق النار بعض ملابسه وتنفذ الى لحمه. ثم يأتى المهدى والد ليلى ويعاتبه على ما كان منه، وينصرف قيس.
وفي الفصل الثاني تظهر بلهاء الجارية تحمل ذبيحة قرأ عليها العراف بعض التمائم لكي يأكل قيس قلبها ويشفى مما فيه، ولكن قيسا لا يأكل شيئا؛ لأن الذبيحة منزوعة القلب. ويظهر بعض الغلمان متغنين بشعر قيس، ومنهم من يناصره ومنهم من يعاديه، ويبدو قيس في الطريق مغمى عليه مخبلا، ويراه ابن عوف – أحد رجال الدولة – فيشفق عليه، وحين يسمع قيس اسم ليلى يصحو، ويتعهد له ابن عوف أن يأخذه الى آل ليلى ليتوسط له لديهم.
وفي الفصل الثالث نرى ركب الوسيط ابن عوف يبلغ حي آل ليلى، ويلتقى ابن عوف بوالد ليلى الذي يعاتبه على وساطته، ويريد منازل – غريم قيس – أن يثير القوم على العاشق ليقتلوه. ولكن زيادا – نصير قيس – يكشف "منازل" ويبين انه لا يحب ليلى ولا تحبه، فهو حاقد على الحبيبين مغرض في دعوته الى الانتقام… وتحت الحاح ابن عوف ومناشدته، يسأل ليلى أبوها في حضرة ابن عوف عن رأيها في الزواج من قيس، فترفض رعاية للتقاليد، وتقبل الزواج من "ورد" الذي علمت أنه تقدم لخطبتها، وينصرف ركب ابن عوف بعد فشل الوساطة.
وفي الفصل الرابع نرى قيسا في عالم الجن، الذي يصور عالمه العقلي المخبول. ويدله شيطانه على الطريق الى حي ليلي الذي تزوجت فيه. ويرى قيس وردا زوجها الذي يمهد له سبيل اللقاء بليلى كرما منه وسماحة.. وفي هذا اللقاء المنفرد يعرض قيس على ليلى أن تهرب معه انقاذا لجيبها، ولكنها ترفض رغم حبها له ورعاية للتقاليد، وهنا يثور قيس ويتركها وينصرف غاضبا. وتستشعر ليلى انها آذت قيسا، ويتضافر هذا الشعور مع حبها المبرح حتى يقودها الى منيتها. ويتخلل هذا الفصل منظر غنائي راقص وهو منظر عالم الجن.
وفي الفصل الخامس يبدو قبر ليلى طوائف المعزين الذين يتوافدون على أهلها لمواساتهم. ويكون من هؤلاء المعزين بعض المغنين والشعراء كالغريض وابن سعيد. وينشد الغريض نشيد وادى الموت، ثم ينصرف الجميع. وعلى أثر ذلك يظهر قيس وحده، فيعلم بوفاة ليلى من بشر، فيغمى عيه وهو وحيد منفرد، ويحتضر، ثم يظهر ابن ذريح يرثي ليلى، ويحضر موت صاحبها.
وقد حفلت المسرحية بالمواقف "الدرامية" والغنائية الجيدة، التي تآزرت – مع الشعر الرائع – على جعل هذه المسرحية أنجح مسرحيات شوقي جميعا. وقد ساعد على ذلك أن القصة قصة حب انساني رفيع، وأن البطل شاعر شهير، وأن طرف القصة موضع عطف يجذب اليها المشاعر، ويحني عليهما القلوب. كذلك ساعد على نجاح هذه المسرحية، أن كون البطل شاعرا قد أباح للمؤلف ان يجري على لسانه قطعا شعرية رائعة في المناجيات والشكايات الأوصاف والتأملات، دون أن يخل ذلك بالبناء الفني للمسرحية، او يسبب ابطاء حركتها أو اقحام الغنائية عليها، كما حدث في مصرع كليوباترا مثلا. وذلك لأن مثل هذه الأشعار الغنائية في مجنون ليلى من شأنها أن تجري على لسان شاعر، وشاعر محب مدله هائم كمجنون ليلى.
وقد كان المؤلف موفقا حين جعل نصب عينيه – في كثير من الأحيان – شعر البطل نفسه، فكان يعتمد على معانية حينا، كما كان يقتبس بعض نصوصه حينا آخر ، مما جعله أكثر تعبيرا عن حقيقة البطل وواقعه التاريخي والنفسي.
بل ان بعض تلك الأشعار الكثيرة التي أجراها شوقي على لسان بطله، قد لعبت دورا مهما وأساسيا في مسار الأحداث، فهي التي حالت دون زواج الحبيبين، وسببت الأزمة، وهي – في الوقت نفسه – التي كسبت للبطل كثيرا من الأعوان والوسطاء، وأهوت اليه القلوب، شخصيات عديدة في المسرحية، وقلوب آلاف وفيرة من القراء والمشاهدين.
ثم لأن الموضوع عربي، كان اجراء الشعر على ألسنة الشخصيات أكثر ملائمة وأقرب الى الطبيعة.
وحتى المشاهد الغنائية والانشادية، كانت في هذه المسرحية أجود وأكثر التصاقا ببنائها وأعظم خدمة لجوها.
ولا ينسى من عوامل نجاح هذه المسرحية وروعة بعض مواقفها، ما كان من ازدياد خبرة المؤلف وافادته من نقد النقاد لكتابته المسرحية السابقة على هذه المسرحية.
غير أنه يؤخذ على "مجنون ليلى" أن المؤلف قد أعتمد على بعض الحكايات غير المعقولة، والتي لا تخدم المسرحية ولا هدفها. مثل حكاية احتراق قيس بالنار وهو لاه عن نفسه أثناء حديث له مع ليلى، حتى مست النار لحمه.
ومثل قصة رفض قيس أن يطعم من شاة لأنها كانت منزوعة القلب.
ومثل حكايات كثرة اغمائه وافاقته، التي تظهره متهافتا ضعيف الشخصية في بعض الأحايين .
كذلك يؤخذ على هذه المسرحية أن المؤلف قد جعل بعض الشخصيات تتصرف تصرفات مخالفة للعرف. فمثلا نرى (ورد) في المسرحية – وهو زوج ليلى – يبيح لقاء قيس واختلاءه بصاحبته في بيت الزوجية، وهذا غير مألوف ، مهما قصد به الاشادة بنبل العرب وسماحتهم. ووالد ليلى حين يتقدم اليه ابن عوف ملحا في اتمام زواجها من قيس، يترك الخيار لها لتبدى رأيها، فترفض ايثارا للتقاليد، وهذه من المبالغات المفرطة، مهما أريد الاشادة بمنح الأب العربي الحرية للبنت، ومهما قصد الى الاشادة برعاية البنت للتقاليد. وليلى في مشهد سمر ليلي نراها تقدم ابن ذريح لصواحبها وتقدمهن له، تماما كما تفعل الفتيات الحضريات في العصر الحديث في بعض النوادي أو حفلات السمر.
وكل هذا مما يخرج المواقف عن طبيعتها المألوفة، ويصرفها عن توقعاتها المنتظرة.
ومأخذ اخير على "مجنون ليلى" وهو أن الصراع النفسي فيها ليس واضحا بالقدر الذي كان من الممكن أن يتحقق. ففي المسرحية مواقف تتيح فرصة تجلية هذا الصراع، وبيان كيف تتصادم المشاعر في داخل النفس الانسانية. ومن أهم هذه المواقف موقف ليلى، وقد عرض عليها ابداء رأيها في الزواج من قيس. فان المؤلف قد جعل البطلة تعبر في يسر وايجاز عن رفضها ايثار للتقاليد، وكل ما نحسه منها هو مجرد الندم على هذا التصرف .
بينما كان من الممكن في هذا المجال تصوير صراع الحب والتقاليد في أعماقها، واصطدام صوت القلب بصوت العقل في داخلها، وحرب العرف الجامد للتطوير المرن في وجدانها. ووسائل تجلية هذا الصراع كثيرة يعرفها المتمرسون بصناعة الكتابة المسرحية، فهناك النجوى الداخلية للذات، وهناك الافضاء والمسارة الى من يؤتمن على السر، ثم هناك الحلم، وما الى ذلك من الوسائل التعبيرية المسرحية الكثيرة.
وربما كان اهتمام شوقى بالوصف والعرض الخارجي، أكثر من اهتمامه بالتحليل والاستبطان الداخلي، راجعا لرغبته في ان يمزج بين التمثيل والغناء، وعدم رغبته في التمثيل وحده. ومن هنا لم يطالب نفسه بهذا التعمق التحليلي الذي يطالب به مؤلفو المسرحيات الخالصة أنفسهم. وربما كان من الانصاف أن ينظر الى مسرحيات شوقي الشعرية من هذه الزاوية. وفي هذا الاطار تعتبر "مجنون ليلى" من أروع مسرحيات شوقي ، ومن خير المسرحيات الشعرية في الأدب المصري الحديث. هذا بالاضافة الى ما لها ولأخواتها من فضل الريادة في ميدان الأدب المسرحي الشعري.
وهذا مشهد في "مجنون ليلي" حيث يلتقي قيس وصاحبته في دار "ورد" بعد أن تزوجت – كارهة ومضحية – من هذا الأخير، وحيث أتاح "ورد" هذا اللقاء سماحة منه ورحمة بالمجنون:
ليلى: أحق حبيب القلب أنت بجانبي أحلم سرى أم نحن منتبهان
أبعد تراب المهد من أرض عامر بأرض ثقيف نحن مقتربان
قيس: حنانيك ليلى، ما لخل وخلة من الأرض الا حيث يجتمعان
فكل بلاد قربت منك، منزلي وكل مكان أنت فيه، مكاني
ليلى: فمالي أرى خديك بالدمع بللا أمن فرح عيناك تبتدران
قيس: فداؤك ليلى الروح من شر حادث رماك بهذا السقم والذوبان
ليلى: تراني اذن مهزولة قيس؟ حبذا هزالي ومن كان الهزال كساني
قيس: هو الفكر ليلى، فيمن الفكر؟
ليلى: في الذي تجنى
قيس: كفاني ما لقيت كفاني
ليلى: أأدركت أن السهم يا قيس واحد وأنا كلينا للهوى هدفان
كلانا قيس مذبوحٌ قتيل الأب والأم
طعينان بسكين من العادات والوهم
لقد زوجت ممن لم يكن ذوقي ولا طعمي
ومن يكبر عن سني ومن يصغر عن  علمي
غريب لا من الحي ولا من ولد العم
ولا ثروته تربي على مال أبي الجم
فنحن اليوم في بيت على ضدين منضم
هو السجن وقد لا ينطوي السجن على ظلم
هو القبر حوى ميتين جارين على الرغم
شتيتين وان لم يبعد العظم من العظم
فان القرب بالروح وليس القرب بالجسم
قيس" تعالي نعيش ياليل في ظل قفرة من البيد لم تنقل بها قدمان
تعالي الى واد خلي وجدول ورنة عصفور وأيكة بان
تعالي الى ذكرى الصبا وجنونه وأحلام عيش من دد وأمان
فكم قبلة ياليل في ميعة الصبا وقبل الهوى ليست بذات معان
أخذنا وأعطينا اذا البهم ترتعي واذ نحن خلف البهم مستتران
ولم نك ندري يوم ذلك ما الهوى ولا ما يعود القلب من خفقان
منى النفس ليلى قربى فاك من فمي كما لف منقاريهما غردان
نذق قبلة لا يعرف البؤس بعدها ولا السقم روحانا ولا الجسدان
فكل نعيم في الحياة وغبطة على شفتينا حين تلتقيان
ويخفق صدرانا خفوقا كأنما مع القلب قلب في الجوانح ثان
تنفر ليلى:
ليلى: وكيف؟
قيس: ولم لا؟
ليلى لست قيس فاعلا ولا لي بما تدعو اليه يدان
قيس: أتعصينني يا ليلى؟
ليل: لم أعص آمري ولكن صوتا في الضمير نهاني
وورد يا قيس؟، ورد ما حفلت به لقد ذهلت فلم تجعل له شان
(قيس)غاضبا:
تعنين زوجك يا ليلى؟
(ليلى (منكسة رأسها:
نعم
قيس: ومتى أحببت وردا؟ ترى أحببته الآنا
ليلى: فيم انفجارك؟
قيس: من كيد فجئت به.
ليلى: اني أراك أبا المهدي غيرانا
أجل هو الزوج فاعلم قيس أن له حقا على أؤديه وسلطانا
قيس: اذن تحاببتما؟
ليلى: بل أنت تظلمني فما أحب سواك القلب انسان
ولست بارحة من داره أبدا حتى يسرحني فضلا واحسانا
نحن الحرائر ان مال الزمان بنا لم نشك الا الى الرحمن بلوانا
قيس: بل تذهبين معي
ليلى: لا، لا أخون له عهدا، فماحاد عهدي ولا خان
فتى كنبع الصفا لم يختلف خلقا ولا تلون كالفتيان ألوانا
(قيس )متهكما:
أراك في حب ورد جد صادقة وكان حبك لي زورا وبهتانا
ليلى: قيس
قيس: خارجا:
اتركيني بلاد الله واسعة غدا أبدل أحبابا وأوطانا
(يحاول أن يتركها فتمسك به ليلى(
ليلى: العقل يا قيس
قيس: لا، خل الرداء دعي
ليلى: وارحمتاه لقيس عاد كانا
(ثم يفلت منها ويندفع الى سبيله تاركا اياها باكية في هيئة استعطاف .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق