الجمعة، 21 فبراير 2014

اللغة العربية في المغرب



اللغة العربية في المغرب
                     للأستاذ: عبد الله الجراري

حدثنا التاريخ وقرأنا له ـ أن حركة الفتح الإسلامي بهذه الرقعة المغربية الطيبة ـ كان التراب إليها في مسيس الحاجة الملحة لأسباب شتى و داواعي دينية واقتصادية واجتماعية وثقافية فشاءت الأقدار وقضت الحكمة أن يؤم المغرب رسل من أبناء الشرق العربي يحملون معهم رسالة الحضارة الإسلامية بكل ما تحمله معانيها المقدسة وتزخر به مدلولاتها الروحية رغبة في التمدين ، ونشر الوبة  الإسلام الخفاقة على ربوعه المشرقة، ونسخ كل ما كان يجري في أصقاعه المترامية الأطراف من ملل  ونحل وعادات وعبادات تلونت خرافاتها، وتعددت أساطيرها تحت أعاصير التطاحن الملي من جهة، والتهم التوسعي المنافس من جهة أخرى، وبعد مناوشات ومغامرات أذعن سكان المغرب الأصليون في مجموعهم إلى الرسالة الخالدة التي كونت منهم أخوة في الدم والدين والعادات فانضمت طائفة منهم إلى جيوش الإسلام غازية مجاهدة في نواحي المغرب الأقصى والأندلس وما يليه، رغم أن المعظم لم يدخل هذا الدين من علم وفهم، وإنما عن إعجاب بالعرب، أو طمع في الغنيمة أو فرارا من الجزية وارتفاعا بأنفسهم إلى مرتبة المسلمين أصحاب الدعوة والدولة، بيد أن العقيدة الإسلامية لما تغلغلت في نفوسهم بعد، وتمكنت فيهم تعاليمها الحرة اخلصوا لها عن صدق وإيمان.
وقد قرأنا للتاريخ أن سكان التراب المغربي انحدروا من الشرق العربي عبر مصر الشقيقة وعمروا بقاعه الخصبة كما هي فكرة محققي التاريخ وكتبته في القديم والجديد. وبطبيعة هذا الاقتراب قد حلوا فيها بما لهم من أعراف وعادات ومألوفات هي إلى الشرق أمس منها بسواه فكان هذا من ادعى الأسباب وتقارب الأشباح في اتصال النفوس والأرواح، وتسهيل الحاجات واطمئنان المفتوح للفاتح في كل الماجريات والمطامح دينيا وتمدينيا.
فتح المغرب صدره لأبناء العروبة الفاتحين متعاونا معهم على نشر العقيدة الإسلامية وبث مبادئنا السامية، وتنوير أفكار السكان الأحرار بتعاليمها المشرقة والمطبوعة بطابع ديموقراطية الإسلام الحق الحافز لهم في نفس الوقت على تلقي هذا الدين الجديد دين السماء الحنيف بكل انطلاق وانشراح خصوصا وقتما اخذوا يطبقون تعاليمه في أحوالهم الشخصية والاجتماعية، وكل يهدف إلى الحياتين الدنيا والأخرى عملا بكلمة الرسول الجامعة: (اعمل لدنياك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا) وقد لمسوا بحق في هذه الأثناء يسر سبيله القومية وانطلاقه المرح في وجه المتمسكين بتعاليمه ذات اليمن والسهولة مما حببه إلى القلوب أكثر من المتوقع حوافز ضاعفت من رسل الدين الجديد لأول الفتح نشاطهم نحو نشر الشعائر المقدسة في الأوساط المؤمنة والتنازل لتبسيط ما آتى به الرسول الأعظم من كتاب وسنة على النموذج الذي قام به الرسول نفسه في تبليغ الرسالة وهداية البشر إلى الطريق السوي والصراط النازح عن مساوئ المجوسية وأساطير الشرك، وأوهام الافاكين والخرافين
ومن وراء هذا الانبعاث الجديد، والطفرة الموقفة اللتين فاز المغاربة فيهما بوثبات ثابتة على محكم صراط ـ فكر المسلمون وبناة قواعد الدين تفكيرا جديا في
   دعوة الحق، س.2، ع4 /يناير 1959                                                                                ص 34
إخوانهم البرابرة من الناحية الثقافية أو التعليمية بتعبير أقرب للوضعية التي كان الإخوان عليها لأول عهدهم بالإسلام حيث جاء دور تعرف دينه الحنيف وتفهمه وتعلم لغته.
فالتف البربر بإخوانهم العرب يأخذون عنهم ما هم بحاجة إليه بخصوص هذين الناحيتين غير أنهم ويا للأسف لم يجدوا من الحكومة الإسلامية عناية بارزة بهذا المشروع الهام، كأنهم يرون أهم منه ـ ما يتطلبه الفتح من تعبئة للمراكز على اختلاف جهاتها وأفكار أبنائها وليس هذا بدعا في المغرب فنفس الظاهرة ما وقع في الشرق العربي وما إليه أثناء الفتح الإسلامي الأول حيث اشتغلت الحكومات الإسلامية بالفتوحات وبث أصول العقيدة في نفوس الجدد من الذين قدر لهم اعتناق الدين الإسلامي الطاهر.
نعم فمن ألطاف الله جلت قدرته أن الهم الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز فبادر رحمة الله عليه للأمر بتعليم البربر الإسلام بمجرد جلوسه على عرش الخلافة سنة 99 هـ ـ فوجه عشرة من التابعين وصلحاء العرب لتعريف الناس بأمور دينهم، وكأن من بين هؤلاء المعلمين حبان بن ابن جبلة كما نص على ذلك أبو العرب محمد ابن تميم في تاريخ إفريقية، ولم يكن للراغبين في الإسلام من أهل المغرب مفر من اللجوء في تعرف أمور الدين إلى العرب رسل الرسالة وهداة الشعوب.
ثم لم يكن الحجر الأساسي للعروبة بالمغرب من وضع الدولة الادريسية ـ فقد وجدت هذه الدولة المغرب لابسا حلة العروبة مغمورا بتقاليد العرب منذ أزيد من قرن إذ كانت به دول عربية ـ كدولة بني منصور بالريف التي أقامها صالح بن منصور الحميري فإنه لم يكد يفتح تمسمان حتى أقطعه إياها الوليد بن عبد الملك ـ فأسس دولة في المغرب سميت بعد ذلك بدولة بني صالح أو مملكة نكور، وظلت هذه الدولة قائمة الأركان ثلاثة قرون ساهمت أثناءها في نشر اللغة العربية لا في الريف وحده بل باقي ربوع المغرب حيث رفعت لواء المذهب المالكي. وقاومت تيار الخوارج في صف الأدارسة أضف إلى ذلك دولة بني مدرار بسجلماسة، وهاتان الدولتان وإن كانتا بربريتي الأصل ـ فقد كانتا من أنصار العربية كما لمح لذلك فيلسوف التاريخ عبد الرحمن بن خلدون، وكذلك بنو عصام أصحاب الدولة والصولة بسبتة التاريخية العظيمة التي اعتصى استرجاعها على دول ودول حيث ستكون معجزة إرجاعها إلى حظيرة العز والسؤدد من مزايا دولتنا العلوية الفاخرة، ومن نصيب الجالس على العرش بطل التحرير محمد الخامس دام تأييده، وهؤلاء البلغواطيين وعلى رأسهم الطاغية صالح بن طريف عندما أردوا المروق من الدين، افتعال قرآن يعارض القرآن العظيم، لم يجدوا مندوحة عن اللغة العربية، وفعلا كان قرأنهم المزور عربيا، وأداة تفاهمهم العربية. والمولى إدريس نفسه لم يبايع إلا لكونه جاء بدعوة عربية، ووجد أمة بربرية لها معرفة بالعربية تستطيع بها إدراك ما تبسط من التراكيب والمدلولات القولية.
طارق أثره في إيقاد جذوة الحماس وفتق الألسنة
قد علمنا تاريخيا أن القائد موسى بن نصير الوارد على المغرب بعد إحسان بن النعناع لسنة 87 هـ والذي جعل اللغة العربية رسمية بالمغرب اهتم اهتماما كبيرا بالزيادة في نشر الدين والعربية ورتب طائفة من العرب ليعلموا البربر القرآن وفرائض الإسلام وأدخل في حظيرة الإسلام والعروبة اصقاعا شاسعة بالمغرب الأقصى وجعل مولاه طارقا عليه حيث عاصمته عروس التراب المغربي طنجة البهجة الحلوة.
ونظم الجيش من العرب والبربر لغزو أوروبا، وجعل فيه جملة القرآن ثلاثمائة لتعليم العربية والدين وغير بعيد بطبيعة هذه الكثرة، أن يكون قد رتب في بقية المغرب أكثر من هذا العدد. وفي هذا العهد اصطبغ المغرب بالصبغة العربية، وتمكنت قدم العرب والعروبة بالمغرب وسار العرب والبربر جنبا لجنب نحو هدف شريف في مقدمته فتح الأندلس.
منذ هذا العهد القوي الخصب، والعرب والبربر يتداخلان ويمتزجان في المغرب والأندلس جميعا.
وهنا نقف غير ناسين أو متناسين كلمات القائد المغوار طارق بن زياد خصوصا خطبته الحاسمة التي أهابت برجاله وحفزت قواته المسلحة للاندفاع على الأسبان اندفاع اليائس من الحياة الطامح إلى الشهادة حتى هزموهم شر هزيمة ، ووالي القائد فتوحاته في أسبانيا، وقبض على (رود ريك) أخر ملوك الفيزيغوط بها قتله سنة 94 هـ ولا نذهب بعيدا إذا قلنا أن الفضل
دعوة الحق، س.2، ع4 /يناير 1959                                                                                ص 35
الوافر يعود لمغناطيس الخطاب السحري الحكيم الذي بقلوب جيشه الباسل كما أقام الدليل الناطق على دهاء القائد وحنكته الحربية ووعي الجيش البربري الذي كان ينيف عدده على الثمانية ألاف جندي بينما بقية الاثنى عشر ألف مقاتل من العرب، قال البطل طارق ـ وقتما شاهد قوة رود ريك المدهشة:
(أيها الناس أين المفر البحر من ورائكم والعدو أمامكم وليس لكم والله إلا الصدق والصبر ، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته وأقواته مرفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم إلى أن قال وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن أن سمحتم لأنفسكم بالموت، وإني لم أحذركم أمرا أنا عنه بنجوة ولا حملتكم على خطة أرخص متاع فيها النفوس أبدا بنفسي فما حملتكم فيه بأوفر من حظي إلى آخر الخطبة التي دلت على قوة طارق ودهائه الحربي المدهش مما أخضع الجيش ووجهه التوجيه النهائي نحو المضي في مقارعة العدو والصمود أمامه إلى آخر نفس أضف إلى هذه حيلته المدهشة الحاسمة التي قضت على كل أمل ورجاء يمكن أن يكونا بقيا في نفس الجند تجاه الحلم بالعود إلى العدوة المغربية ـ حيث أمر بحرق السفن الأربع التي أقلت جيشه إلى الجزيرة على ما قيل طائفة طائفة وجاء التصريح به في تاريخ مروان بن حيان حسب نقل صاحب النفح أثناء عرض قصة المعركة وإن كان في هذا العمل الجرئ ما فيه من عدة وجوه:
1)  ضياع قوة بحرية لها قيمتها في صيانة الثغور وإرهاب العدو المنازع إذ القوة البحرية لدى الأمم البحرية تعد كأحد جناحي طائر وهو في الواقع لا يستطيع التحليق بواحد.
2)  إن هذه السفن ليست ملكا لطارق على ما حدث بع بعض المؤرخين كابن حيان، وإنما هي مستعارة من منافس (رودريك) يليان النصراني ومن العبث أن يعمد الإنسان إلى مستعار لا بد له في ملكيته ويتصرف فيه لحد الإبادة والإحراق.
3)  من الممكن الجائز (لا قدر الله) أن يقع في صفوف القائد طارق ما يقع من دهش وانحلال يقضيان على معنوية الجيش في أثناء تلك الضائقة ـ التي قد لا يجد فيها منصا من الفرار والالتجاء إلى السفن رغبة في النجاة بأنفسهم من كارثة العدو المدجج حتى إذا أمكنتهم الفرصة بعد أعادوا الكرة من جديد ونالوا من العدو الغاشم ما تسمح لهم به شجاعتهم المألوفة، أما الإلقاء بالآف والآف المهج والأرواح ـ في أحضانه دون أن تجد متنفسا في الحومة فشيء بعد تهورا خورا قد لا تستسيغهما أراء الأكفاء من قواد الحروب ـ وإيطاليا في ميادين الوغى، أفلا تحتفظ بجل هذا الجيش أو نصفه على الأقل كنواة تبني على كاهلها قوة الآتي القريب خير من النغرير به إلى حد الفناء النهائي، وأتى لنا بتكوين أبطال مجربة من نوعه.
وهذا ما يجعلنا بعيدين عن الكنه والحقيقة إزاء هذا القيل الذي لا تساعد عليه خبرة القائد طارق بالحرب وخدعتها، وما يجب أن يتخذ فيها من احتياطات لا سيما في النفوس الغالية التي لا تسمح ولو بأبسط جندي يسقط في صفوفها رخيصا دون أن تراق له دماء ودماء.
ومن نوع هذه الريبة ما يقال في مدينة ـ طليطلة ـ الأندلسية التي فتحها طارق في جملة ما فتح من مدن الفردوس المفقود ـ إن الفاتح طارقا عثر فيها مائدة سليمان كما زعموا وإنها طوق ذهب وطوق فضة مكللة باللؤلؤ والياقوت، اللهم إلا إذا كان الجن قد نقلها من الشرق إلى الغرب ووضعها في جنة الأندلس حيث وجدت على هذا الزعم فشيء آخر لا نكاد نؤمن به حتى الساعة وإن صدق سواه من الآيات حسب النصوص الذي لا يقل الشك ولا يتطرق إليه النقد، والواقع أن هذه الإسرائيليات لم يعد لها محل من الثقة في نفس الشباب اليقظ الواعي فهي لديه من بقايا خرافة ومما يمت إليه بسبب في عالم الأفك والتضليل وما كان يحلم به قبل من أقوال مخدرة ـ كاتقد ولا تنتقد ـ وسلم للفارغة تنج من العامرة أنها فلسفة خائرة انطلت حيلها الصبيانية في أزمن غابرة على بسطاء وبسطاء وكفى.
لنعد إلى الخطاب القيم ـ الخطاب الذي برهن كذلك على قوة عارضة هذا القائد البربري المحنك والذي استطاع ببيانه السحري إقناع جيشه وتكوين منهم فرسان وأبطالا أمنوا كل الإيمان بمبدأ الاستماتة والانغمار في الساحة إلى النهاية، وطبعا كان هذا الجند الباسل يدرك مدلول ما احتواه الخطاب الحماسي العربي وهو ما هو علوا في البيان والروعة والسمو يجعلنا نؤمن بأن برابرة المغرب لذلكم العهد الإسلامي الفتى كان لهم إلمام واسع ومعرفة لا تقصر عن فهم أمثال هذا الخطاب الحربي البليغ الذي حول فزعهم تباتا وشجاعة، واضطرابهم يقينا وصمودا.
دعوة الحق، س.2، ع4 /يناير 1959                                                                                ص 36
ولا عجب أن تخلق منهم هذه المعرفة نخبة تستطيع مع الأيام أن تفتح لنفسها آفاقا واسعة في فن القول وبديع الكلام تمكنها من إنشاء الأساليب القومية، والتراكيب القوية المتمكنة سنة الكون في النوع البشري وخليقة لا تلبث أن تجعل من هذه الفئة جندا يقلد قواده ويساير أبطاله في كل ما يسمو به لاوج العز والسؤدد، وأقرب شيء يكون ميسورا لديه ـ أن يقوم ويقول خصوصا في الميدان العسكري وساحات ـ التدريب وحومات الوغى والتزال، بطبيعة هذا الجو المرهب يقع تجاوب بين رؤساء الفيالق ومسيري الفرق مع القائد الأكبر وطارق المغوار ـ علاوة على ما للمخالطة وفك قيود الانعزالية من تأثير على الألسن وانطلاقها في أسرع زمان للحديث باللسان الرسمي في الدولة والجاري في الأوساط الشعبية، والمستعمل في التخاطب العادي بين أفرادها على انتشار المقرئين والمعلمين آن ذاك يعد بحق من بواعث الاندفاع لتلقي اللغة العربية الجديدة ـ لغة القرآن الكريم ـ لغة الوحي والتنزيل.
وقد اشتد شوق الإخوان البرابرة وقوي شغفهم باللسان العربي الجديد ساعة ما آخذ القائد طارق يخاطب إخوانه قصيدته في الفتح حسبما نقله الأديب المقري في النفح عن المؤرخ الحجاري في كتابه المسهب وعن ابن اليسع في المغرب قائلا:
ركبنا سفينا بالمجـاز مقبــرا
على أن يكون الله منا قد اشترى
نفوسا وأموالا وأهـلا بجــنة
إذا ما أشبهينا الشيء فيها تيسرا
ولسنا نبالي كيف سألت نفوسـنا
إذا نحن أدركنا الذي كان أجدرا
رغم أن ابن سعيد تحدث حول هذه الأبيات ـ إنها مما يكتب لمراعاة قائلها ومكانته لا لعلو طبقتها فلنهمس إليه قائلين: إلا تكرر البيت الثالث مرددا معناه السامي في التضحية لتدرك مدى نفوس الأبطال وما تهدف إليه من سمو، وترمي إليه من عز وسؤدد يحلقان بها إلى عرعرة القمم ويرفرفان بها عالم الشهداء حيث موطن الكرامة والسعادة، وفي استطاعتنا أن نلتمس العذر للؤرخ ابن سعيد في قولته هذه التي لا أخال إلا أنه مدفوع إليها بسهولة التركيب وسلاسة الألفاظ البعيدة عن الوحشية والتقعر فكانت هذه حوافز جعلته يستسهل القطعة ويضعها في مصاف الشعر المراعي لقائله لا لروعته على أننا والحالة هذه لسنا بصدد تحليل الشطر والشطرين كي نستشرف على ما يمكن أن يتجلى فيهما من روعة ومتانة توحي بهما عبقرية الشاعر المبدع وتطلع بهما علينا شاعريته الرفيعة بل حسبنا أن نرى هذا اللون من الكلام المقفى، والأسلوب المتزن الجديد الذي لا تفتأ تقاطيعه الشعرية، ونبراته الغنائية ذات النوبات التفعيلية القارة تجتذب نفسية الأخ البربري، وتحرك شوقه الحار لهذا النوع الطريف من القول الحافز بهدوئه الموسيقي إلى الإصغاء بقلب واع، ونفس تواقة للنسج على منواله الهندسي الدقيق رافعا مكانها في مقام الكلام إلى أسمى ذروة في الوزن والتقفية.
وعلى عكس هذا الوتر نقرت هند صاحبة الحجاج إذا نقول:
وما نبالي إذا أرواحنا سلمـت
بما فقدناه من مال ومن نشـب
البيتين مجيبة الفتاك الثقي عن بيته:
(فإن تضحكي يا هند يا رب ليلة) إلى أخر القصة التي دار في حوارها تلكم الكلمة الذهبية المسكتة الحمد لله الذي أبدل درهمنا بدينار.
على أن هذا العكس له مقامه الماس ببساطه الخاص الذي لا يدع مجالا لتصويب النقد إليه، إذ الأدب تواق بطبعه للنظر والمخالف بالأحرى كأقرب شيء يكون خطورا بالبال.
وعفوا إذا سبح القلم بين الفنية والأخرى في خضم هذا النوع من البديع المعروف في فن القول الرقيق بالاستطراد الذي هو في مدلوله بمنزلة الفارس في المعركة يبدي لمبارزة أنه فر رجاء أن بكر.
وفي هذه اللحظة يتجلى الحسن بمعناه الجميل الذي يرعاه شاعر المعرة في قصيدته الرائية
يا ساهر البرق أيقظ راقد السمـر
لعل بالجزع أعوانا على السهـر
إلى أن يقول:
والحسن يظهر في شيئين رونقـه
بيت من الشعر أو بيت من الشعر
 دعوة الحق، س.2، ع4 /يناير 1959                                                                                ص 37
على أن ترقية المستوى العلمي والأدبي بعد تمركز العمران والاقتصاد والسياسة بالمغرب ـ لم يجدا مجالا للنمو والترعرع، ولم يتح لهما أن يجاري الأقطار الإسلامية الأخرى في النهضة والتجدد والأخذ بأسباب الحضارة والتمدين أخذا صحيحا لخطر الخوارج النازحين إليه من الشرق لاضطهادهم من جانب حكوماته حيث أنهم لم يجدوا مجالا فسيحا لترويح بدعمهم وبث دعايتهم، في أمن وأمان مثل المغرب.
وقد قاسى منهم الأمرين وذاق بسببهم من المحن والأهوال صنوفا وألونا حيث لعبوا دورا خطيرا في حوادثه السياسية، وأثاروا فتنا وحروب كان كل من العرب والبربر في غنى عنها ـ فبينما الإيمان متذبذب والشعور الديني أخذ بالضعف لبعد العهد بالهداة المرشدين أمثال عقبة وموسى.
الأدارسة واستقرار الإسلام واللغة العربية بالمغرب
وفيها الأقوال والخلافات المذهبية رائجة ونزعات الملحدين ووساوس أهل الضلالات متسربة إلى نفوس هذا الشعب البربري الضعيف الذي لا زال لم يستقم مزاجه ولم يتمخض فكره بالعقيدة الإسلامية الحق إذا بنور الأدارسة بشع على ربوع المغرب العزيز ـ ويشاهد استرسال هذا الحب وتتابعه في نفس الأخ البربري لحد القول ينمو ويتقدم ويأخذ إنشاؤه حظا من أوقات ابن الرسول ـ إدريس الأول قدس الله روحه فيقول في بهلول بن عبد الواحد المضغرى الذي كان خاصته المشايعين والمناصرين لخطته الإصلاحية والدينية عندما طفقت روابطه تنحل مع الدولة متزلفا لأغالبة  إفريقيا:
ابهلول  قد حملت نفسك خطة
تبدلت منها ضلة برشـــاد
أضلك إبراهيم مع بعـد داره
فأصبحت منقادا بغير قــياد
كأنك لم تسمع بمكر ابن اغلب
وقدما رمى بالكبد كل بــلاد
ومن دون ما منتك نفسك خاليا
ومناك إبراهيم شوك قتــاد
وإذ كان المولى إدريس يوطد دعائم الإسلام بهذا البلد العزيز، ويسعى في لم شتات فكرة التوحيد وتركيز أسس الديمقراطية، وبث مبادئها السامية في أبناء المغرب العربي ـ كان من دهائه الحاد وسهره على صيانة هذه ستارا لخفاء لانهيار الدولة، وشل حركتها البنائية إلا وسلط عليها مشرفيه البتار فأراداه لوقته.
وقد حدثنا التاريخ أن إدريس نور الله ضريحه حينما شعر إسحاق بن محمد الأوروبي ـ بالانحراف عنه وموالاة ابن الأغلب ـ بارد لقتله وبذلك صفت له الرقعة المغربية، وتمكن سلطانه فيها.
وغير خاف أن إبراهيم بن الأغلب كان قد دس لراشد مولى الفاتح الأكبر من قتله، وعلى الفور طير الخبر للرشيد يعرفه بخدعته ونصيحته قائلا:
ألم ترني بالكبد أرديت راشــدا
وأني بأخرى لابن إدريس راصد
تناوله عزمي على بعـد داره
بمحتومة قد هياتها المــكابد
فتاه أخو عك  بمقتل راشــد
وقد كنت فيه شاهدا وهو راقد
والعكي هذا هو ابن مقاتل العكي وإلى إفريقيا للرشيد.
كل هذا والمسلم البربري ـ يرى ويسمع من بين تفاعيل القريض وأراجيز الشعر وأشطار القافية الجذابة ـ ما يرهف حسه، وبلين طبعه ويحفزه للتأثر تحت نقرات الوزن، ودندنة الترتيلات الشعرية وقد ألبست حلة القوة المخبوءة وراء شاشة هذا العرض الذي كان ينطوي عليه ابن الأغلب من خداع وكيد أعربت عنهما القافية بهذا اللون من الأساليب الشعرية، وشيء من هذا القبيل هو بطبيعته المنسجمة دقة ورقة لا يعتم أن يسمعوا بمعنوية المستمع ويشحذ إحساسه المزدوج فينب وثبة المتفاني الولوع للتمرن على هذا الفن الرقيق من القول، ولا بدع أن نرى البطولة بين عشية وضحاها تتمركز في نفسه التواقة لخوض غمار المعامع والاستماتة في حومات المعارك وبالأخص إذا استمع إلى قول ابن الرسول الأنور يقول:
دعوة الحق، س.2، ع4 /يناير 1959                                                                                ص 38
أليس أبونا هاشم شــــد أزره
وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب
فلسنا نمل الحرب حـــتى تملنا
ولا نشتكي مما يئول إلى النصب
ولكننا أهـــل الحفائظ والنهي
إذا طار أرواح الكماة من الرعب
 هذه الأبيات الحماسية القوية لها سبب أدبي خاص عليه انبنت قافيتها المطبوعة بطابع الرجولة الفياضة المتركزة على أناة الطويل المتوالي النبرات الهادئة والمشعرة في نفس اللحظة باندفاع كل من المنشد والمستمع عن حساسية وشعور لمنازل الأحرار، ذلك أم داوود بن القاسم بن عبد الله بن جعفر الأوروبي (نسبة إلى قبيلة أوربة البربرية التي آوت المولى إدريس أول ما وطئت قدماه هذا التراب المغربي العزيز) ومنها ءايت أربل من قبائل الخميسات اليوم. الذين كانوا إلى عهد غير بعيد يشدون الرحلة إلى مواسم الفاتح السنوية متقدمين بهداياهم الفاخرة لأبنائه كذكرى من ذكريات مجدهم الأثيل المنحدر إلى أجدادهم الأول على يد الفاتح الأكبر قدس الله روحه.
قال شهدت مع إدريس ابن إدريس بعض غزواته للخوارج الصفرية من البربر فلقيناهم وهم ثلاثة أضعافنا فلما تقارب الجمعان ترجل إدريس فتوضا وصلى ركعتين ودعا الله تعالى ثم ركب فرسه وتقدم للقتال قال: فقاتلناهم قتالا شديدا، فكان إدريس يضرب في الجانب مرة ثم في الجانب الآخر فلم يزل كذلك حتى ارتفع النهار فرجع إلى رأيته فوقف بإزائها والناس يقاتلون بين يديه فقطفت انظر إليه وأديم الالتفات نحوه وهو تحت ظلال البنود يحرض الناس ويشجعهم، فأعجبني ما رأيت من شجاعته وقوة بأسه، فالتفت نحوي فقال يا داود ما لي أراك تديم النظر إلى؟
قلت أيها الإمام أنه أعجبني منك خصال لم أرها في غيرك قال وما هي يا داوود؟
قلت: أولها ما أراه من حسنك وجمالك، وثبات قلبك، ومن طلاقة وجهك، وما خصصت به البشر عند لقاء عدوك، قال: ذلك بركة جدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعائه لنا وصلاته علينا وأراثة أبينا على بن أبي طالب رضى الله عنه قلت أيها الإمام ـ أراك تبصق بصاقا مجتمعا وأنا أطلب الريق في فمي فلا أجده ـ قال يا داوود ذلك لاجتماع عقلي وثبات جاشي وعدم الريق من فيك لطيش لبك، وافتراق عقلك ولما خامرك من الرعب، قال فقلت أيها الإمام وأنا أيضا أتعجب من كثرة تقلبك في سرجك، وقلة قرارك في مواضعك قال: ذلك مني زعم للقتال وعزم وصرامة وهو أحسن في الحرب، فلا تظنه رعبا، وفي هذه اللحظة أنشأ يقول: أليس أبونا هاشم شد أزره الأبيات ـ فهذا التجاوب الإسلامي المكسو حلة صدق وصفاء بين خليفة المسلمين وفرد من أفراد رعيته المخلصين ليهدينا في وضوح إلى ـ ما لرجال الخلافة وملوك الإسلام في عهوده المشرقة من انطلاق وانشراح ولين في الوقوف جنبا لجنب تشخيصا لروح الديمقراطية الحق ذوبانا منهم وامتزاجا بالأوساط الشعبية دون أن يتبرموا أو يأنفوا أو يعرفوا للإستقراطية والميز مدلولا يحول دون اتصالهم برعاياهم الأوفياء.
ولا أدل على هذا المعنى الكامل (والتاريخ يعيد نفسه) ما أصبحنا نراه اليوم في جلالة عاهلنا المفدى البطل الأشوش مولانا محمد الخامس حفظه الله في رحمة الصغير، والعطف على الكبير، ومواساة المحتاج والمعوز في استرسال وتتابع. (الله عودك الجميل فقس ما قد مضى)
نعم لقد استفدنا من هذا العرض الذي أدلى به داوود الأوربي أن قائد المعركة وبطل الدولة إدريس عندما حان اللقاء تطهر وركع ركعتين ودعا ربه، ثم امتطى صهوة جواده واقتحم الساحة ضاربا مرة هنا وءاونة هناك غير غافل عن جنده الباسل وهو في وطيس المعمعة يستميت دون الانتصار الذي تستحلي الشهادة في ساحته المقدسة واعتباره الطاهر الذي تفتح فيه العين بصدر رحب، مخالفة لشرعة الأدباء القائلين:
عقدت سنابلها عليها عتيارا * لو تبتغي عنقا عليه لا مكنا
في هذا الجو القاتم، والظرف المتزاحم الحاسم ـ يذهب الإمام ويجيء تحت ظلال البنود، وخطوط الرماح يحرص ويشجع ـ والرجل الأوروبي يديم النظر إليه تباعا متعجبا من ثيابه وطلاقة وجهه الشيء الذي اضطر معه الخليفة لسؤاله عن ذلك فما كان من الأوروبي إلا أن صارحه شارحا له دوافع استغرابه وتعجبه .
دعوة الحق، س.2، ع4 /يناير 1959                                                                                ص 39
وكان هذا من المولى إدريس فتحا للباب في وجه الرجل البربري جعله يسترسل في الاستفهام بلسان عربي مبين عن كل ما لفت نظره من حالة الإمام وقوة جأشه، وخفة حركاته ومواصلة جولاته الحربية ميمنة وميسرة، وأمام وخلف وقلبا ـ قلت أيها الإمام : أراك تبصق بصاقا مجتمعا وأنا أطلب الريق في فمي فلا أجده، قال: يا داوود ذاك لاجتماع عقلي وثبات جأشي، وعدم الريق في فيك لطيش لبك، ولما خامرك من الرعب.
إنها لحقيقة ثابتة في النوع البشري كلما أصيب أودهاه مشكل، أو غمرته داهية في هذا المحيط الرهيب في مضيق هذا الفزع المساور يجف الريق وينقطع البصاق أن لم يغر نهائيا ويصبح الإنسان الفرق متبلعا كالشرق بريقه يبحث عن جرعة ماء يدفع بها غصته، وانحراف لهواته عن الطبيعة خورا وجبنا يمنى بهما كثير ممن لم يتلقوا دروسا في العرامة والبطولة، ولم يساعدهم الحظ بالتشبع بمبادئ التربية الوطنية التي تستطيع أن تبرز ما كمن في النفس من رجولة، واستبطن في خلاياها من نبل وقوة وإيمان وثبات ضمير وصمود أمام الخطوب والشدائد مكارم يمنحها الإنسان بالطبع والوراثة أو يكتسبها أحيانا بمثافنة أكفاء اشبعوا بروح التربية الصحيحة، وتلقفوا مبادئها المشرفة في معاهد التكوين الجسمي والخلقي المبنيان على تعاليم الإسلام وسننه التربوية الخالدة التي كم اعتنت بهذا المبدأ الإنساني،وأحاطته بمزيد الاعتبار والاكبار رغبة في تحبيبه إلى النفوس الواعية لما له من تأثير في تقدم المجموعة الإنسانية وانتصارها على المناوئين والأعداء.
وهذا ما تتابع واسترسل متسلسلا منذ حقب وأجيال بعيدة حتى عصرنا المائل حيث أصبحنا ولله الحمد وله المنة نلمسه في غير ميدان وقد ناصرنا الثبات، وحالفنا الفوز.
ومن شجاعة هذا الأوروبي الأدبية الشجاعة المشرية بروح البطولة التي أوحت بها طبيعة البساط مارئ عليه من تقدم نحو الإمام بسؤاله الجريء قائلا: أيها الإمام وأنا أيضا أتعجب من كثرة تقلبك في سرجك، وقلة قرارك في موضعك؟ قال : ذلك مني زعم للقتال، وعزم وصرامة وهو أحسن في الحرب فلا تظنه رعبا ثم أردف ذلك بالأبيات الآنفة الذكر.
هكذا قام البربري الصريح سائلا أمام الدولة ابن السول الأكرم دون أن يتهيبه أو يخشى سلطانه وقوته هذا السؤال العظيم الذي أوحي للإمام بعرض هذا الدرس الحربي الخطير الذي كان فيه توجيه وإرشاد لأبناء المغرب العربي الأباة الذين خلقوا مطبوعين على الشهامة والآباء، خلقوا ليكونوا أحرارا أعزاء يأبون الضيم والذل وينشدون بالتوس والطبع.
لا تقتني ماء لحــــياة بذلة
بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
 إن هذا الدرس من الإمام إدريس نور الله ضريحه ـ لمن ترسم خطاه، واستظل ببنوده، وطبق نقطه الحربية، ليعدل بدروس ودروس فنية بمدرسة لها مناهجها وتصميماتها السريعة التكوين ـ لما للبرامج العملية من فعالية وتأثيرات عاملة في النفوس الواعية ـ فمن هو يا ترى الرجل الذي كان منتظرا يهيب بنا لشرح تلك المعاني الحربية الدقيقة ووضعها مكان الهناء من النقب سوى الإمام إدريس الذي وجد مجالا فسيحا من وراء هذا السؤال الصريح المنبثق عن أمثال تلك الفوائد القيمة التي أرتنا شاشتها الحية الصادقة حتكة الإمام وتبريزه الخاص في فنون اللقاء وخطط الطعان والبراز علاوة على ما توفر عليه من شيم وأخلاق أرق في طيبها من عليل النسيم. ويمكننا أن نستروح من بين سطور هذه الكلمة الجمالية الصريحة ـ إن البربري رقيق الحس جمالي الطبع يتعمق صور الجمال ويحسها في دقة لحد التعبير عن خلجاته من آثار تأثيرها على نفسه وذوقه ظاهرة حلوة تضعه في صف أدباء النفس الشاعرين بجلالة الحسن وتقويمه التصويري في الجنس البشري على الخصوص ـ ولا نذهب بعيدا إذا ما تأيدت هذه الحقيقة، وساندها الواقع على لسان البربري الشعري إذ يقول:
أس اوا تربت ءابو لاربع أن نمون
تعربيه: هل تريد يا صاحب الربعات أن نتوافق
الشطر التاني: أك اسبغ ف الريشن والني
تعربيه: أحملك على أهداب العينين ـ وهو معنى رقيق جميل ينم عن حساسية فياضة بمعاني الكمال والجمال. ومن شرقات هذه الظاهرة الواعية نستنتج أنه كان لسكان هذا التراب العزيز لغتهم الخاصة المطبوعة بطابع الانسجام والأسلوب الحيين ـ التي قد تكون انحدرت إليهم من لغة (التوارك) الصحراويين
      دعوة الحق، س.2، ع4 /يناير 1959                                                                                ص 40
  ويساعدها التهذيب ما أحتك بها لغة الفنيقيين الذين اتصلوا بهم اتصالا اقتصاديا واجتماعيا وكان تأثير لسانهم كذلك حتى على الرومانيين واليونانيين.
وأصبح السكان البرابرة قادرين في قوة على التعبير عن حاجاتهم وكل ما تحتاج إليه ضمائرهم ويجول في أفكارهم من معان.
ولتستمع في الحكمة بلهجة شاعرهم يقول:
تان يزرين ف باب لعقل يرتنت
تعريبه: كل ما مر على صاحب العقل فليكتبه
الشطر الثاني: أي اسان مان أزمز اتشاطر ايتياض
تعريبه: لكي يعرف في أي وقت يتفطن لأخريات
وفيه إشارة إلى الحديث الشريف الذي بعد في جوامع كلمات الرسول الأعظم ولا يلذع المؤمن من حجر مرتين.
وكان الأخوان البرابرة يشتقون أسماءهم من لسانهم القومي أو ما دخل فيه من الألسن معتمدين على ما توحي به لهجاته الخاصة فمثلا نجد كلمة ـ يللبخت علما من الإعلام الواقع في أسماء أحد أجداد عيسى ابن عبد العزيز بن يللبخت البربري المراكشي المترجم في كتاب بغية الوعاة ومعناها ذو الحظ ـ والكلمة في الحقيقة معربة عن الفارسية بهذا المعنى (الحظ)
وتلك أمة كذلك المسماة (ثين لامان بنت تيفاوت) وتيفاوت علم يحمل في مدلوله الوضعي البربري معنى ـ الضوء ـ ميلا منهم لاختيار الكلمات الرفيعة الدالة على تفاؤلهم بالأسماء والألقاب، ونحن نعلم التوليد والاشتقاق مما لا يكاد يخفي أثره في الأسماء والأوضاع
وتوجد في لهجات البربر ـ ألفاظ ظاهرة المصدر العربي ككلمات الماء (أمان) والدم والحياة والموت والأب والأم والجد والعم والخال ـ وهذه كلها كلمات ضرورية في الحياة بل هي من أبرز مقومات اللغة في المجتمعات البشرية. ومنذ كان البرابرة وهم يستعملون هذه الألفاظ في مخاطباتهم اليومية إذ لا توجد في مختلف لهجاتهم كلمة يستعاض بها ذكر.
وأغرب ما في الأمر أن معظم الألفاظ العربية التي اندمجت في البربرية عريقة لا تكاد تستعمل كلفظة (أخف) التي معناها مقدم الرأس والتي استمدها البربر من كلمة يافوخ العربية وهناك لفظة أخرى تؤدي نفس المعنى وهي إقلال التي يرجع أصلها إلى لفظة قلة، ويستعمل البربر الآن كلمة اكزيم للدلالة على الفاس الذي يسمى بالعربية القلزم، وهذا يدلنا على أن تلك الألفاظ انتقلت إلى اللسان البربري في عهود سحيقة أيام كان استعمالها جاريا حتى الرعام والدهماء أي في عصور الجاهلية.
وهكذا كان هذا التفاعل الواقع بين الأمتين العربية والبربرية ـ يرمي بدواعيه للسهولة في التأثر العميق والتلاحم في الأخوة البربرية المغربية التي نراها كونت سرعة في عملية التعريب لمدة قصيرة.
تميم بن المعز: نعرض ترجمة هذه الشخصية اللامعة داخل إطار المتانة المكنية والورعة المعهودة في أطوار الأدب العربي بالمغرب وبلا شك نجد في شلك هذا الإطار الوضاء هذه الشخصية المشرقة شخصية تميم بن المعز الفاطمي ابن صاحب الديار المصرية والمغرب جميعا الذي كان من آثاره الخالدة بناء القاهرة المجزية، ربي هذا الأديب في أحضان التعيم يدرج بين الطروس والأقلام في جو ملئ كتابا وأدباء حلق في سمائه وجعل يقول ويبدع فحير الشعر الرقيق والجزل حنسى كان في طريقته وأهدافه أشبه بعبد الله بن المعتز الذي وقف ابن الرومي دونه، ولنستمع إليه في هذا البيت الجدير بأنه ينشد أمامه:
وإن أفضل بيت أنت قائله
بيت يقال إذا أنشدته صدقا
قال:
يا دهر ما اقساك من مــتلون
وعلى اللبيب الحر سيفا مرهفا
إنه لنموذج متوج حي في الشاعرية يهدي إلى مقدرة ابن المعز على القول، ورسوخه في بناء القافية ـ الرصينة وأحكام أفكارها المنسجمة في شمم وأباء قلما يتوفر عليهما الشعراء في مناحيهم الشعرية، ومذاهبهم الأدبية.
وها نرى من بين تفاعيل البيت عرضا وضربا ومحيطهما حقيقة قارة يلمسها كل أبي حر عانى من ألوان الدهر وتنكراته المرائر والآلام حتى كان هذا اللون
               
 دعوة الحق، س.2، ع4 /يناير 1959                                                                                ص 41
من القول محاسبة الدهر والتشكي من ويلاته القاسية حافزا للشعراء في الشرق والغرب لرفع عقيرتهم الحزينة في تبرم وتوجع بشتى الأساليب وألوان الكلام عساه يحن ويرحم عاطفا بتخفيف قسوته وتليين حدته رفتا بأباة الضيم وأحرار النفوس من أبناء البشرية المعذبة طول دقاته ولحظاته مما قل أن ينجو من أهواله ذو همة وشمم تأبى عليه نفسه الخضوع لقوانين لا تتفق وسنن الاجتماع الإنسانية، مما يخرج في بعض الظروف بالكتاب والشعراء الذين يلمسون ما سرى من ضعف للحقائق، وتسلط على القيم من هدم وإهانة مستبطنين أعماق الخلايا لحد التفوه باللغة الجارحة، والقول المقذع تصادما مع الدهر وما تجري به لحظاته الفاتنة بين الآونة والأخرى من خفض العالي، وإعلاء النازل وما إلى هذا من تصرفات شاذة وأحوال تمجها حتى الطبيعة محركة ما كمن من ألم الإحساس سوء وسخطا فيرفع الرأس جاهرا بقوله:
تبا لدهر قد أتانا بالعجــب
ومحا فنون العلـم والآداب
وأتى بكتاب لو انبسطت يدي
فيهم رددتهم إلى الكتــاب
هنا نرى هذا الشاعر يرفع عقيرته مسددا سهامه البذائية إلى الدهر منتقدا عليه اتباته العجب الغريب ومحو فنون العلم والآداب وخلقه كتابا بسطاء ليسوا في العبر ولا في النفير متمنيا لو تبسط يده فيهم وتمتد سلطته عليهم لأرجعهم على التوالي إلى الكتاب ـ فهم في نظره صبية ما كان احراهم بالعود إلى مقر الطفولة الأول ـ ليتهموا من معين أولياته التعليمية علهم يصلون في تطور وتدرج إلى ما استعجلوه اليوم متربعين على كراسي الآداب والفنون، وما هذا الفورة الثائرة منهم سوى ما يتزاحم في صدورهم من حرج، وسعود راكعة وأبي شاعريا أبو تميم إلا أن ينغمر في هذا الميدان العربي فيخاطب الدهر بدوره قائلا منه بلسان حاد على المألوف عند قدماء الشعراء فيصفه بالقسوة والشدة في تلونها غير هباب ولا وجل.
ونرى له الآن لونا أخر يعرب في وضوح عن تقعده وثبات قلبه ورسوخ إيمانه رافعا كل ما يمكن أن تذهب النفس إليه في شعره الأول قال:
أما والذي لا يملك الأمر غيـره
ومن هو بالسر المكتم أعلـــم
لئن كان كتمان المصائب مؤلمـا
لإعلانها عندي أشد وآلــــم
وبي كل ما يبكي العيون أقلــه
وإن كنت منه دائما أتبســـم
أبيات تنم قوافيها العامرة عن رجولة قوية. وشهامة عربية تبلورت معانيها المقدسة داخل أشطارها القريبة حيث لا تستطيع الخطوب والكوارث أن تثبت أمامها لما أودع فيها من سر، وتوفرت عليه من عزة وكرامة ـ فرغم القساوة التي تجلت في محيطات الرجل تجده متفتح القلب، باسم الثغر، منطلق الوجه أمام الدهر العاتي على رأيهم ـ وعلى وتيرة ما أسلفاه عنه الدهر العاتي على رأيهم ـ وعلى وتيرة ما أسلفاه عنه وما للأدباء والشعراء حوله من آراء تشتد آونة وتفتر أخرى.
وإن رجالا حبوا بهذه الخصائص وتوافروا على قيمها الغالية لهم أجدر قبل سواهم بالانضمام تحت لواء هذا الرعيل الأول من أبناء الإنسانية الحق الذين لا نظن زمرهم تتكون في مجموعها إن لم تقل جميعها من فير الشباب الواعي أو الكهولة المبكرة التي نرى أديبنا ابن المعز، لبي فيها داعي القدر والتحق بالرفيق الأعلى وهو ابن سبع وأربعين حجة سنة الله في الكون أن تجد المنايا سبيلا لإنشاب أظافرها بنجباء البشرية وأذكياء القلوب من الشباب الحي المشبوب القريحة مستعينة على اختطاف نفوسهم الزكية بلهيب غريزته وسيلان ذهنه، وتوقد فطرته عوامل لها أثرها الفعال على الشباب الموهوب في عمله والخلاق بحركاته وجهاده اللذين يذللان كل الصعوبات، ويمهدان أن السبيل رغم عقباتها الكاداء.
   





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق